خطبة عن (لا تكن فارغا)
فبراير 17, 2025خطبة عن (الرسول الأمين بين الشدة واللين)
فبراير 20, 2025الخطبة الأولى (لا تكن ليّناً فتُعصر ولا صلباَ فتُكسر)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (29) الاسراء، وبوب البخاري في صحيحه: (وَقَوْلُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ». وفيه أيضا: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ)
إخوة الإسلام
إن الاسلام دين الوسطية السمحة، والوسطية في الاسلام هي منهج حياة، ودعوة صريحة للاعتدال والتوازن في التعامل مع الآخرين، وهي صالحة لكل زمان ومكان، وفي كل الأحوال ،والوسطية قد يطلق عليها البعض (المرونة في التعامل)، وهي حالة (بين بين)، فالمرن لا هو بلينٍ فيعصر، ولا هو بصلبٍ فيكسر، وإنما هو معتدل في كافة الأمور، وقد قال الله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (29) الاسراء، وفي الصحيحين: (عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا)، وفي سنن البيهقي: (قَالَ عَمْرٌو بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَمْرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَخَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُهَا».
ومن أقوال الحكماء: (لا تكن ليّناً فتُعصر، ولا صلباَ فتُكسر): وفي هذا دعوة صريحة للاعتدال والتوازن في التعامل مع الآخرين، فمن الحكمة أن ننزل هذه المقولة على أرض الواقع، ونتخذها نبراسا في معاملاتنا، وعلاقاتنا، وديدن حياتنا، وخاصة في العمل الجماعي، فكثيراً ما نمرّ بمواقف عديدة، فإن كُنّا ليّنين في التعامل، فسيستغلنا الناس، وإن كنا قُساةً معهم، خسرناهم، فالطيبون دائماً ما يشتكون من سوء ردود الأفعال، بسبب طيبتهم وتنازلهم عن أشياء كثيرة، لذا نقول: (لا تكن لينا فتُعصر، ولا يابسا فتكسر)، ففي بعض المواقف التي تحتاج اللين كن لينا، وأما التي تحتاج الشدة والحزم، فكن صلبا حازما، قويا في الحق.
وقد جاء ذكر الشدة والليونة في التعامل في مجال الدعوة إلى الله، فيقول الله تعالى مخاطبا رسوله موسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (43)، (44) طه، فقوله تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)، أي كلما فرعون وادعوه إلى الإيمان باللين والرفق، من غير خشونة ولا تعنيف، فلما أعرض فرعون، وتجبر وكفر، وأغلظ لهما القول، كما قال تعالى: (فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا) الاسراء (101)، فهنا أغلظ له موسى له القول، وقابل جفاءه بالقوة والشدة والحزم، وعدم اللين، فقال له موسى: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) (102) الاسراء، أي إني لأظنك من الهالكين.
ومن المواقف التي استخدم رب العزة والجلال فيها الحزم: حينما قال نوح (عليه السلام) {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} هود 45/46.. فالقرار هنا حازم، لأن الأمر الإلهي كان متمثلا في البقاء للمؤمنين فحسب، أما الكافرون فلا مناقشة بشأنهم، وكذا قوله تعالى لزكريا (عليه السلام) حين سأل ربه: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} آل عمران 41 ليعلمنا أنه إذا شاء الله فالقرار نافذ لا محالة.
أيها المسلمون
(لا تكن ليّناً فتُعصر، ولا صلباَ فتُكسر): وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه باللين في الدعوة إلى الله تعالى، ففي الصحيحين: (بَعَثَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – أَبَا مُوسَى، وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا»، وفي مسند أحمد: (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ عُزِلَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ»،
ومع ذلك فقد أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالغلظة في معاملة الكافرين أعداء الملة والدين، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} التوبة: 73، وقال تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) محمد:4، وقال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الفتح:29، وقال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (2) النور ،
ومن المواقف التي علمنا فيها رسول الله ﷺ الرفق واللين: موقفه مع الرجل الذي بال في المسجد، ففي صحيح مسلم: (قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ أَعْرَابيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ»، فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ، فاستخدم ﷺ الرفق واللين مع هذا الرجل لأن هذا الرجل معذور بجهله، وحديث عهد بالإسلام، ولم يسعفه الوقت ليتعلم آداب المسجد؛ فإذا بمعلم البشرية ﷺ يستخدم معه منتهى الرفق، ثم يعلّمه أهمية تقديس المسجد، وتنزيهه عن القذر.
ومن المواقف التي علمنا فيها رسول الله ﷺ الرفق واللين: موقفه مع معاوية السلمي، ففي صحيح مسلم: (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي قَالَ «إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لا تكن ليّناً فتُعصر ولا صلباَ فتُكسر)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن المواقف التي علمنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزم: موقفه مع عمر بن الخطاب حين وجد معه جوامع من التوراة، ففي مسند الامام أحمد: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ قُرَيْظَةَ فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ أَلاَ أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ. قَالَ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ – يَعْنِي ابْنَ ثَابِتٍ – فَقُلْتُ لَهُ أَلاَ تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ عُمَرُ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- رَسُولاً. قَالَ فَسُرِّيَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ». لقد استخدم ﷺ هنا الحزم، لأن الأمر يتعلق بالعقيدة، وقد ختم الله برسوله النبوة، وجعل كتابه القرآن العظيم هو المهيمن، فلا حاجة لنا إلى غيره.
ومن المواقف التي علمنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزم: ما رواه مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا». فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ – ثُمَّ قَالَ – ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ». فالرسول صلى الله عليه وسلم يضع أساسا حازما يتمثل في النهي عن كثرة السؤال، وإنما يجب أن يكون شعار المسلمين: “سمعنا و أطعنا”.
الدعاء