خطبة عن: الشفاعة وقوله (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا)
نوفمبر 9, 2019خطبة عن حديث (مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السَّلاَطِينِ افْتُتِنَ)
نوفمبر 9, 2019الخطبة الأولى ( إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه بسند حسنه : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ » ، وروى النسائي :(عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ : « كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ».
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله مع هذا الحديث النبوي الكريم ، والذي يبين لنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أعظم الجهاد ، وأفضل الجهاد : « (كَلِمَةَ عَدْلٍ) أو(كَلِمَةُ حَقٍّ ) عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» ، والمراد بالكلمة :ما أفاد أمرا بمعروف ،أو نهيا عن منكر ،من لفظ ،أو ما في معناه ،ككتابة ونحوها ، ومن المعلوم أن للسلطان بطانتان : بطانة السوء ، وبطانة الخير : أما بطانة السوء : فهي تنظر ماذا يريد السلطان ، ثم تزينه له ،وتقول هذا هو الحق ،هذا هو الطيب ،وأحسنت وأوفدت ،ولو كان ظلماً ،فهؤلاء طبقة المنافقين ،التي تنافق السلطان طلبا للدنيا ، أما بطانة الحق : فإنها تنظر ما يرضى الله ورسوله ،وتدل الحاكم عليه ، فهذه هي البطانة الحسنة ،والمقصودة بالوقوف لقول كلمة الحق عند السلطان الظالم ،سواء كان ذلك بالكلام ،أو بالخطاب، وعدم طاعة السلاطين في معصية الله ،بحيث تكون من حاشيته الطيبة ،التي تناصحه و تأمره بالمعروف ، ولا تسكت عن الحق ، ولا تنافقه ، فهي كلمة حق تقولها و لا تخشى أحدا إلا الله ، وهذه الكلمة تكون أيضاً لكل سلطان جائر بمعنى : المدير في العمل – الرئيس – الوزير – فأي شخص في منصب فوقك لا ينبغي أن تنافقه ،ولو نصحته لا تخشى إلا الله ، فهذا جهاد في سبيل الله .
أيها المسلمون
والسؤال : متى يقول المسلم كلمة الحق عند السلطان الجائر الظلم ؟ . ومتى لا يقولها ؟ ، يقول العلماء : إن قواعد الشرع كلها توجب أن لا يقع تعريض النفس للقتل إلا دفاعا عن الدين ،والحرمات ، أو أن يكون دافعا مفسدةً أعظم من مفسدة القتل . فلا يجوز أن يعرض المؤمن نفسه للقتل بلا منفعة تعود على الدين ، وعلى الدفع عن الحرمات ، فهذه مفسدة بلا أي مصلحة لا يجيزها نقلٌ ولا عقل . ومن احتج بظاهر هذا الحديث ملغيا بقية نصوص الشرع التي تفسره وتشرحه ، فهو يظن نفسه قد تمسك بحجة من السنة ، ويحسب أنه قد انتصر لرأيه بحديث نبوي ، ولكنه قد ردّ بذلك وعارض آياتٍ وأحاديثَ ومحكماتٍ للشرع ، تدل على خلاف فهمه وضدّ استدلاله ! ، فقد ذكر الإمام محمد بن جرير الطبري مسألة الإنكار على الأمراء علانية ، وهل هو سنة ؟ وذكر حديث (أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ أَلاَ إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ » رواه احمد. ثم نقل خلافا بين السلف في ذلك ، فذكر لهم ثلاثة مواقف : الأول : ونقله عن عبدالله بن مسعود وابن عباس وحذيفة وأسامة بن زيد رضي الله عنهم : أن كلمة الحق عند سلطان جائر تكون أفضل الجهاد إذا أمن المنكِرُ على نفسه القتل ، أو أن يلحقه من البلاء ما لا قبل له به .ونقل عن التابعي العابد الجليل مطرف بن عبد الله الشِّخِّير أنه قال : (والله لو لم يكن لي دين ، حتى أقوم إلى رجل معه ألف سيف ، فأنبذ إليه كلمة ، فيقتلنى : إن ديني إذن لضيق)) !! وهي عبارة معبرة ! والمذهب الثاني : ونقله عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما أوجبا على من رأى منكرا أن ينكره علانية ، ولكن من المعلوم أنهما ( رضي الله عنهما) قد قالا ذلك في زمنهما ، وكان أحدهما خليفة راشدا ، والآخر مات في زمن خليفة راشد ( عثمان بن عفان ) رضي الله عنهم أجمعين ، فلم يكونا يتحدثان عن كلمة الحق عند السلطان الظالم ، ولا عن الإنكار على الأمراء الظلمة . والثالث : أن الإنكار عند الأمراء الظلمة يكفي فيه إنكار القلب ، واحتج أصحاب هذا القول بأحاديث صحيحة ، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِىَ وَتَابَعَ ». قَالُوا أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ قَالَ « لاَ مَا صَلَّوْا ». ثم رجح ابن جرير : أن الواجب هو الإنكار ؛ إلا إذا خاف على نفسه عقوبة لا قبل له بها . لم يطلق القول بالوجوب ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي بسند حسنه : (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ ».قَالُوا وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ. قَالَ « يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُ » ، ونقل كلام ابن جرير هذا عدد من أهل العلم : كابن بطال في شرحه البخاري ،ونقله مختصرا ابن حجر في الفتح . وبغض النظر في تفاصيل هذا الاختلاف ، فإن الصحيح في فهم هذا الحديث : ( كلمة حق عند سلطان جائر )، هو أن (المنكِر) : إما أن يكون قائل الحق عند السلطان الجائر آمنا على نفسه : فهذا سيكون فعله صحيحا ، بل واجبا عليه . وإما أن يكون غير آمن على نفسه ، وله حالتان : الأولى : إما أن يكون قتله أو أذاه سوف يعود على الدين بالعزة والنصر ، فهذا هو الذي يُشرع له ذلك ، إذا كان يقدر عليه ويصبر عليه ، واجتهاده يجب أن يقوم على تقدير أعظم المفسدتين ، وتقديم أخفهما . والثانية : وإما أن إنكاره لن يعود على الدين بنفع ، بل ربما أدى قوله الحق إلى جر مفاسد عظيمة على الدين ، فهذا لا يكون مشروعا ، ويحرم تعمده ، مع العلم بنتائجه ! ، إذن ينحصر معنى الحديث فيمن قال الحق وهو يتوقع الأذى بالقتل وغيره ، وهو قادر على تحمل هذا الابتلاء ، إذا كان يعلم أن مفسدة قتله ،أو أذاه ،ستؤدي إلى مصلحة إعزازٍ للدين ، بتغيير المنكر، أو بغير ذلك من صور إعزاز الدين ونصرته ، كما حصل مع غلام أصحاب الأخدود ، الذي كان قتله نشرا للدين ونصرا له ، فله ذلك . أما إذا كان يعلم أن سوف يُقتل بلا أي مصلحة ، كأن يُقتل سرا ، فلا يزيل منكرا ، ولا يعزّ للدين راية ، فهذا فساد ،بإزهاق نفس بلا فائدة ! فكيف إذا ترتب على كلمته مفاسد على الدين وأهله ؟! ، هذا هو فقه هذا الحديث مع بقية نصوص الشرع ، لا فقه السطحيين الذين لا يعرفون إلا الاستدلال المجتزأ والفهم العجِل والظاهرية الهوجاء !
أيها المسلمون
ويجب أن يعرف المسلم أن عذر الشارع في عدم النهي عن المنكر إذا خاف الإنسان على نفسه رخصة، وأما طريقة العزيمة والفضل فهو أن يقدم الإنسان نفسه وما يملك من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، دون أن يتراجع عن كلمة الحق مهما كلفته؛ لأن الشارع رغب في ذلك. وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنه تصيب أمتي في آخر الزمان من سلطانهم شدائد لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله فجاهد عليه بلسانه ويده وقلبه فذلك الذي سبقت له السوابق، ورجل عرف دين الله فصدق به، ورجل عرف دين الله فسكت عليه، فإن رأى من يعمل الخير أحبه عليه وإن رأى من يعمل بباطل أبغضه عليه فذلك ينجو على إبطانه كله) مرقاة المفاتيح ، ويقول العلماء : لا شك أن التضحية بالنفس والنفيس في سبيل الجهر بكلمة الحق ليست بأمر سهل ترغب فيه النفوس فهي تطلب حباً قوياً وإخلاصاً عميقاً، وعزيمة صادقة وهمة بعيدة. ولكن مما لا شك فيه أيضاً أن أصحاب العزيمة وأهل الإخلاص هم أرفعهم عند الله درجة وأعلاهم مكانة.
وهذه الأمة التي ألقى الله على كواهلها مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي عليها أن تصلح أمرها بنفسها لها تاريخ مشرق مجيد في الصدق والجرأة والشهامة والصدع بالحق، ولئن وجدت فيه من سكت عن المنكر وما قوي على إظهار المعروف لضعف إيمانه، فلا تستقل عدد أولي العزم وأصحاب الهمم الذين تصدوا للباطل وشهدوا بالحق في ظلال السيوف وذلك هو الذي ما زال يضمن للأمة، حياتها وبقاءها وإن فقدت كافة الأمة يوماً هذه الروح – روح التضحية والفداء والتفاني- كان أشأم يوم في تاريخها وانقطعت عنها رحمة الله ولم يحل بينها وبين هلاكها شيء وسقطت في الدرك الأسفل إلى هاوية الانحطاط ، وفي المسند عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- في حديثه الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ أَلاَ إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ». فهذه الأحاديث وغيرها تفيد أن الإنسان مأجور عندما يصدع بكلمة الحق ويأمر وينهى، ولو أدى ذلك إلى هلاكه وتعذيبه؛ لأن نتيجة الكلمة الصادقة عند السلطان الجائر معروفة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وقد يكون الأمر والنهي واجباً ولو خاف على نفسه الهلاك، وذلك إذا كان يترتب على ذلك هداية طائفة من الناس إذا قال كلمة الحق، أو ضلالهم إذا سكت. فهنا يجب عليه أن يقول كلمة الحق ولو أدى ذلك إلى قتله ، والدليل على ذلك قصة الغلام مع الملك وفيها: (فَقَالَ الْغُلاَمُ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لاَ تَقْتُلُنِي حَتَّى تَصْلُبَنِي وَتَرْمِيَنِي وَتَقُولَ إِذَا رَمَيْتَنِي بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ هَذَا الْغُلاَمِ. قَالَ فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ ثُمَّ رَمَاهُ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ هَذَا الْغُلاَمِ. قَالَ فَوَضَعَ الْغُلاَمُ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ حِينَ رُمِىَ ثُمَّ مَاتَ. فَقَالَ أُنَاسٌ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلاَمُ عِلْمًا مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هَذَا الْغُلاَمِ. ) رواه الترمذي وغيره ،فهذا الغلام ضحى بنفسه لعلمه أنه سيهتدي بعده آلاف الناس ، وكذا قصة الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- المشهورة. حيث ثبت على قوله الحق في أن القرآن منزل غير مخلوق لعلمه أن الناس سيقتدون به، ولو قال إنه مخلوق تورية لضل بذلك خلق كثير.
ومن مواقف السلف الصالح في قول الحق عند السلطان الجائر ما يأتي : لما فتح عبد الله بن علي العباس دمشق، قتل في ساعة واحدة ستة وثلاثين ألفاً من المسلمين، وأدخل بغاله وخيوله في المسجد الأموي الجامع الكبير، ثم جلس للناس وقال للوزراء: هل يعارضني أحد؟ قالوا: لا. قال: هل ترون أحداً سوف يعترض عليّ؟ ، قالوا: إن كان فـالأوزاعي – والأوزاعي محدّث فحل، أمير المؤمنين في الحديث، أبو عمرو، كان زاهداً عابداً، من رواة البخاري ومسلم – قال: فأتوني به، فذهب الجنود للأوزاعي فما تحرك من مكانه، قالوا: يُريدك عبد الله بن علي، قال: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، انتظروني قليلاً، فذهب فاغتسل، ولبس أكفانه تحت الثياب؛ لأنه يعرف أن المسألة موت أحمر، وقتل ودماء. ثم قال لنفسه: الآن آن لك يا أوزاعي أن تقول كلمة الحق، لا تخشى في الله لومة لائم. فدخل على هذا السلطان الجبار. قال الأوزاعي وهو يصف القصة: فدخلت فإذا أساطين من الجنود -صفَّان-،قد سلُّوا السيوف، فدخلت من تحت السيوف؛ حتى بلغت إليه، وقد جلس على سرير، وبيده خيزران، وقد انعقد جبينه عقدة من الغضب، قال: فلما رأيته، والله الذي لا إله إلا هو؛ كأنه أمامي ذباب.. ، قال: فما تذكرت أحداً لا أهلاً، ولا مالاً، ولا زوجة، وإنما تذكرت عرش الرحمن إذا برز للناس يوم الحساب، قال: فرفع بصره وبه غضب عليّ ما الله به عليم، قال: يا أوزاعي، ما تقول في الدماء التي أرقناها وأهرقناها؟ قال الأوزاعي: حدّثنا فلان، قال: حدثنا ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّاني، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» فإن كان من قتلتهم من هؤلاء فقد أصبت، وإن لم يكونوا منهم فدماؤهم في عنقك. قال: فنكتَ بالخيزران ورفعت عمامتي أنتظر السيف، ورأيت الوزراء يستجمعون ثيابهم ويرفعونها عن الدم. قال: وما رأيك في الأموال التي أخذناها؟ قال الأوزاعي: إن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب!! قال: خذ هذه البدرة – كيس مملوء من الذهب – قال الأوزاعي: لا أريد المال، قال: فغمزني أحد الوزراء، يعني خذها، لأنه يريد أدنى علة ليقتل، قال: فأخذ الكيس ووزَّعه على الجنود وهو يخرج، حتى بقي الكيس فارغاً، فرمى به وخرج، فلما خرج قال: “حسبنا الله ونعم الوكيل، قلناها يوم دخلنا وقلناها يوم خرجنا” (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:174].
ويقول طاوس بن كيسان – وهو من تلاميذ ابن عباس الأخيار الأطهار، وهو من رواة البخاري ومسلم – يقول: “دخلت الحرم لأعتمر، قال: فلما أديت العمرة جلست عند المقام بعد أن صليت ركعتين، فالتفتُ إلى الناس وإلى البيت، فإذا بجلبة الناس والسلاح.. والسيوف.. والدرق.. والحراب.. فالتفتُّ فإذا هو الحجاج بن يوسف،. يقول طاوس: فرأيت الحراب فجلست مكاني، وبينما أنا جالس إذا برجل من أهل اليمن فقير زاهد عابد، أقبل فطاف بالبيت؛ ثم جاء ليصلي ركعتين، فتعلّق ثوبه بحربة من حراب جنود الحجاج، فوقعت الحربة على الحجاج، فاستوقفه الحجاج، وقال له: من أنت؟ ، قال: مسلم. قال: من أين أنت؟ قال: من اليمن، قال: كيف أخي عندكم؟ [يعني أخاه الظالم مثله، واسمه محمد بن يوسف]، قال الرجل: تركته سميناً بديناً بطيناً، قال الحجاج: ما سألتك عن صحته، لكن عن عدله؟ قال: تركته غشوماً ظلوماً، قال: أما تدري أنه أخي؟ قال الرجل: فمن أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟ ، قال طاوس : فما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت، قال: فأفلته الحجاج وتركه.
الدعاء