خطبة عن (عناية الإسلام بالأيتام والمعوقين والضعفاء)
يناير 17, 2017خطبة عن (الغرور: أسبابه ونتائجه وعلاجه (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)
يناير 19, 2017الخطبة الأولى(ماهي الروح؟ وأين تذهب بعد الموت؟﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ،وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [الإسراء: 85]. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما ،واللفظ للبخاري (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، مَا الرُّوحُ فَسَكَتَ . فَقُلْتُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ . فَقُمْتُ ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ ، قَالَ:(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) الإسراء 85
إخوة الإسلام
إن الروح من العجائب والأسرار التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فهي سرٌّ من أسرار الله في خلقه ، ولم يطلع عليها عباده ، قال سبحانه: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الإسراء: آية 85]، فالبشر مهما أوتوا من العلم والمعارف ،فإن علمهم قليل أو لا شيء بالنسبة لعلم الله سبحانه وتعالى، كما في حديث موسى والخضر (فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ . فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى ، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ) رواه البخاري . وجاء في أسباب نزول هذه الآية ،كما في سنن الترمذي بسند حسن صحيح (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ، قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ ،اعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهُ هَذَا الرَّجُلَ ، فَقَالَ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ ،قَالَ :فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) الإسراء: 85
أيها المسلمون
ومن المعلوم أنه بالروح ما يحيا به الإنسان وغيره من ذوات الأرواح، وإذا فارقه مفارقة تامة يكون ميتًا، وإذا فارقه بعض المفارقة يكون نائمًا، فالروح لها اتصالات بالبدن، اتصال بالبدن وهو في بطن أمه، واتصال في البدن بعدما يولد في الحياة الدنيا وهو متيقظ، واتصال بالبدن وهو نائم، واتصال بالبدن وهو في القبر، واتصال بالبدن في الدار الآخرة، وهذا الاتصال الأخير لا مفارقة بعده. فالروح خلق من أعظم مخلوقات الله ،شرفها الله وكرمها غاية التشريف والتكريم ،فنسبها لذاته العلية في كتابه العزيز .قال الله تعالى : ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ (29) ( الحجر) ،ومن عظمة هذا التشريف لهذا المخلوق ، أن الله اختص بالعلم الكامل بالروح فلا يمكن لأي مخلوق كائن من كان أن يعلم كل العلم عن هذا المخلوق إلا ما أخبر الله تعالى ولأن الله هو خالق الروح وهو أعلم بها وهي من أمر الله تعالى وحده فإنه لا سبيل لمعرفة أي شيء عن الروح إلا من الله تعالى ، فقال الله تعالى : ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (85) الإسراء) ،فهذه الإجابة من الحق تبارك وتعالى تعني أن يتوقف الإنسان عن السؤال والخوض في ماهية الروح ، وألا نتعب أنفسنا في البحث عن كينونتها ، ولكن علينا أن نؤمن بها وأن نتوقف عند ذلك ، لأن شأن الروح فوق طاقة العقل وفوق إدراكاته ، ولذلك فالبحث عنها لا فائدة منه
أيها المسلمون
وللروح وتعلقها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، وهي متغايرة الأحكام: أحدها: تعلق الروح بالبدن في بطن الأم جنيناً: ويدل عليه ما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ..) . الثاني: تعلق الروح بالبدن بعد خروجه إلى وجه الأرض: ويدل عليه قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) النحل 78 ،وقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: (مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلا يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا) . الثالث: تعلق الروح بالبدن في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه:
ويدل عليه قوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الزمر 42 ،الرابع: تعلق الروح بالبدن في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً: ويدل عليه ما رواه أحمد وغيره (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِى يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ « اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً ثُمَّ قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِى انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلاَئِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ – قَالَ – فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِى ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ – قَالَ – فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلاَ يَمُرُّونَ – يَعْنِى بِهَا – عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِى فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى – قَالَ – فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنَ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّىَ اللَّهُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ دِينِيَ الإِسْلاَمُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ . فَيَقُولاَنِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ . فَيُنَادِى مُنَادٍ فِى السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِى فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَاباً إِلَى الْجَنَّةِ – قَالَ – فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ – قَالَ – وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِى كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.. ». الخامس: تعلق الروح بالبدن يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع التعلق، وهذا التعلق لا يقبل موتاً ولا نوماً، ولا فساداً: ويدل عليه قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) يس 51 : 53 ،وقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) الزمر 68
أيها المسلمون
وحياة البرزخ هي حياة ما بين الدنيا والآخرة ، ولها قوانينها ، ونعيمها وعذابها ، وهي تختلف عن حياة ما قبلها وحياة ما بعدها، قال تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) المؤمنون 100، وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة) ،والبرزخ هو أيضا المدة الفاصلة بين الحياة الدنيا، والحياة الآخرة؛ فإذا مات الإنسان فقد انتقل إلى البرزخ وبقي فيه حتى يبعث من في القبور، وقد ورد ذكره في كتاب الله قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) المؤمنون 99 ، 100 ، فالروح في البدن حال الحياة تجعله يتحرك ويدرك، وتحصل له لذة وألم، وهنا يقال إنه حي؛ فإذا مات انتهت حركته وإدراكه وفني بدنه، وبقيت روحه في البرزخ في دائرة أوسع عما كانت عليه في البدن في الدنيا، لأن البدن كالسجن والقفص والروح محبوسة فيه، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم إخوانه من الأنبياء ليلة الإسراء وصلى بهم.
أيها المسلمون
وبعد أن تبين لنا أن الروح أمر غيبي ، وأنها فوق قدرات العقل البشري ، ولا نعلم عنها إلا القليل ، وأنها سر من أسرار الله في خلقه ، ولها مع الجسد تعلقات وأحوال ،فقد يسأل سائل : وأين تذهب الروح بعد مفارقتها للجسد بالموت ؟ وبعبارة أخرى : كيف تحيا الروح في حياة القبر أو البرزخ ؟ والإجابة : أن للأرواح بعد الموت وفي حياة البرزخ أو ( حياة القبر ) أحوال متعددة ، تختلف باختلاف إيمان وعمل صاحبها في الدنيا ، فأرواح الأنبياء وحياتهم ، تختلف عن أرواح الشهداء وحياتهم ،وتختلف عن أرواح المؤمنين ، وهذه تختلف عن أرواح المعذبين من المسلمين ، وتختلف عن أرواح الكافرين والمشركين والمنافقين ، فلكل من هؤلاء حياته التي تختلف عن حياة الآخرين ،ولهذا ثبت في الحديث (أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ إِذَا مَاتَ طَائِرٌ تَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ »رواه احمد وغيره. وأما الشهداء فأرواحهم أكمل وأنعم ، فهي تتنعم في الجنة، فهي أكمل من أرواح المؤمنين من غير الشهداء، قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) (169) :(171) آل عمران ، وفي صحيح مسلم : (عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : (سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) قَالَ أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ « أَرْوَاحُهُمْ فِى جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلاَعَةً فَقَالَ هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا قَالُوا أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِى وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى. فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا ». وفي رواية للدارمي : ( سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ عَنْ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ لَمْ يُحَدِّثْنَا أَحَدٌ. قَالَ : أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ ، تَسْرَحُ فِي أَيِّ الْجَنَّةِ شَاءُوا ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى قَنَادِيلِهَا ، فَيُشْرِفُ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فَيَقُولُ : أَلَكُمْ حَاجَةٌ تُرِيدُونَ شَيْئاً؟ فَيَقُولُونَ : لاَ إِلاَّ أَنْ نَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَنُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى) ، فالشهداء لما بذلوا أجسادهم لله وأتلفوها لله؛ عوض الله أرواحهم أجسادا تتنعم بواسطتها وهي حواصل طير خضر. وأما من غير الشهيد فروحه تتنعم وحدها بدون جسد، تأخذ شكل طائر، …… نسمة يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده مرة ثانية، وأما روح الكافر إذا مات فتحبس وتنقل إلى النار، -أعوذ بالله- وتعذب في النار إلى يوم القيامة، فالروح في حياة البرزخ أو ( القبر ) باقية ، إما في نعيم ، وإما في عذاب، وهذا هو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي « إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ » ،ففي الدنيا، الآن الإنسان مكون من روح وجسد، والنعيم والعذاب في الدنيا على الجسد أشد، وفي البرزخ بعد الموت العكس ، فالأحكام على الروح أشد، تتألم الروح وتتنعم أكثر من الجسد، ولهذا الجسد يبلى ويكون ترابا، ويوم القيامة يكون العذاب أو النعيم على حد سواء، فإذا بعث الله الأجساد، وعرفت الأرواح أجسادها صار الجسد والروح على حد سواء في النعيم والعذاب، فالأرواح متفاوتة في مستقرها في حياة البرزخ أعظم تفاوت ، فمنها أرواح في أعلى عليين ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وهم أيضا متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ليلة الإسراء . ومنها ما هو في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم كما قد يتوهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره ،ففي صحيح مسلم : ( عَنْ أَبِى قَتَادَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ « أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالإِيمَانَ بِاللَّهِ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَايَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَيْفَ قُلْتَ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّى خَطَايَايَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « نَعَمْ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لِي ذَلِكَ ». وفي رواية لمسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ ». وفي رواية « الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ الدَّيْنَ ». ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة كما في مسند أحمد عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصُّبْحَ فَقَالَ « هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِى فُلاَنٍ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « إِنَّ صَاحِبَكُمْ مُحْتَبَسٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ » ، ومنها أرواح تعذب بسبب بعض المعاصي التي وقع فيها العبد في الدنيا، مثل: ( الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه،
والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة، والزناة والزواني يعذبون في ثقب مثل التنور ضيق أعلاه وأسفله واسع توقد من تحته النار، والمرابي يسبح في بحر من دم وعلى الشط من يلقمه حجارة، وأيضاً الذي كان لا يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنميمة بين الناس، والذي غلَّ من الغنيمة، إلى غير ذلك مما ذكره أهل العلم في مستقر الأرواح ، وكل ذلك تشهد له السنة) ، ومنهم من يكون محبوسا في قبره ، محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى ، فإنها كانت روحا سفلية أرضية ، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما لا تجامعها في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه ، بل هي أرضية سفلية لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك ،
فالنفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة في الأرواح المناسبة لها ، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم المعاد ، فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها وأصحاب عملها فتكون معهم هناك ، فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد ، بل روح في أعلى عليين وروح أرضية في أسفل سافلين ، فالأرواح تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ، ولها بعد المفارقة صحة ومرض ، ولذة ونعيم ، وألم أعظم مما كان لها في حال اتصالها بالبدن بكثير ، فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة ، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الأولى (ماهي الروح؟ وأين تذهب بعد الموت؟﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ،وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وماذا عن تزاور الأرواح بعد الموت ؟ وهل تتلاقى فيما بينها ؟ ،قال العلماء : أما الأرواح المعذبة – عياذاً بالله – فهي في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، وأما الأرواح المنعمة والمرسلة غير المحبوسة ، فهي تتزاور وتتلاقى وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، فتكون كل روح مع من تحب، وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) النساء 69 ، وهذه المحبة ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة : ( الدنيا ، والبرزخ ، والآخرة ). وقال الشعبي رحمه الله : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضْيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنِّي لأُحِبُّكَ حَتَّى إِنِّي لأَذْكُرُكَ, فَلَوْلا أَنِّي أَجِيءُ فَأَنْظُرُ إِلَيْكَ ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَخْرُجُ, فَأَذْكُرُ أَنِّي إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ صِرْتُ دُونَكَ فِي الْمَنْزِلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ, وَأُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي الدَّرَجَةِ, فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا, فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ), فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَتَلاهَا عَلَيْهِ) رواه الطبراني في المعجم ،وقال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) الفجر 27 : 30 ، أي ادخلي في جملتهم وكوني معهم، وهذا يقال للروح عند الموت. وقد جاءت سنة صريحة بتلاقي الأرواح وتعارفها؛ ففي سنن أبي داود (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (لَمَّا حَضَرَتْ كَعْبًا الْوَفَاةُ أَتَتْهُ أُمُّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنْ لَقِيتَ فُلانًا فَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلامَ، قَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكِ يَا أُمَّ بِشْرٍ؛ نَحْنُ أَشْغَلُ مِنْ ذَلِكَ قَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( إِنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ تَعْلُقُ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ)، قَالَ: بَلَى؛ قَالَتْ: فَهُوَ ذَاكَ)
أيها المسلمون
أما عن معرفة الموتى بأحوال الأحياء: فيرى بعض أهل العلم أن أرواح الموتى من المؤمنين ، يعرفون أحوال الأحياء ، فيتألمون من السيء، ويستبشرون بالحسن، ويفرحون به. ففي مسند أحمد (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَمَّنْ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَإِنْ كَانَ خَيْراً اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا اللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا » ، وفي سنن أبي داود والنسائي وغيرهما : (عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَىَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَىَّ ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ. فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ ».
وفي مسند البزار (عَنْ عَبْدِ اللهِ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلامَ قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ لَكُمْ. وقال مجاهد رحمه الله : (إن الرجل ليبشر في قبره بصلاح ولده من بعده)، وقال عمرو بن دينار رحمه الله : (ما من ميت يموت إلا ويعلم ما يكون في أهله بعده). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (استفاضت الآثار بمعرفة الميت أهله، وأحوال أهله، وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه) ، وقد ورد في الصحيحين : (عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: (يَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ، وَيَا فُلانُ بْنَ فُلانٍ أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟)
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ) ، وثبت عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ) رواه البخاري ، كما شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقول: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) مسلم وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد. وعن ابن شماسة المهري قال: (حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ فَبَكَى طَوِيلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ : إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاثٍ، ..).. ثم قال (فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي) رواه مسلم ، فدل ذلك على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم. وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ)، فأخبر أنه يسأل حينئذ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين. وعن عطاء الخراساني قال: قدمت المدينة فأتيت ابنة ثابت بن قيس ابن شماس فذكرت قصة أبيها، قالت: (لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ، وآية (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) ، جلس أبيّ في بيته يبكي، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن أمره، فقال: إني امرؤ جهير الصوت، وأخاف أن يكون قد حبط عملي، فقال: (لَسْتَ مِنْهُمْ، بَلْ تَعِيشُ بِخَيْرٍ، وتَمُوتُ بِخَيْرٍ، ويُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ)، فلما كان يوم اليمامة مع خالد بن الوليد استشهد، فرآه رجل من المسلمين في منامه، فقال: إني لما قتلت انتزع درعي رجل من المسلمين وخبأه في أقصى العسكر وهو عنده، وقد أكب على الدرع برمة ، وجعل على البرمة رحلا، فائت الأمير فأخبره، وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، وإذا أتيت المدينة فائت فقل لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن عليَّ من الدين كذا وكذا، وغلامي فلان من رقيقي عتيق، وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، قال: فأتاه فأخبره الخبر فوجد الأمر على ما أخبره، وأتى أبا بكر فأخبره فأنفذ وصيته، فلا نعلم أحدا بعدما مات أنفذ وصيته غير ثابت بن قيس بن شماس) ، وعلى ذلك فالسلف مجمعون على هذا، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به.
الدعاء