خطبة عن حديث (اتَّقِ الله حيثُما كنتَ)
ديسمبر 8, 2025الخطبة الأولى (مع الرُّشْد والرَّاشِدينَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (51) الأنبياء، وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (7) الحجرات، وقال تعالى: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) (14) الجن ، وقال تعالى: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (10) الكهف. وفي صحيح البخاري: (فَسَلَّمَ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ فَقَالَ أَنَا مُوسَى. فَقَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا).
إخوة الإسلام
الرُّشْدُ: هو الهداية إلى الصواب، والاستقامة، وإصابة وجه الأمر في الدين والدنيا، والرشد نقيض الغي والضلال،
والرَّاشِدُون: هم الذين يتصفون بهذا الوصف، أي المهتدون، والعاقلون، والمستقيمون على طريق الحق، الذين اتسموا بالصلاح، وحسن التدبير،
وقد جاء الرشد في القرآن الكريم بمعان متعددة، ومنها: الهداية والتوفيق: كما في قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (7) الحجرات. وجاء بمعنى الصواب والخير والمنفعة، كما في قوله تعالى: (لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) (24:الكهف). وجاء بمعنى الصلاح والإصلاح، كما في قوله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) (النساء:6). وجاء بمعنى المخرج والعاقبة الحسنة، كما في قوله تعالى: (وَهَيَّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (10) الكهف.
و(الرُّشْدُ والرَّاشِدُون): كلمتان تجسدان حالة من الكمال العقلي والروحي كما ورد في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ولهذا كان طلب الرشد من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في سنن الترمذي: (عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لَيْلَةً حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي وَتُلْهِمُنِي بِهَا رَشَدِي وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ)، وفي سنن النسائي: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي صَلاَتِهِ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَى الرُّشْدِ)،
وكان طلب الرشد أيضا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته: ففي سنن الترمذي: (لَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي. فَقَالَ «قُلِ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي»، وفي مسند أحمد، وصحيح الأدب المفرد للبخاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ لِي مِنْ أَمْرٍ أَنْ تَجْعَلَ عَاقِبَتَهُ رَشَداً»،
وهكذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّته بطلب الرشد، وعلَّمه أصحابه، ففي مسند أحمد: (عن شداد بن أوس (رضي الله عنه)، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزُوا هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَأَسْأَلُكَ حُسْنَ عِبَادَتِكَ وَأَسْأَلُكَ قَلْباً سَلِيماً وَأَسْأَلُكَ لِسَاناً صَادِقاً وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ»
والرشد ليس كلمة تقال، ولا دعوى تُدَّعَى، ولكنه منهج حياة، واستقامة طريق، ونور يهدي الله به من يشاء من عباده، ولذلك سمّى الله الفقه في الدين رشداً، وسمّى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم (هدايةً واتباعاً لأقوم الطرق) فسماهم (الراشدين).
وقد أثنى الله تعالى على أهل الرشد حين قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (17) محمد، فالرشد زيادة في هدى، وترقٍّ في معرفة، وثمرة من ثمار التقوى.
وانظروا إلى الرشد في حياة الأنبياء، وكيف تجلى في أقوالهم، وأفعالهم: فالرشد مما امتنَّ الله به على خليله إبراهيم (عليه السلام)، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء:51]. ولذلك لما حاجّه قومه، ماذا قال خليل الله: {قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (78)، (79) الأنعام،
وهذا يوسف (عليه السلام): (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (33) يوسف،
وفي قصة سليمان وداود (عليهما السلام)، إذ قال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} 79: الأنبياء، فالرشد هنا: فهم صواب، وحكم عدل، وعلم نافع، ولم يكن صواب سليمان طعناً في داود، بل رفعة للاثنين، لأن الراشدين لا يتكبرون على الحق، ولا يُصِرّون على الخطأ.
وانظروا إلى الرشد في سيرة الصحابة: فهذا أبو بكر (رضي الله عنه) عندما تولى الخلافة، قال قولته العظيمة الجامعة الراشدة: “أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم”. وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يقال له: (الرجل الملهَم الراشد)، لأنه كان يقف عند كتاب الله، وسنة رسوله وقفة الراشدين المهتدين)، فالراشد يرى بنور الله،
ويزن الأمور بميزان الشريعة، ويقدّم رضا الله على رضا الخلق.
أيها المسلمون
ونحن اليوم وفي هذا الزمان أحوج ما نكون إلى الرشد: في العبادات، وفي الأقوال، والرشد في القرار، والرشد في تربية الأبناء، والرشد في استخدام التكنولوجيا، والرشد في التعامل مع الفتن. فالرشد كلما ابتعد عنه الناس: كثرت الفتن، وساءت الأخلاق، وخربت البيوت، واضطربت المجتمعات، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} الأحزاب: (71)، فالرشد لا يكون إلا بطاعة الله ورسوله، ومن ابتغاه في غير طريقهما، لم يُصب إلا ضلالاً وعمى.
وليكن معلوما أن الرشد يظهر في ثلاثة أمور عظيمة، وهي: أولا: الرشد في العقيدة: فلا ينخدع المسلم بشبهات الملاحدة، ولا بزخارف الفلاسفة، ولا بضلالات المبتدعين، بل يثبت على التوحيد الخالص، والإيمان الصادق، والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: الرشد في الأخلاق والتعاملات: فيقول الكلمة بميزان، ويمدح بإنصاف، وينصح بحكمة، ويحسن الظن، ويكف لسانه عن أعراض الناس، ولا يشارك في نشر الأكاذيب والفتن.
ثالثا: الرشد في النظر إلى الدنيا: فلا يغتر بزخارفها، ولا يبيع دينه بعرض قليل، ولا يضيع حياته في اللهو والغفلة، بل يعيش للآخرة، ويعمل للجنة، ويجعل الدنيا مزرعة للطاعة.
فالرشد هو السداد والتوفيق، وهو الهداية للحق، والسير على صراط الله المستقيم، والرشد يكون للمرء في دينه وإيمانه واعتقاده، ويكون في علمه وفهمه وإدراكه، ويكون في عمله وسعيه وسلوكه، وفي حكمه ومواقفه وتعاملاته، ويكون الرشد في أدائه لمسؤوليته تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، وفي أدائه لدوره تجاه دينه وأمته، ويكون الرشد كذلك في وعيه لواقع أمته، وسبل النهوض بها، وإدراكه لمخططات أعدائها ومكائدهم،
واعلموا أننا نعيش في زمن كثرت فيه الفتن، وقلّ فيه الرشد والراشدون، وكثر فيه المتصدرون بلا علم، والمتكلمون بلا بصيرة، فإن أردت النجاة، فكن مع الراشدين، ومن أهل القرآن والفقه والبصيرة، اصحبهم، وخذ عنهم، فإن صحبتهم نجاة، وكلامهم هداية، ومنهجهم نور.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (مع الرُّشْد والرَّاشِدينَ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والرشد يعني: قمة وعي الإنسان، واكتماله ونضجه، وهو صمّام الأمان من أوضاع التحلّل والفساد، التي قد تؤول إليها حياة الأفراد والجماعات، وهو أعظم خصال الإنسان الصالح، والجماعة الصالحة، والأمة الصالحة، ولذلكم، فكثيرًا ما نسمع اليوم عن الحاجة إلى الأخلاق الراشدة، والحُكْم الرشيد، وترشيد الاستهلاك، وترشيد النفقات، والتدبير الأرشد للموارد، وما إلى ذلك من أنواع الرشد، وأحوال الراشدين.
والسؤال: كيف يتحقق الرشد؟، والجواب: يتحقَّق الرشد: باللجوء إلى الله تعالى، ودعائه سبحانه، واستمداد الرشدِ منه جل وعلا، وبهذا، يوصيك ربُّك جلَّ وعلا أن تردِّد دومًا قوله تعالى: ﴿وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ [الكهف:24]،
ويتحقق الرشد: بالتدبُّر في كتاب الله العزيز؛ ففيه الهداية والرشاد، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء:9].
ويتحقق الرشد: في دراسة سُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة، فهي رشدٌ كلها، وخيرٌ وهدايةٌ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21].
كما يتحقَّق الرشد: في التدبُّر في السنن الربانية، التي أرشدنا إليها ربنا في كتابه، والواقع الذي نعيشه، واستنزال تلك السُّنَن على الواقع، والبصيرة في استنباط الفقه السديد، والموقف الرشيد، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:62].
وأرشدنا ربُّنا لمبدأ هام يحقق الرشد: وهو الشورى، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:159].
واعلموا أن الرشد لا يتحقق إلا لمن أخلص نيَّته لله تعالى، وسلمَ مقصدُه، وصدَق إيمانه، وحقَّق الإخبات الذي هو سبيل الرشد والهداية، كما قال تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج:54].
أيها المسلمون
وحين يسلب الرشد من الفرد أو المجتمع، فإنه يتخبط خبط عشواء، ويظل غارقًا في ظلمات التيه والغي، وقد بين الله عز وجل سبب إضاعة الرشد وفقده، في آية عظيمة الشأن، فقال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:146). ففي هذه الآية وصف بليغ للإنسان فاقد الرشد، -سواء كان فردًا أم جماعة-
والسؤال: هل تبيّن اليوم للمجتمع المسلم الرشد من الغي حقًّا؟، وهل يمكن أن يصدق علينا ما أخبر الله به عن قوم من الجن، وقد كانوا في غاية الحيرة والتيه، فقالوا: (وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي اْلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)؟ (10) الجن، وحين هداهم الله للرشد، وخالط القرآن شِغَاف قلوبهم، قالوا: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) (13): (15) الجن،
فالقرآن في أعلى مقاصده دعوة إلى الرشد، والإسلام بكل اختصار هو سبيل تحري الرشد.
أيها المسلمون
روى الإمام أحمد في مسنده: (قَالَ حُذَيْفَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ»،
فإن حلم الخلافة الراشدة لا يزال يراود العقل المسلم منذ (14) قرنا، وسيظل ملهِما للمسلمين، حتى يتخلصوا من الاستبداد والفساد، وحتى يقيموا مجتمعا اسلاميا، يحكمون فيه بالكتاب والسنة، ويحترموا فيه كرامة الفرد وحريته،
وما أحوجنا اليوم إلى المجتمع الراشد اليقظ، المتحمل لمسؤولياته في مقارعة الظلم الجاثم على صدره، ومقاومة الفوضى المهددة لكيانه، فالمجتمع الراشد شرط لازم للخلافة الراشدة، وسابق عليها. فهل نسعى بجدٍّ إلى إقامة المجتمع الراشد، قبل التفكير في الخلافة الراشدة، أم نظل نضع العربة أمام الحصان، ونحن نمضغ أحلامنا الزاهية، وأمانينا العريضة؟؟؟؟
الدعاء
