خطبة عن حديث (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا)
يوليو 23, 2024خطبة عن حديث (لاَ تُحْصِي فَيُحْصَى عَلَيْك)
يوليو 24, 2024الخطبة الأولى (مع القرآن وتجلياته)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (21) الحشر.
إخوة الإسلام
القرآن الكريم: هو كلام الله تعالى المعجز، المنزّل على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم، بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، وهذا القرآن تحدى الله الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا، وهو مِن أجَلِّ النّعم التي أكرمَنا اللهُ -عز وجل- بها، وتفضّل علينا بإرسالها، فنعمةَ إنزال القرآن الكريم مِنّة منه -سبحانه وتعالى- تستوجب الشكر الدائم، والثناء الذي لا ينقطع، فلولاها لبقينا في بحار من الظلمات، التي لا يعلم حجمها وأثرها إلا الله -عز وجل-،
أيها المسلمون
وللقرآن مقاصد وحكم، وأهداف وغايات، ومن أهم مقاصد القرآن الكريم: المقصد الأول: إصلاح الاعتقاد، فيطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما، والمقصد الثاني: تهذيب الأخلاق، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم (4)، وفي سنن البيهقي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :«إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ»، والمقصد الثالث: التشريع: وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (105) النساء، وقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب، وجزئيا في المهم، والمقصد الرابع: سياسة الأمة: والقصد منه صلاح الأمة، وحفظ نظامها، والمقصد الخامس: القصص، وأخبار الأمم السالفة، للتأسي بصالح أحوالهم، وللتحذير من مساوئهم، والمقصد السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها، والمقصد السابع: المواعظ، والإنذار والتحذير والتبشير، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب. والمقصد الثامن: الإعجاز بالقرآن، ليكون آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ من أعظم مقاصد القرآن الاتعاظ بمعانيه ودلالاته، والعمل بأوامره وتوجيهاته، والوقوف عند حدوده، والوصول إلى تعظيم المتكلِّم به -سبحانه-، وتحقيق التوحيد له -عز شأنه-
أيها المسلمون
وقد رافقت هذه النعمةَ -نعمةَ إنزال القرآن الكريم- نِعَمٌ تترى متتابعة، لا يَعُدّها العادّون، ولا يحصيها المحصُون، ومِن هذه النعم التي رافقَت إنزاله، نعمةُ تيسيره على العباد، وتسهيله عليهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ القمر:17، وهذا التيسير والتسهيل له صور شتى، ومنها: تسهيل حِفظه: فكلّ مَن رام حِفْظ هذا الكتاب، وجدَه سهلًا ميسَّرًا، ومنها: تيسير تذكُّر النعم به، وسهولة إدراك ما وقع للأمم الغابرة: فالتالي للقرآن الكريم يتنبّه بسهولةٍ ويُسْرٍ للنعم التي أنعم الله بها على الخلائق، وهي نِعَم غزيرة، دينية ودنيوية، عاجلة وآجلة، ظاهرة وباطنة، ومنها: تيسير الادّكار والاعتبار والاتّعاظ بالقرآن الكريم: فمن خصائص القرآن الكريم سهولة الاتّعاظ والادّكار به، وذَكر فيه من أنواع المواعظ والحِكَم والعِبَر، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ [طه:113]، ومنها: تيسير التذكير والإرشاد به: فإنّ أنجعَ كلامٍ في تذكير الناس، وإرشادهم وحثّهم على الخير، وزجرهم عن الشّر، كلامُ الله الذي خلق الإنسان وسوّاه، ويعلم سِرّه ونجواه، ودخائل نفسه، وما يستصلحه من الكلام، وما يؤثِّر فيه من الألفاظ والمواعظ؛ ومنها: تيسير بيانه ومعناه، وفهمه وتفسيره: فجعلُه سهلَ البيان والمعنى، ميسَّرَ الفهم، واضحَ التفسير، ليس فيه غموض، ولا تقعُّر في الألفاظ، ومنها: تيسير تلاوته وقراءته: فقد أنزل الله تعالى هذا الكتاب؛ ليُقرأ ويُعمل به، فلو لم يُيسِّر علينا قراءتَه، ما استطاع أحد أن يتلو منه حرفًا، فعن ابن عباس قال: «لولا أنّ الله يَسَّره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخَلْق أن يتكلّم بكلام الله عز وجل»، ومنها: تيسير عِلْم ما فيه، واستنباط معانيه: فاستنباط المعارف والعلوم، والأحكام والحِكَم، والأسرار واللطائف والسّنن الإلهية من كلام الله عز وجل، واستخراج ما تحويه الآيات من دقيق العلم وجليله، كل ذلك ميسر، ومنها: تيسير التأثُّـر به، وسرعة أخذِه بمجامع القلوب والعقول: فإذا تُليت آيات من الذِّكْر الحكيم، وقعتْ من السامع موقعًا عظيمًا، فيهتزّ لها قلبه، وتسكن إليها نفسه، وتخشع بسببها جوارحه، ومنها: تيسير تدبّره: قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29]، وقال أيضًا: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24]، ومنها: تيسير التلذّذ به والاستماع إليه: فلقد حثّ الله عباده على الاستماع للقرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف:204]، ومنها: تيسيره لمجاهدة الكفار والمنافقين والملحدين وغيرهم: فقد أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يجاهد الكفار والمنافقين بهذا الكتاب، فقال تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان:52].
أيها المسلمون
وفي القرآن الكريم تجليات، تجلى الله تعالى فيه لعباده، بصفاته العظمى، وأسمائه الحسنى، فتارةً يتجلَّى -سبحانه- بصفات الهيبة، والعظمة والجلال، حينئذ تخضع الأعناقُ، وتنكسر النفوسُ، وتخشع الأصواتُ، ويذوب الكبرُ في النفوس، وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء، وجَمال الصفات، وجَمال الأفعال، الدالَّة على كمال الذات، فيستنفد حبه حينئذ من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب ما عَرَفَ من صفات جَماله، ونعوت كماله، فيصبح فؤادُ عبده فارغًا، إلَّا من محبته -جل وعلا-، فإذا أراد منه الغيرُ أن يعلِّق تلك المحبةَ به أبى قلبُه، وأحشاؤه، كلَّ الإباء، فتبقى المحبةُ له -سبحانه- طبعًا لا تكلُّفًا،
وتارةً يتجلى -تبارك وتعالى- بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان، فتنبعث من النفس قوةُ الرجاء، وينبسط العملُ، ويقوى طبعُه، ويقوى طمعه، ويسير حينئذ إلى ربه، وكلما قَوِيَ الرجاءُ حينئذ جدَّ العبدُ في العمل،
وتارةً يتجلى -جل في علاه- بصفات العدل، والانتقام والغضب والعقوبة والسخط، فتنقمع النفس الأمارة بالسوء، وتبطل أو تضعف قواها في الشهوة المحرمة، والحرص على المحرمات، وتنقبض النفس، وتحضر حظها من الخوف والخشية، والحذر من عقوبة الخالق
وفي آيات أخرى يتجلَّى ربنا -تبارك وتعالى- بصفات الأمر والنهي، والعهد والوصية، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وشَرْع الشرائع، فتنبعث من النفوس قوة الامتثال والتنفيذ، لأوامره والتبليغ لها، والتواصي بها وذكرها وتذكرها، والتصديق بالخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنهي.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (مع القرآن وتجلياته)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي آيات أخرى يتجلَّى الخالق -سبحانه- لعباده بصفات السمع والبصر والعلم، فتنبعث من العبد قوةُ الحياء، فيستحي حينئذ من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يُخفي العبدُ في سريرته ما يمقُتُه عليه ربُّه، فتبقى حينئذ حركات العبد، وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع.
وفي آيات أخرى يتجلَّى الله تعالى بصفات الكفاية، والقيام بمصالح العباد، وسَوْق أرزاقهم إليهم، ودَفْع المصائب عنهم، ونُصرته لأوليائه، وحمايته لهم، ومعيته الخاصة بهم، فتنبعث من العبد حينئذ قوةُ التوكل على الله -جل وعلا-، والتفويض إليه، والرضا به في كل ما يُجريه على عبده، ويُقيمه فيه، مما يرضى به -سبحانه وتعالى-؛ فالتوكل معنى يلتئم مِنْ عِلْم العبدِ بكفايةِ اللهِ -جل وعلا-، وحُسْن اختياره لعبده، وثقته به ورضاه بما يفعله به، ويختاره له.
وإذا تجلَّى الله تعالى بصفاتِ العزِّ والكبرياءِ، أعطَتْ نفسُهُ المطمئنةُ ما وصلتْ إليه من الذلِّ لعظمتِه، والانكسارِ لعزَّتِه، والخضوعِ لكبريائِه، وخشوعِ القلبِ والجوارحِ له؛ فتعلُوه السكينةُ والوقارُ في قلبِه ولسانُه وجوارحُه وسمتُه ويذهبُ طَيشُه وقوتُه وحدتُه.
وجماعُ ذلك كله: أنه سبحانه يتعرفُ إلى العبدِ بصفاتِ إلهيَّتِهِ تارةً، وبصفاتِ ربوبيَّتِهِ تارةً؛ فيوجبُ له شهودُ صفاتِ الإلهية المحبةَ الخاصَّةَ، والشوقَ إلى لقائِه، والأنسَ والفرحَ به، والسرورَ بخدمتِه، والمنافسةَ في قربِه، والتودُّدَ إليه بطاعتِه، واللَّهَجَ بذكْرِه، والفرارَ من الخلقِ إليه، ويصيرُ هو وحدَهُ هَمَّهُ دونَ ما سوَاهُ.
ويوجبُ له شهودُ صفاتِ الربوبيةِ التوكلَ عليه، والافتقارَ إليه، والاستعانةَ به، والذلَّ والخضوعَ والانكسارَ له. وكمالُ ذلكَ كله أن يشهدَ العبد ربوبيَّتَهُ في إلهيتِه، وآلهيَّتَه في ربوبيَّتِه، وحمدَه في ملْكِهِ، وعزَّه في عفْوِه، وحكمَتَه في قضائِه وقدرِه، ونعمتَه في بلائِه، وعطاءَه في منعِه، وبرَّه ولطفَه وإحسانَه ورحمتَه في قيُّوميَّتِه، وعدلَه في انتقامِه، وجودَه وكرمَه في مغفرتِه، وسترِه وتجاوُزِه. ويشهدَ حكمتَه ونعمتَه في أمرِه ونهيِه، وعزَّه في رضَاهُ وغضبِه، وحِلمَه في إمهالِه، وكرمَه في إقبالِه، وغنَاهُ في إعراضِه.
الدعاء