خطبة عن (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)
مارس 17, 2018خطبة عن ( من عوائق التنمية في بلاد المسلمين كما تبينها سورة النمل)
مارس 17, 2018الخطبة الأولى ( من المواقف التربوية ..في سيرة خير البرية )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21) الاحزاب، وقال الله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (6) الممتحنة
إخوة الإسلام
تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبويّة متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من المواقف التربوية العظيمة والفوائد الجليلة، والتي تضع للدعاة والمعلمين والمربين منهج التربية ،وحسن التعامل ، مع مواقف الحياة ومجرياتها، فقد كان رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – أفضل الأسوة والقدوة التي يجب أن يحتذى بها في أسلوبه في تربية أصحابه؛ فكان صلى الله عليه وسلم مربيا تهوي إليه الأفئدة، وتشتاق إليه النفوس ، وقد استطاع صلى الله عليه وسلم أن يحدث تغييرا جوهريا في سلوكيات أصحابه في سنوات قليلة، وواجب على المربيين أن يتدارسوا سيرته – صلى الله عليه وسلم- للوقوف على منهجه في تربية أصحابه على المنهج الإسلامي، مستلهمين منها الدروس والعبر ،وتحويلها إلى واقع عملي، عملا بقوله تعالى : “لقد كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً” (الأحزاب،21). ومن الجوانب التي يحتاج المربون تعلمها من مواقف النبي – صلى الله عليه وسلم- هي تنمية مهارات المتربين المختلفة ، ليكونوا أفرادا نافعين لأنفسهم ،ومجتمعاتهم وأمتهم، ومن أمثلة ذلك : موقفه صلى الله عليه وسلم مع أسرى بدر (التعليم مقابل الفداء)،قال ابن عباس: كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه. وقبول النبي – صلى الله عليه وسلم- لتعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال ،يوضح سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة، والقضاء على الأمية ،ومن مواقفه صلى الله عليه وسلم أيضا في الحث والترغيب في التعلم: توجيه الصحابي زيد بن ثابت لتعلم لغة اليهود ، ففي مسند أحمد :(عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ زَيْداً أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ قَالَ زَيْدٌ ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأُعْجِبَ بِي فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غُلاَمٌ مِنْ بَنِى النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَال « يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي ». قَالَ زَيْدٌ فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ ). فالاهتمام بتنمية مهارات المتربي منذ صغره ،وصقلها ، لأمر هام للغاية، ولذا لا بد للمربي، أن ينظر دائما في مدى تحلي الأفراد بالمهارات ،التي تساعدهم على كسب الرزق، وكذلك المهارات التي تساعدهم على توصيل الدعوة بكفاءة وفعالية أعلى، بالإضافة إلى وضع الخطط والأهداف للأفراد ،لكى يحدث تطور في مهاراتهم، وتساعدهم على زيادة فرص العمل وزيادة الدخل.
ومن المواقف التربوية من حياة وسيرة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – :الشورى والمساواة : فغزوة بدر هي إحدى الغزوات المليئة بالمواقف التربوية ، ولعل من أبرزها موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأكيده لمبدأ الشورى ، باعتباره مبدأً من مبادئ الشريعة ، وصورة من صور التعاون على الخير ، يحفظ توازن المجتمع ، ويجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي ، بما يخدم مصلحة الجميع ،فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو المؤيَّد بالوحي – استشار أصاحبه في تلك الغزوة أربع مرات : الأولى : حين الخروج لملاحقة العير ، والثانية : استشارهم عن أفضل المنازل في بدر ، والثالثة :عندما علم بخروج قريشٍ للدفاع عن أموالها ، والرابعة : استشارهم في موضوع الأسرى ، وكل ذلك لِيُعُّلم الأمة ،أن تداول أي فكرة ،وطرحها للنقاش ، فهو يسهم في إثرائها ، وتوسيع أفقها ، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل الواقعة .وهذا الموقف التربوي في ترسيخ مبدأ الشورى ظهر كذلك جليا في غزوة الأحزاب ، فلما سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بزحف الأحزاب إلى المدينة ، وعزمها على حرب المسلمين ، استشار أصحابه ، وقرروا بعد الشورى التحصن في المدينة والدفاع عنها ، وأشار سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ اعتمادا علي خبرته في حرب الفرس ، بحفر خندق حول المدينة ، وقال : ” يا رسول الله ، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا ” . فوافقه النبي ـ صلى الله عليه وسلم وأقره ـ وأمر بحفر الخندق حول المدينة ، وتمّ تقسيم المسؤولية بين الصحابة .. لقد أنزل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشورى منزلتها ورسخَّها في حياة الأمة ، إذ الحاجة إليها في الشدائد والقرارات المصيرية على غاية من الأهمية ، فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب ، واجتماع للعقول في عقل ، وبناء يساهم الجميع في إقامته ، ولذا قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}… (الشورى: 38) ، ومن المواقف التربوية في سيرة خير البرية : تطبيق المساواة بين الجندي والقائد ، ومشاركته لهم في الظروف المختلفة ، يتضح ذلك في موقفه وإصراره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر على مشاركة الصحابي أبي لبابة وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ في المشي ، وعدم الاستئثار بالراحلة .. وفي الأحزاب تولى المسلمون وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المهمة الشاقة في حفر الخندق ، وكان لمشاركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفعلية في الحفر الأثر الكبير في الروح العالية التي سيطرت على المسلمين .
أيها المسلمون
ومن المواقف التربوية ، في سيرة خير البرية : لا .. للعصبية والفرقة : فعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن حقدهم الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين ، فسعوا ـ كعادتهم دائما إلى يومنا هذا ـ إلى محاولة التفريق بين المسلمين ، ففي الصحيحين واللفظ للبخاري ( أن جَابِرًا – رضى الله عنه – يَقُولُ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا ، حَتَّى تَدَاعَوْا ، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ . وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ . فَخَرَجَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ « مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ » . ثُمَّ قَالَ « مَا شَأْنُهُمْ » . فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ » . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا ، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ . فَقَالَ عُمَرُ أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ » ، فمع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها ، وقد سماهم الله بها على سبيل المدح لهم ، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100) ، إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت الاستعمال الخاطئ لتفريق المسلمين وإحياء للعصبية الجاهلية ، أنكر ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنكارا شديدا ، وقال قولته الشديدة : « دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ » ،وذلك حفاظا على وحدة الصف للمسلمين ، والتحذير من العصبية بجميع ألوانها ، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية ، أو الجنس ، أو اللون أو غير ذلك .. وهذا موقف تربوي عظيم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة الإسلامية على مر العصور ..ومن المواقف التربوية ، في سيرة خير البرية : إقالة ذوي العثرات: فعندما أكمل الرسول – صلى الله عليه وسلم – استعداده للسير إلى فتح مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها أجراً على أن تبلغه إلى قريش ، فجعلته في ضفائر شعرها ، ثم خرجت به إلى مكة ، ولكن الله ـ تعالى ـ أطلع نبيه – صلى الله عليه وسلم – بما صنع حاطب ، فقضى ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذه المحاولة ، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وسيرهم لفتح مكة .. والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها ، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة ، بل هو مِن أولي الفضل منهم ، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفا ، والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومع كل هذا فقد زلت به القدم في لحظة من اللحظات ، وكَمْ للنفس البشرية من زلات ، وهذا من سمات الضعف البشري ،والعجز الإنساني ، ليعلم الله عباده المؤمنين ،بأن البشر ما داموا ليسوا رسلاً ،ولا ملائكة ،فهم غير معصومين من الخطأ ، وهذا الذي عناه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله كما في سنن ابن ماجة: « كُلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ».
وقد عامل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاطبا ـ رضي الله عنه ـ معاملة رحيمة ،تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة ، فجعل – صلى الله عليه وسلم – من ماضي حاطب سبباً في العفو عنه ، وهو منهج تربوي حكيم ..فلم ينظر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب ـ وإن كانت كبيرة ـ ، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه ، فوجد أنه قد شهد بدراً ، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة ، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات ،وأعمال صالحة في حياتهم ، في مجال الدعوة والخير ، والعلم والتربية ، والجهاد ونصرة دين الله .. قال ابن القيم : ” من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت ، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر ، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره ، ويُعْفَى عنه ما لا يعفى عن غيره ، فإن المعصية خبث ، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ، بخلاف الماء القليل ، فإنه لا يحتمل أدنى خبث.” .ففي الصحيحين واللفظ للبخاري (فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ » . قَالَ حَاطِبٌ وَاللَّهِ مَا بِي أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ – صلى الله عليه وسلم – أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « صَدَقَ ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا » . فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَدَعْنِي فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ . فَقَالَ « أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ » . فَقَالَ « لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ » . فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ) إن إقالة العثرة ، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة ، ليس إقرارا لخطئه ، ولا تهوينا من زلته ، ولكنها ـ مع الإنكار عليه ومناصحته ـ إنقاذ له ، بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله ، وعطائه لدين الله .. ومن ثم فإقالة ذوي العثرات موقف تربوي عظيم من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة طبقه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي الله عنه ـ ..
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( من المواقف التربوية ..في سيرة خير البرية )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن المواقف التربوية ، في سيرة خير البرية : العفو والصفح :(اذهبوا فأنتم الطلقاء) : ففي السنة الثامنة من الهجرة نصر الله عبده ونبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم – على كفار قريش ، ودخل مكة فاتحًا منتصرًا ، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة ، وقد امتلأت قلوبهم رعبا وهلعًا ، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعد أن تمكن منهم ، ونصره الله عليهم ، وهم الذين آذوه ، وأهالوا التراب على رأسه ، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين ، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر ، بل وتآمروا عليه بالقتل – صلى الله عليه وسلم – ، وعذبوا أصحابه أشد العذاب ، وسلبوا أموالهم وديارهم ، وأجلوهم عن بلادهم ، لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قابل كل تلك الإساءات بموقف تربوي كريم في العفو ـ يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين ـ ففي سنن البيهقي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمْ حِينَ اجْتَمَعُوا فِى الْمَسْجِدِ :« مَا تَرَوْنَ أَنِّى صَانِعٌ بِكُمْ؟ ». قَالُوا : خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ :« اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ».
أيها المسلمون
ومن المواقف التربوية ، في سيرة خير البرية : لا رجعة للوثنية: فعندما خرج مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة حنين بعض حديثي العهد بالجاهلية ، وكانت لبعض القبائل ـ قبل الإسلام ـ شجرة عظيمة خضراء يقال لها (ذات أنواط) يأتونها كل سنة ، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها ، ويذبحون عندها ، ويعكفون عليها ، وبينما هم يسيرون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ وقع بصرهم على الشجرة ..ففي سنن الترمذي (عَنْ أَبِى وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ». وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم ، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ ، بل حذر من آثاره ونتائجه ، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك .. وهكذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربي أصحابه ، ويصحح ما يظهر من انحراف في القول أو السلوك أو الاعتقاد ، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء ..فالمخطئ والجاهل له حق على مجتمعه ، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه برفق ، وبأفضل الطرق وأقومها ، فلو أن المسلمين ـ وخاصة الدعاة والمربين ـ اقتدوا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبمواقفه التربوية مع أصحابه ، وما فيها من حلم ورفق ، ونصح وحكمة ، لأثروا فيمن يعلمونهم تأثيراً يجعلهم يستجيبوا لتنفيذ أمر الله وهدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. ومن المواقف التربوية ، في سيرة خير البرية : ( لا للغرور بالقوة ) : فالغرور يمنع النصر، وإذا كانت غزوة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئا بجانب كثرة أعدائهم ، فإن غزوة حُنين أكدت أن كثرة المسلمين لا تفيدهم ولا تنفعهم إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين ، إذ كان المسلمون في حنين أكثر عددا منهم في أي معركة أخرى خاضوها من قبل ، ومع ذلك لم تنفعهم الكثرة شيئا لما دخل إلى قلوبهم العجب والغرور ، فقد حجب الغرورُ النصرَ عن المسلمين في بداية المعركة ، حينما قال رجل من المسلمين : ” لن نُغْلب اليوم من قلة ” ، فشق ذلك على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت الهزيمة .. وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى : {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (التوبة : 25) ومن ثم نبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أهمية الاستعانة بالله في الحروب وغيرها ، ونِسْبة النصر والتوفيق إلى الله في كل شيء ، فكان دائما في غزواته وحروبه يلجأ إلى الله ، ويستعين به ، ففي مسند أحمد (عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ إِذَا لَقِىَ الْعَدُوَّ « اللَّهُمَّ بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ». ولعلَّ هذا الموقف من أبلغ المواقف التربوية في غزوة حنين ، وقد انتفع به الصحابة بعد ذلك في حروب كثيرة دارت مع الفرس والروم وغيرهما من أجناس الأرض ، وما فَرَّ المسلمون الذين شهدوا حُنَيْنًا بعد ذلك ، فكلهم أيقنوا أن النصر ليس بالعدد ولا بالعدة ، وأن الكثرة لا تغني شيئا ، ولا تجدي نفعاً في ساحات المعارك ، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان ، وأخذت بأسباب النصر وقوانينه .. فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها الكثرة والقلة والعدة فقط ، وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنا عنها ، إن لم تكن تفوقها أهمية واعتبارا ، قال الله تعالى : {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران: 126) ،وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد : 7)
أيها المسلمون
إن المتأمل في حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعجب من فقهه في معاملة النفوس ، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها ، وعلاج ما بها من خلل ، يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية.. ومن ثم تمر السنون والأعوام ، وتظل سيرة وغزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبراسا وهاديا ، يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح ، والعزة والتمكين .
الدعاء