خطبة عن (لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
يونيو 21, 2025خطبة عن (كَظْمُ الْغَيْظِ)
يونيو 21, 2025الخطبة الأولى (لا بد للحق من قوة تحميه)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد:25).
إخوة الإسلام
إن المتدبر لهذه الآية الكريمة من كتاب الله العزيز، يتبين له: أن الله سبحانه وتعالى: أرسل الرسل بالبينات، والحجج الواضحات، والبراهين الساطعات، التي يوضح الله بها الحق، ويدفع بها الباطل، وأنزل مع الرسل الكتاب، الذي فيه البيان، والهدى والإيضاح، وأنزل معهم الميزان، وهو العدل الذي يُنصف به المظلوم من الظالم، ويُقام به الحق، ويُنشر به الهدى، ويُعامل الناس على ضوئه بالحق والقسط، وأنزل الحديد فيه بأس شديد، وفيه قوة وردع ، وزجر لمن خالف الحق، فالحديد لمن لم تنفع فيه الحجة، ولمن لم تؤثر فيه البينة، فهو الملزم بالحق، وهو القامع للباطل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد، لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم الله من ينصره ورسله، ولهذا كان قوام الدين: (بكتاب يهدي، وسيف ينصر)، قال تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]،
وفي قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ): فيه إشارة إلى أن الحق بحاجة إلى قوة لتحميه، قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؟)، فالله تعالى يمنع بالسلطان من اقتراف المحارم، أكثر مما يمنع بالقرآن؛ فقيام الناس بالقسط إنما يكون بالبأس والقوة، فالناس لا ترعوي إلا بالقوة، لذلك قال تعالى: (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)، لأن الحق لا يقوم من نفسه، إذا لم تكن هنالك قوة تحميه وتحفظه، وأفاد وصف البأس بالشديد: أن البأس درجات، كما أن الحرب درجات، والردع درجات، فليست كلها على درجة واحدة،
وفي قول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): (قوام الدين: كتاب يهدي، وسيف ينصر)، فيه بيان أن العلاقة بين الكتاب (القرآن)، والسيف (القوة)، هي علاقة تكامُلية، لا يُمكن أن يقدم أحدهما دون الآخر، فالكتاب دون السيف مُستباح، والسيف دون الكتاب ملامة، وهذه الجملة (كتاب يحكم، وسيف يحمي وينصر) تعني أيضا: أن الدين (الكتاب) هو الذي يحكم بين الناس، وهو الذي يحدد ما هو حق، وما هو باطل، وأن القوة (السيف) هي التي تحمي الدين وأهله من الظلم والعدوان، وأن الكتاب وحده دون السيف معرض للاعتداء، وأن السيف وحده دون الكتاب قد يصبح أداة للظلم والعدوان، والمصحف بلا سيف يحميه، يتجرأ على قداسته الفجار والدهماء والصبيان،
وقوله: (قوام الدين: كتاب يهدي، وسيف ينصر): فهذه العبارة تعني أيضا: أنه كما للباطل قوة تُطغيه، فلابد للحق من قوة تحميه من طغيان الباطل وأهله، ولهذا أمر الله تعالى- بإعداد القوة لإرهاب الباطل، وأمر الله أهل الحق بالجهاد في سبيل الله، بالمال والنفس والكلمة، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ) [الأنفال:39]. وهذه هي سنة الله في التدافع بين الحق والباطل، فسنة الله في نصر المؤمنين (أهل الحق) على أهل الباطل، إنما تتحقق إذا هيَّأ المؤمنون في أنفسهم ومجتمعاتهم عوامل النصر، التي أرشد القرآن الكريم إليها، وأمر الله -تعالى- بها، وأبعدوا عن أنفسهم ومجتمعاتهم عوامل الفشل ومعوقات النصر.
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بمسبحة وسواك, وقال: يا أيها الناس: قولوا: (لا إله إلا الله)، فلو قال هذا وسكت, لاعترضه الجاهلون والمفسدون في أول الطريق، ولكنه صلى الله عليه وسلم حمل المصحف في يد، والسيف في يده الأخرى، وأعلن على المنبر حالة الاستنفار والجهاد, وعقد الرايات (لخالد بن الوليد، ولعكرمة بن أبي جهل، ولغيرهم كثير)، من أجل أن ترتفع لا إله إلا الله بالقوة،
ومن القصص التي تبين أن الحق يحتاج إلى قوة تحميه: يقولون: (كان هناك أعرابي، ذهب بامرأته يحج بها، فلما أصبح يطوف بالبيت، عرض فاسق ينظر إلى امرأته، قال الأعرابي: لا تنظر إلى المرأة، اتق الله! قال: وما بي من بأس أن أنظر لامرأتك، هل آكلها بعيني، قال: لا تنظر إليها، قال: والله لأنظرنّ إليها، قال: انتظر قليلاً, فخرج من الحرم، وأتى بسيف من الجراب، وقال: يا عدو الله، والذي لا إله إلا هو، إن نظرت إليها ثانية لأقتلنك، فنكس الرجل رأسه وذهب)،
أيها المسلمون
فلا يخفى عليكم ولا على ذي عينين: أن الكفر في هذا الزمان قد حشد جمعه، وجمع حشده كله في ساحة الإسلام، وتعاضد الكفر الخارجي مع النفاق الداخلي على أهل الإيمان، والدرع الواقي، والدواء الشافي من ذلك، أن نعمل جميعا في إقامة دين الله، وإقامة الدين لا تتم إلا بمجابهة أخطار الخارج، وتقويم انحراف الداخل، فكونوا أنصار الله، وسارعوا في رد كيد الأعداء من الكفار والمنافقين، فأنت (أخي المسلم وأختي المسلمة) قادر على أن تفعل للإسلام الكثير، مهما قل علمك، وضعف تدبيرك، وخفي اسمك، وجهل قدرك، فمجالات نصرة الدين، ووسائل وأساليب الدعوة لا حصر لها، فستجد فيها ما يناسب تخصصك وقدراتك، فابحث عن ذلك، وشاور فيه أهل العلم والصلاح من حولك، وقل لهم أنا سهم للإسلام، فحيث كانت مصلحة الإسلام فارموا بي هناك، ومن بعض الأمور التي تستطيع فعلها: محافظتك على فرائض الله، واجتناب حرماته، فذلك من أعظم ما تنصر به الأمة، واحذر الوقوع في المعاصي، فإن لم تدفع عن الأمة، فلا توهنها بذنوبك ومعاصيك، فتُعين بذلك أعداءها عليها ،فرب جرح وقع في مقتل، واحرص على ألا تجلس مجلسا إلا وتنصح فيه للدين، أو تأمر فيه بالمعروف، أو تنهى فيه عن المنكر، أو تدعو فيه إلى الخير، أو تحذر فيه من أساليب الكفار والمنافقين في الصد عن سبيل الله، والابتعاد عن حظيرة الدين.
أيها المسلمون
وإذا كان الحق لا بد له من قوة تحميه وتنصره، فقد أمرنا الله تعالى- بإعداد كلّ ما نستطيع من قوة؛ للدفاع عن أوطاننا ومعتقدتنا ومقدساتنا؛ قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال:60].
والأمر بالإعداد في هذه الآية الكريمة عامّ وشامل، ومُوجَّه للأمة كلها؛ شبابها وشيوخها، رجالها ونسائها؛ دفاعًا عن الحقّ المُغتصَب، ودفاعًا عن إخوان لنا في العروبة والإسلام، تواطأت الدول الاستعمارية الكبرى على إخراجهم من ديارهم وأموالهم بغير حق، وإحلال حَفدة القردة والخنازير من الصهاينة في ديارهم، بدون سند من دين، أو تاريخ، أو قانون؛ قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﭜ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج:39-40]؛
والقوة التي أمرنا الله تعالى بإعدادها في هذه الآية الكريمة، نوعان: الأول: قوة مادية؛ والثاني: قوة معنوية. أما القوة المادية فتشمل: بذل المال بسخاء لتزويد المجاهدين بالسلاح والعتاد والمؤونة؛ قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:١٩٥]، وقد رغَّب الإسلام في الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف:10-11]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لا بد للحق من قوة تحميه)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن صور القوة المادية: التدريب العسكري، والتمرن على استعمال أدوات الحرب المختلفة ،فقد خَرَجَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على قَوْمٍ مِن أسْلَمَ يَتَناضَلُونَ بالسُّوقِ، فَقالَ: ارْمُوا بَنِي إسْماعِيلَ؛ فإنَّ أباكُمْ كانَ رَامِيًا، -ارْمُوا- وأَنا مع بَنِي فُلانٍ -لأحَدِ الفَرِيقَيْنِ-، فأمْسَكُوا بأَيْدِيهِمْ، فَقالَ: مَا لَهُمْ قالوا: وكيفَ نَرْمِي وأَنْتَ مع بَنِي فُلانٍ؟ قالَ: ارْمُوا وأَنا معكُمْ كُلِّكُمْ) (صحيح البخاري)
ويشارك الخيلَ في زمننا هذا: ما اخترعه الإنسان من وسائل النقل والحرب في البر والبحر، والجو، وجميعها من القوة التي أمرنا الله بإعدادها في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال:٦٠].
النوع الثاني من القوة: القوة المعنوية: فمهما بلغت قوة الجيش في العدد والعتاد، فإنها لا تكفل له النصر؛ إلا إذا أُعِدَّ إعدادًا معنويًّا قويًّا، بحيث يدخل المعركة وهو مُزوَّد بالإيمان بالله، يؤمن إيمانًا عميقًا بالهدف الذي يخوض المعركة لتحقيقه، وكم من جيوش انتصرت على عدوٍّ يفوقها في السلاح والرجال؛ لأنها خاضت المعركة، وهي مؤمنة بالله، مؤمنة بحقها في الحياة، الحياة العزيزة الكريمة؛ قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم :٤٧].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام يُثيرون الجانب الروحي لدى المجاهدين في سبيل الله، وكان لذلك أعظم الأثر في الإقدام وإحراز النصر، ففي غزوة بدر الكبرى وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرِّض أصحابه على الجهاد والاستشهاد، ويقول: « واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ» (صحيح البخاري). وحين سمع سيدنا عمير بن الحمام -رضي الله عنه- دعوة الجهاد كان في يده تمرات يأكلها فألقى بها من يده واندفع كالسهم النافذ إلى قلب المعركة، وما زال يقاتل ويُناضل حتى قُتِلَ وفاز بالشهادة، وهي إحدى الحُسنيين، وبهذه الروح المؤمنة القوية انتصر المسلمون في صدر الإسلام، وارتفعت راياتهم من الصين شرقًا إلى سيبيريا شمالًا، إلى فرنسا غربًا إلى المحيط الهندي جنوبًا، فقد كان المؤمن يحمل حياته على كفّه، ويندفع إلى ميدان الشرف والجهاد، فالجهاد فريضة مُقدَّسة إلى يوم الدين، ولن يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل. واعلموا أنكم بجهادكم تبنون لأمتكم حياة كريمة حرَّة، وتُعيدون إلى الإسلام ازدهاره ومَجْده، فلنُوحِّد صفوفنا، ولنجعل أمام أعيننا في جهادنا قول الله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج:40]. فالمعركة بيننا وبين أعدائنا مستمرة حتى تصبح أرض العرب خالصة للعرب، وخيرات العرب مِلْكًا للعرب، فشدُّوا على أعدائكم شدة قوية؛ قال تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ [الأنفال:11-12].
الدعاء