خطبة عن (الفتنة في الدين)
أكتوبر 2, 2024خطبة عن (الفرار إلى الله)
أكتوبر 2, 2024الخطبة الأولى (لَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (95) النحل، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (77) آل عمران،
إخوة الإسلام
القرآن الكريم: هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، والصراط المستقيم، من عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم، والقرآن الكريم: لا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تزيغ به الأهواء،
واليوم -إن شاء الله تعالى- موعدنا مع قوله تعالى: (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا): يقول السعدي في تفسيرها: (يحذر الله تعالى عباده من نقض العهود والأيمان، لأجل متاع الدنيا وحطامها)، {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ} من الثواب العاجل والآجل لمن آثر رضاه، وأوفى بما عاهد عليه الله {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} من حطام الدنيا الزائلة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فهذه الآية الكريمة أصل عظيم في النهي عن أخذ الرشوة مقابل معصية الله سبحانه وتعالى، وأصل عظيم – كذلك – في النهي عن كل معصية يفعلها العبد، لأجل الحصول على مكسب دنيوي بخس).
ونقض العهد هو: (عدم الوفاء بما أعلن الإنسان الالتزام به، أو قطعه على نفسه، من عهد أو ميثاق، سواء فيما بينه وبين الله تعالى، أو فيما بينه وبين النَّاس)، وهذه صفة وخُلُق إنساني مذموم، وسلوك سيئ، قد يضر بالشخص نفسه أو بغيره، وقد ذم الشرع الإسلامي نقض العهد، وحذر منه، ونهى عنه، فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ [البقرة:27]. وأمر الله المؤمنين بالوفاء بالعهود، وحرمَّ عليهم نقضها فقال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:34]، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ».
أيها المسلمون
ونقض العهود والأيمان لها صور متعددة، ومن صورها: نَقضُ العَهدِ الذي وصَّى اللهُ به خَلقَه مِن فعلِ ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه، من الأقوالِ والأفعالِ، وتَركِ ما لا يُحِبُّه اللهُ ولا يَرضاه من الأقوالِ والأفعالِ، والذي تَضَمَّنَته كُتُبُه المنزَّلةُ وبَلَّغَه رُسُلُه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومنها: نَقضُ العَهدِ الذي للإمامِ ونائِبِه على المسلمينَ من وجوبِ الطَّاعةِ في المعروفِ، ونُصرةِ دينِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ دونَ مُبَرِّرٍ شَرعيٍّ يَقتَضي ذلك. ومنها: نَقضُ العَهدِ الذي أعطاه الشَّارِعُ الحَكيمُ للكُفَّارِ غَيرِ المحارِبينَ من أهلِ الذِّمَّةِ والمستَأمنينَ وكذلك المعاهَدينَ دونَ مُبَرِّرٍ شَرعيٍّ يَقتَضي ذلك، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أَلاَ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهِدَةً لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَلاَ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
ومن صور نقض العهد: خُلفُ الموعِدِ، بأن يُعطيَ مَوعِدًا وفي نيَّتِه عَدَمُ الوفاءِ، ونَقضُ الحُكَّامِ والوُلاةِ عَهدَ اللهِ بعَدَمِ تَطبيقِهم لشَرعِه والسَّيرِ على مَنهَجِه. ومنها: الغَدر في أيِّ عَهدٍ أعطاه على أيِّ شَيءٍ من الأشياءِ، فيَحرُمُ الغَدرُ بها، ويَدخُلُ في العُهودِ التي يَجِبُ الوفاءُ بها ويَحرُمُ الغَدرُ فيها جَميعُ عُقودِ المسلمينَ فيما بينَهم إذا تَراضوا عليها من المبايَعاتِ والمناكَحاتِ وغَيرِها من العُقودِ اللَّازِمةِ التي يَجِبُ الوفاءُ بها، وكذلك ما يَجِبُ الوفاءُ به للهِ عَزَّ وجَلَّ مِمَّا يُعاهِدُ العَبدُ رَبَّه عليه من نَذرِ التَّبرُّرِ ونَحوِه، ومنها: نقض العهد مع الله تعالى؛ بهجر طاعته، واتِّباع سبُل الغواية، والإعْراض عن الهداية، والانحِدار في جرف المعْصية، واتباع الأهواء والشَّهوات، وخذْلان دينِه حين المطالبة بالنُّصرة، وموالاة أعدائه، ومحاربة أوليائه، ونحو ذلك ممَّا يضادّ الإيمان وكماله، ويظهر على قول الإنسان وعمله. ومنها: خلْع يد الطَّاعة عن سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واستِدْبار أمرِه ومُقابلته بالإعراض عن العمَل، بالإضافة إلى التولِّي عن أرض معركةٍ طُلِب فيها نُصرة سنَّته وهدْيه – صلَّى الله عليْه وسلَّم.
ومن صور نقض العهد: نقض العهد مع الزَّوجة والأوْلاد، بالتَّقصير في الحقوق وعدم أدائها، وعدم رعايتهم في دينهم وأخلاقهم، وتعريضِهم للفتن السلوكيَّة والأخلاقيَّة، وتيْسير سبُل المعاصي لهم في ظاهرِهم وباطنهم، ممَّا يعدُّ خيانة للأمانة، ونقضًا لإبرام التَّربية والتَّهذيب والرِّعاية، وإخفاقًا في اختبار أعدَّه الله – تعالى – ليبلوَ به وفاء مدَّعي الإيمان؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال:27-28].
ومن صور نقض العهد: ما نراه من صنيع الموظَّفين في كثير من الدَّوائر الحكوميَّة من تقصير في الأعمال، وعدم القيام بِمصالح النَّاس، والبطْء في إنهاء الإجراءات، والتَّشديد والتَّعسير والتَّلميح للرَّشاوى من طرف خفيّ، فإنَّ هذا من نقْض العهْد مع العمل وميثاق الشَّرف.
أيها المسلمون
وقد قرن الله سبحانه وتعالى بين الكفر ونقض العهد في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ولا شك في كفر من نقض عهده مع الله، وأخلَّ بميثاقه الذي أخذه عليه، فقال تعالى: ” وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ” [البقرة: 93]. كما بين سبحانه وتعالى أن الخسران عاقبة من نكث بعهده، ونقض ميثاقه، قال تعالى :”الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ” [البقرة:27]. كما توعده الله باللعن وقسوة القلوب والطبع عليها، قال تعالى: “فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً” [المائدة:13]. وتوعده بالإغراء بالعداوة والبغضاء: فلما نقض النصارى الميثاق والعهود وبدَّلوا دينهم، وضيَّعوا أمر الله، أورثهم الله العداوة والبغضاء، قال تعالى: “وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ” [المائدة:14]. وأيضا بتحريم الطيبات: فعندما نقض بنو إسرائيل الميثاق، حرَّم الله عليهم الطيبات، قال تعالى: “فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا” [النساء:160].
أيها المسلمون
ونقض العهد صفة ملازمة لليهود: قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ [المائدة:13]، فتاريخ اليهود مليءٌ بصفحاته السوداء، التي تبين حالهم تجاه العهود والمواثيق، فكم مرةً نقض اليهود عقودًا عقدوها، ومواثيق أبرموها، فلا يحفظون لأحد عهدًا، ولا يرعون له وعدًا، والقرآن الكريم سطر لنا الكثير من المواقف التي نقض فيها اليهود، العهود والمواثيق مع الأنبياء والمرسلين، ولم يحترموا عهودهم مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، بل نقضوها وحاولوا قتله أكثر من مرة، كما حاولوا إشعال نار الفتنة بين صفوف المسلمين.
وجعل الله تعالى نقْض العهد من صفات الفاسِقين الخارجين عن طاعتِه وشريعته، كما في قوله سبحانَه: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [البقرة:26-27]، وجعله الله – تعالى – من صنيع المنافقين كما في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة:75-77]. وفي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخَلَفَ»، وهناك زيادة في صحيح مسلم: «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإذا كان نقض العهد كبيرة من الكبائر، فإن الوفاء بالعهد فضيلة من الفضائل، فالوفاء بالعهد خلق إسلامي رفيع، يجب أن يتحلى به كل مسلم في جميع شؤونه، وفي تعامله مع الله، ومع الناس. وقد أمر الله، عز وجل، بالوفاء فقال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الانعام: (152)، وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (91) النحل، وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (34) الاسراء، وفي سنن الترمذي: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلاَ يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِىَ أَمَدُهُ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ »،
ومن صور الوفاء بالعهد، أولًا: الوفاء بما أخذه الله على عباده من وجوب عبادته، وعدم الإشراك به، وهذا أعلى درجات الوفاء بالعهد، فالله تبارك وتعالى خلق الإنسان بقدرته، ورباه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة. ثانيًا: الوفاء بمبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم، على أعمال الطاعة، ثالثًا: الوفاء بالأيمان، يقول الله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) النحل (91)، (92)، رابعًا: الوفاء بالحق مع المؤمن بالإسلام والكافر به، فإن الفضيلة لا تتجزأ، ففي صحيح ابن حبان وسنن البيهقي: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :«إِذَا آمَنَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا». خامسًا: الوفاء بقضاء الدَيْن، وهو من الشؤون التي اهتم بها الإسلام، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» ،وفي صحيح مسلم: (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ «أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «كَيْفَ قُلْتَ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لِي ذَلِكَ».
وقد استهان المسلمون في عصرنا بالديون، فاقترضوها لأغراض ليست أساسية في حياتهم، واقترضوا بالربا الذي حرّمه الله، فكان من أثار ذلك أن نكبوا في ديارهم وأموالهم.
وهناك صور أخرى للوفاء منها: الوفاء بين الزوجين، والوفاء بالنذر، والوفاء بما التزم به الإنسان من بيع أو إجارة، والوفاء بالقسم، والوفاء بأجر الأجير، والوفاء بما تلتزم به الدول في العلاقات الدولية ما دامت لا تضر بالأمة الإسلامية.
الدعاء