خطبة عن (الطمأنينة)
فبراير 16, 2025خطبة عن (لا تكن ليّناً فتُعصر ولا صلباً فتُكسر)
فبراير 18, 2025الخطبة الأولى (لا تكن فارغا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام البخاري في صحيحه: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».
إخوة الإسلام
الوقت هو الحياة، وللحياة غاية وهدف خلقنا الله من أجلها، فقال سبحانه: ﴿وَما خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلّا لِيَعبُدونِ﴾ [الذاريات:٥٦]. والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة، فإذا عرفنا الهدف والغاية من الحياة، واستوعبنا مفهوم العبادة الشامل، فسوف نستغل وقتنا كله، ولا نضيع منه شيئا فيما لا نفع فيه.
فلا تكن فارغا أيها المسلم: فمن الملاحظ أن الكثير من الناس يهدر وقته، ولا يستفيد من أوقات فراغه، وبذلك يضيع جزء من حياته فيما لا يفيد ولا ينفع، والسؤال: كيف يستفيد المرء من وقته ووقت فراغه؟، وبداية: يُعرّف وقت الفراغ بأنّه: الابتعاد عن القيام بالأعمال الإجباريّة، وهو أيضا: وقت خالٍ من واجبات ومسؤوليات العمل، فوقت الفراغ هو الوقت الذي تقضيه بعيدًا عن أداء المهام، والعمل، أو البحث عن العمل، والإسلام يحث ويرغب في استغلال وقت الفراغ، حيث قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رواه البخاري. وفي المستدرك للحاكم: (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)،
فلا تكن فارغا: فوقت الفراغ سلاحٌ ذو حدّين، فهو إمّا نعمة، وإما نقمة، لهذا، فإن وقت الفراغ إذا تمّ استغلاله بالشكل الصحيح، فإنه يعود بالنفع الكبير على صاحبه، ويكون بذلك نعمة، وحينها سيجد نفسه وقد حقق الكثير من المنافع خلال فترة قصيرة، وأما الأشخاص الذين يمضون وقت فراغهم دون فعل أي شيء مفيد، فإنما يخسرون الكثير من الوقت، الذي لن يعود إليهم أبدًا، فعلى الإنسان أن يحرص على استغلال الفراغ بالعمل المفيد، وألّا ينجرف في فعل أشياء ضارة لجسده ونفسه وصحته،
أيها المسلمون
إن الفراغ سُم قاتل، وأفعى تلتف حول رقبة الإنسان وتطوقه، وتقضى عليه إن لم يتدارك خطرها، والإنسان سوف يُسأل فيما يُسأل يوم القيامة عن عمره ووقته (فيما أفناه)، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ».
وقد بين العلماء أن للفراغ أنواعا عدة، وأقساما مختلفة، ومنها: أولا: الفراغ القلبي: ففي الصحيحين: قال صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ»، فإذا فرغت القلوب من الإيمان، يكون امتلاؤها بالهوى والعصيان، ومن ملأ قلبه بحب الله ورسوله، فرغ القلب من الهوى والزيغ والضلال، ومن ملأه بالشهوة، فقد فرغه من تقوى الله ومرضاته، فيا له من فراغ قاتل، ويا له من تدبير سافل، يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: (تفقد قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر والعلم، وفي وقت الخلوة بينك وبين ربك، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فابحث عن قلبك، فإنه لا قلب لك)،
أما النوع الثاني من أنواع الفراغ: فهو الفراغ النفسي: فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وإن لم تفطمها بالطاعات، قادتك إلى المعاصي والزلات، قال الله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف:53]، فالفراغ النفسي مقتلة لشبابنا خاصة، فإذا فرغت نفوسهم، قاموا إلى كل معصية، وانحرفوا في كل أودية المهالك، وساروا في كل طريق الزيغ والضلال، وانشغلوا بالفتن والشهوات (بالأفلام والمباريات والمسلسلات والمجلات الخليعة، وبقراءة القصص التي تحول الزهاد العباد إلى فساق فجَّار) إنه فراغ النفس، قال الله تعالى :(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ) [الشمس:7-9].، فالناس صنفان: صنف قد انتصر على نفسه وزكاها، وألجمها بلجام الطاعة، وجعل النفس مطية إلى رضوان الله والجنة، وصنف قهرته نفسه، وانتصرت عليه، وقادته إلى كل شر في الدنيا، وإلى الهلاك في الآخرة.
أما النوع الثالث من أنواع الفراغ: فهو الفراغ العقلي، وهذا النوع من الفراغ يحول حياة
صاحبه إلى دمار، وتكون آخرته دار البوار، بدليل أن أهل النار يتصايحون بأنهم كانوا لا يحملون عقولاً يفكرون بها، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10]، نعم، لو كانوا يحملون عقولاً سليمة يسمعون بها الحق، ويذعنون بها للحق، ويخضعون بها لله ولرسوله، ما كانوا بين هؤلاء المجرمين من أصحاب النار.
فلا تترك عقلك فارغاً للتفاهات، بل املأ عقلك بالعلم النافع، وبالقراءة الجيدة، وبالأفكار الهادفة، واعلم بأنك تحمل قضية دين، وتحمل قضية أمة، فلا تملأ فراغ عقلك -أيها المسلم- بمثل هذه التفاهات، فوقتك أغلى من هذا، وعمرك أغلى من هذا الضياع، الذي تضيعه أمام مسلسل أو فلم أو مباراة، أو على مقهى تقضي فيه الساعات.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لا تكن فارغا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما النوع الرابع من أنواع الفراغ: فهو الفراغ البدني العملي: فمن السفه والغفلة إتلاف الوقت، وتبديده بدون عمل للدين أو للدنيا، فذلك أشد وأوخم من إتلاف المال وتبذيره، فكل وقت ضائع هو خسارة لجانب من مطالب الدين والدنيا والآخرة.
ومن المؤسف والمؤلم أن تجد الكثير من المسلمين اليوم أكثر إهمالًا وتبذيرًا وتبديدًا لأوقات عمرهم الثمينة، وهم على علم ويقين بما ينتظرهم يوم القيامة، فالمسلم العاقل هو الذي يتوق إلى رضا الله ورضوانه؛ ويعلم أن طريق ذلك هو الجد والعمل، والاجتهاد والمثابرة، واغتنام الأوقات بما يرضي الله تعالى من الصالحات، وفعل الخيرات، فيبادر ويسارع قبل انصرام العمر، وحلول الأجل، عاملًا بأمر الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، ومدركًا أن الدنيا مزرعة الآخرة ،فمن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل، وبذلك تنقلب نعمة الوقت والفراغ نقمة وندمًا على كل خامل مضياع،
أما المسلم العاقل العامل فيغتنم الفرصة، ويتحرك بجد وحزم وعزم، لملء أوقات عمره بالطاعات، والقربات، وفعل الخيرات، ويسارع إلى مغفرة من ربة وجنات، وهذا تحضيض من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الموانع، والمعوقات، والفتن، يقول صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا، هَلْ تَنْظِرُونَ إِلَّا إِلَى فَقْرٍ مُنْسٍ، أَوْ غِنًى مُطْغٍ، أَوْ مَرَضٍ مُفْسِدٍ، أَوْ هَرَمٍ مُفْنِدٍ، أَوْ مَوْتٍ مُجْهِزٍ، أَوِ الدَّجَّالِ، فَشَرُّ غَائِبٌ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةِ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» (جامع الترمذي عن أبي هريرة)،
واستغلال الأوقات يتطلب التخطيط والتنظيم، ومراعاة أنسب الأعمال لأنسب الأوقات، فليست كل الأعمال صالحة لكل زمان، ومن الآفات القاتلة للأوقات، المانعة من حسن تدبيرها واستغلالها: الغفلة التي تغشى العقول والقلوب والعزائم، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف : 28). والتسويف، وهو مرض التأجيل، وترك المبادرة والتعجيل، وطول الأمل بغير عمل، قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] .
الدعاء