خطبة عن (لا بد للحق من قوة تحميه)
يونيو 21, 2025خطبة عن (يُبتلى العبدُ ويُفتن لاختبار صدق وقوة إيمانه)
يونيو 21, 2025الخطبة الأولى (كَظْمُ الْغَيْظِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (134) آل عمران.
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)، فكَظْمُ الْغَيْظِ خلق عظيم ،وهو من مكارم الأخلاق، ويؤدي إلى فوائد وثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة، وقد وجه الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين لضرورة التحلي بالصبر، وكظم الغيظ، بل، والدفع بالتي هي أحسن، قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (96) المؤمنون، وقال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (34): (36) فصلت، وقال الطِّيبي: (وإنَّما حُمِد الكَظْم؛ لأنَّه قَهْر للنَّفس الأمَّارة بالسُّوء، ولذلك مدحهم الله تعالى- بقوله: “وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ” [آل عمران:134] ومن نهى النَّفس عن هواه، فإنَّ الجنَّة مأواه، والحور العين جزاؤه، قلت: وهذا الثَّناء الجميل، والجزاء الجزيل، إذا ترتَّب على مجرَّد كَظْم الغَيْظ، فكيف إذا انضَمَّ العَفو إليه، أو زاد بالإحسان عليه)،
فلا يخفى على عاقل ما لكظم الغيظ فوائد عظيمة، وثمرات متعددة، وأعلاها: نيل رضا الله سبحانه تعالى، ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة، كما أن له دورا كبيرا في حفظ العلاقات الإنسانية، وقد وردت أدلة من الكتاب والسنة، تبين ما لهذا الخلق الكريم من مكانة رفيعة في ديننا، وذلك أن كظم الغيظ من أصعب الأخلاق تطبيقا على أرض الواقع، فصاحبه يمتلك قدرا كبيرا من الإيمان والتوفيق، لأن النفس بطبعها تغضب، وتريد أن ترد الصاع صاعين، وترفض من يهاجمها ويستفزها، ولكن المؤمن الصادق، يستشعر في كل وقت وحين مراقبة الله عز وجل، ويتصرف وفق مراد الله سبحانه، لا على هواه، وهو يتبع الكتاب والسنة، ويقتدي بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتفي أثره في تملك النفس، وضبطها والتحكم في نزواتها ،وقد مدح الله تعالى الكاظمين الغيظ في كتابه الكريم، فقال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (ال عمران:133-134). فكاظم الغيظ يقهر نفسه، ويخزي شيطانه، ويرضي ربه، فالقوي من تحكم في قوة الغضب، وشهوتي التشفي والانتقام؛ فضبط تصرفاته، وأمسك لسانه، وتحكم في جوارحه عن البطش ،وقلبه عن الحقد، والغل والحسد، فسلم ونجا من الوقوع في مستنقع الذنوب والمعاصي، وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»، وفي سنن ابن ماجه ومسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ».
أيها المسلمون
وكظم الغيظ كان خلقا من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً – قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ – ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)، وفي الصحيحين: (أَنَّ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – زَوْجَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ « لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، وفي الصحيحين: (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ، تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَهْوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِى الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ حَتَّى مَرَّ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَفِى الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا. فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ لاَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلاَ تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ «أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ». يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاصْفَحْ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم)، وفي صحيح البخاري: (أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنهما – أَخْبَرَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهْوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا». فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى فَقُلْتُ «اللَّهُ». ثَلاَثًا وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ).
أيها المسلمون
إن الشيطان يحرص دائماً (وخاصة عند المنازعات والخصومات) يحرص على أن يثير غيظ ابن آدم وغضبه؛ لأن ذلك يُسَهِّل سيطرته عليهم، ويدفعهم بذلك إلى شرورٍ غير متوقعة، وإبليس (عليه اللعنة) يعرف ذلك عن آدم (عليه السلام) وذريته، منذ بداية الخليقة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَمَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ، عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لاَ يَتَمَالَكُ) رواه مسلم.
لذلك كان لكظم الغيظ فوائد وثمرات: فمنها: نيَلُ مَغفِرةِ اللهِ وجَنَّتِه: قال اللهُ تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) [آل عمران:133-134]،ومنها: عِظمُ الأجرِ: ففي سنن ابن ماجه: (عن ابنِ عُمَرَ قال: قال رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ما مِن جُرعةٍ أعظَمَ أجرًا عندَ اللهِ مِن جُرعةِ غَيظٍ كَظمَها عَبدٌ ابتِغاءَ وَجهِ اللهِ)، ومنها: خُضوعُ العَدوِّ وتَعظيمُه للذي يكظِمُ غَيظَه: فعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما في قَولِه تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون:96]، قال: الصَّبرُ عندَ الغَضَبِ، والعَفوُ عندَ الإساءةِ، فإذا فعَلوا عَظَّمهم عَدوُّهم، وخَضَعَ لهم. ومن فوائد كظم الغيظ :دَلالةُ قَهرِ الغَضَبِ به على الشِّدَّةِ النَّافِعةِ، ففي صَّحيحِ البخاري: (عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشَّديدُ بالصُّرَعةِ، إنَّما الشَّديدُ الذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضَبِ)، ومنها: التَّغَلُّبُ على الشَّيطانِ: فعن أنَسٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقَومٍ يصطَرِعونَ، فقال: (ما هذا؟ فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، فُلانٌ الصَّريعُ، لا ينتَدِبُ له أحَدٌ إلَّا صَرَعَه! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا أدُلُّكم على مَن هو أشَدُّ منه؟ رَجُلٌ ظَلمَه رَجُلٌ، فكَظمَ غَيظَه فغَلَبَه، وغَلَبَ شَيطانَه، وغَلَبَ شَيطانَ صاحِبِهـ)، ومنها: أنه يُعينُ على تركِ الغَضَبِ: قال ابنُ حَجَرٍ: (استِحضارُ ما جاءَ في كَظمِ الغَيظِ مِن الفَضلِ يُعينُ على تَركِ الغَضَبِ). ومنها: أنه سَبَبٌ في دَفعِ الإساءةِ بالإحسانِ، والمَكروهِ بالمَعروفِ، والقَهرِ باللُّطفِ: قال اللهُ تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34-35]. ومنها: أنه يَعصِمُ المَرءَ مِن التَّصَرُّفاتِ التي لا تنبغي، ويقيه مِن النَّدَمِ. ويُعينُ على مُجاهَدةِ النَّفسِ ويُدَرِّبُها على الصَّبرِ والحِلمِ ومَكارِمِ الأخلاقِ. ومنها: أنه مِن أسبابِ شُيوعِ المَحَبَّةِ والإخاءِ والأُلفةِ بَينَ النَّاسِ.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (كَظْمُ الْغَيْظِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإذا كان كظم الغيظ بهذه المنزلة، وتلك المكانة من الدين، فكيف يتمكن المسلم من كظم غيظه؟، وما هي الوسائل المعينة على ذلك؟، والجواب: من الوسائل المعينة على كظم الغيظ: التيقن والتسليم بأننا في دار الاختبار والابتلاء، ولا بد من تعرضنا للأذى والظلم، حتى يميز الله الخبيث من الطيب، والصادق من المدعي، يقول الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 2-3). ومنها: استحضار الهدف من الوجود، والغاية السامية التي يجب أن نتوق إليها، فالغاية الله، والمقصود الله، فقد خلقنا للعبادة، والاستخلاف في الأرض، فلا نضيع وقتنا في الرد والجدال والمعاتبة، بل نغفر ونعفو ونصفح، لننال عفو الله ورضاه، ومن الوسائل المعينة على كظم الغيظ: الاستعانة بالدعاء، خصوصا في الأوقات الفاضلة، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الكاظمين للغيظ والعافين عن الناس، ومن الوسائل المعينة على كظم الغيظ: صحبة الأخيار، فالصاحب ساحب، ففي سنن أبي داود والترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ». ومن الوسائل المعينة على كظم الغيظ: الاستعاذة، والوضوء عند الغضب، ففي الصحيحين: (قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». فَقَالُوا لِلرَّجُلِ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ)، وفي سنن أبي داود ومسند أحمد: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ». ومن الوسائل المعينة على كظم الغيظ: التزام الصمت بعد التعرض لما يثير الغضب في النفس، فالتسرع بالرد، والدفاع عن النفس، والانتصار لها، قد يوقعنا في الخطإ، وفي مسند أحمد: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ». ومنها: تغيير الوضعية، ففي سنن أبي داود ومسند أحمد: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَنَا «إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلاَّ فَلْيَضْطَجِعْ». من الوسائل المعينة على كَظْم الغَيْظ: أن يتذكر المرء الأجر المترتِّب على كَظْم الغَيْظ، والعفو عن المخطئين، ويستشعر أنَّه بذلك يطلب الأجر والثَّواب من عند الله تبارك وتعالى. كما أنَّ رحمة المخطئ والشَّفقة عليه داعيةٌ لكَظْم الغَيْظ، وإخماد نار الغَضَب، وهذا السَّبب قد بيَّنه القرآن الكريم، حيث قال الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ” [آل عمران:159]. ومن الأسباب كذلك: أن يربِّي المؤمن نفسه على سعة الصَّدر، فإنَّ سعة الصَّدر تحمل الإنسان على الصَّبر في حال الغَضَب، والعفو عند المقدرة، قال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [الشُّورى:43].
أيها المسلمون
وعلى هذه الأخلاق النبيلة تربى السلف الصالح رضي الله عنهم: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “من اتقى الله لم يشفِ غيظهُ، ومن خاف الله لم يفعل ما يُريدُ، ولولا يومُ القيامة لكان غير ما ترون”. وفي صحيح البخاري: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ – رضب الله عنهما – قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِب هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ فَقَالَ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ – صلى الله عليه وسلم (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ)،
الدعاء