خطبة عن الحديث القدسي (فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِي إِلَهًا فَأَنَا أَهْلٌ أَنْ أَغْفِرَ لَهُ)
نوفمبر 5, 2022خطبة عن الجن واستراق السمع (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا )
نوفمبر 5, 2022الخطبة الأولى ( من حكمة الله في الابتلاء )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (35) الأنبياء ،وقال الله تعالى : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) البقرة 155، وقال الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (2): (3) العنكبوت ، وفي سنن الترمذي : (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِىَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ».
إخوة الإسلام
من أسماء اللّه الحسنى : (الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ، ومن مقتضى ذلك أن تكون أفعاله سبحانه وتعالى ، وما يجري به قضاؤه وقدره لا يخلو من العلم والحكمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها ، ومن سنن الله في كونه وقوع الابتلاء بالمخلوقين ، وذلك اختباراً لهم, وتمحيصاً لذنوبهم , وتمييزاً بين الصادق والكاذب منهم ، وأكمل الناس إيمانا أشدهم ابتلاء ،ففي مسند أحمد : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ». ،فالمؤمن كل أمره خير في جميع أحواله ، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ».فقد اقتضت حكمة الله تعالى اختصاص المؤمن دون غيره غالباً بنزول البلاء ، وذلك تعجيلاً لعقوبته في الدنيا ، أو رفعاً لمنزلته ، أما الكافر والمنافق فيعافى ويصرف عنه البلاء، وتؤخر عقوبته في الدار الآخرة ، ففي صحيح مسلم : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ لاَ تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ وَلاَ يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلاَءُ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ لاَ تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ ».، ومن حكمة الله تعالى أنه لا يبتلي عباده المؤمنين بقواصم ظهر لا يتحملونها، بل يبتليهم ببلاء يتناسب مع إيمانهم، ففي سنن ابن ماجه : (يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِىَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ) ، فالله تعالى يرفق بعباده المؤمنين فيتدرج في ابتلائهم، يبتلى على قدر الإيمان، ثم يصبر، فيزيد الصبرُ الإيمانَ إلى درجة تؤهله لتحمل ابتلاء أشد، يبتليه الله ذلك البلاء، ثم يصبر، وهكذا، فيبقى البلاء يمتزج بالإيمان فيرتقيان بالعبد في المنازل إلى درجة ما كان يحلم بها ولا يتصور أنه أهل لها في بداية بلائه ، فاذا استشعر العبد هذه المعاني واللطائف انقلب البلاء في حقه الى نعمة ،وفتح له باب المناجاة ولذة العبادة , وقوة الاتصال بربه ،والرجاء وحسن الظن بالله ،وغير ذلك من أعمال القلوب ومقامات العبادة ما تعجز العبارة عن وصفة ، قال وهب بن منبه: لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ،ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء ،وصاحب الرخاء ينتظر البلاء
أيها المسلمون
والناس حين نزول البلاء على أقسام : فمنهم المحروم من الخير، وهو الذي يقابل البلاء بالتسخط ،وسوء الظن بالله واتهام القدر ، ومنهم الموفق الذي يقابل البلاء بالصبر وحسن الظن بالله ، ومنهم الراضي ، الذي يقابل البلاء بالرضا والشكر وهو أمر زائد على الصبر ، وقد ذكر العلماء للابتلاء حكما كثيرة ومتعددة ، أتناول اليوم -إن شاء الله- بعضا منها ، لأن فهم الحكمة من الابتلاء يخفف على المؤمن ما يجده إن كان البلاء بما تكرهه نفسه ، ويشكر الله تعالى إن كان البلاء فيما يحب ، ويعلم أن هذا البلاء مكتوب عليه ،فيتكيف مع هذا الظرف ،ويتعامل بما يتناسب معه ،ويعلم أيضا أن كل الخلق مبتلون مثله بنوع من البلاء ،كل بحسبه ،فلا يكاد يسلم أحد منه , ومن نظر في مصيبة غيره هانت عليه مصيبته، ويتذكر مصاب الأمة الإسلامية العظيم بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى انقطع به الوحي وعمت به الفتنه وتفرق بها الأصحاب ” كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله “، ويعلم ما أعد الله لمن صبر في البلاء ، أو شكر في الرخاء ، وأنه ربما ابتلاه الله بهذه المصيبة دفعاً لشر وبلاء أعظم مما ابتلاه به , فاختار الله له المصيبة الصغرى وهذا من لطفه ، وأنه ربما يكون مقصرا وليس له كبير عمل فأراد الله أن يرفع منزلته ويكون هذا العمل من أرجى أعماله في دخول الجنة ، وقد يكون غافلا معرضاً عن ذكر الله مفرطاً في جنب الله مغتراً بزخرف الدنيا , فأراد الله قصره عن ذلك ، وإيقاظه من غفلته ورجوعه الى الرشد.
أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (2) الملك ،وقال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) الانعام ، فهذه الدار هي دار الابتلاء والاختبار والامتحان ، والكل فيها مبتلى بالخير والشر ، بما يحب وبما يكره ، قال الله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (35) الانبياء ، ومن فوائد البلاء وحكمته : أولا : أن في البلاء تكفيرا للذنوب ومحوا للسيئات : فقد روى الترمذي وصححه الألباني:( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ».وفيه أيضا : (عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . ، ثانيا : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن في الابتلاء رفعا للدرجات : فقد روى مسلم في صحيحه :(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) . ثالثا : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن في البلاء تقوية الإيمان بالقضاء والقدر: يقول الشيخ محمد بن عثيمين: “على الإنسان أن يؤمن بقضاء اللّه وقدره، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]، وقال الله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. فعلى المسلم أن يؤمن بمشيئة اللّه في عموم ملكه فإنه ما من شيء في السماوات أو في الأرض إلا وهو ملك للّه عز وجل، وما من شيء في ملكه إلا وهو بمشيئته وإرادته فبيده الملك، وبيده مقاليد السماوات والأرض، ما من شيء يحدث من رخاء وشدة، وخوف وأمن، وصحة ومرض، وقلة وكثرة، إلا بمشيئته سبحانه وتعالى، فالإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة لا يتم الإيمان إلا به، لكنه ليس حجة للإنسان على فعل معاصي اللّه أو التهاون بما أوجب اللّه، وجه ذلك أنّ اللّه أعطاك عقلا تتمكن به من الإرادة، وأعطاك قدرة تتمكن بها من العمل فلذلك إذا سلب عقل الإنسان لم يعاقب على معصية، ولا ترك واجب، وإذا سلب قدرته على الواجب لم يؤاخذ بتركه” ، رابعا : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن الابتلاء جسر يوصل إلى أكمل الغايات: يقول ابن القيم رحمه اللّه: “إذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته وجدت أنه ساقهم به إلى أجلّ الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم للّه من نعمة جسيمة ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان” (مفتاح دار السعادة). خامسا : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن الابتلاء وسيلة للتمكين في الأرض: قيل للشافعي رحمه اللّه يا أبا عبد اللّه، أيهما أفضل للرجل أن يمكّن أو يبتلى؟ ، فقال الشافعي : “لا يمكّن حتى يبتلى، فإنّ اللّه تعالى ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات اللّه عليهم أجمعين فلما صبروا (على الابتلاء) مكّنهم” (الفوائد لابن القيم). سادسا: ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن في البلاء تمحيصا للمؤمن وتخليصه من الشوائب المنافية للإيمان: فالمصائب التي تصيب الناس في أنفسهم أو في أرزاقهم، أو غير ذلك مما يتصل بهم مما يسرهم الكمال فيه ويؤلمهم النقص منه، تكمن حكمتها في التمحيص الناتج عن هذا الابتلاء والامتحان. فالبلايا والمحن محك يكشف عما في القلوب وتظهر به مكنونات الصدور، ينتفي بها الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة بكل جلاء .. تطهير لا يبقى معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى فيه غبش ولا خلل، فالشدائد والنوازل تستجيش مكنون القوى وكوامن الطاقات، وتتفتح بها في القلوب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا حين تعرض للابتلاء، وعند الحوادث يتميز الغبش من الصفاء والهلع من الصبر، والثقة من القنوط. سابعا : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن في البلاء ردعا وتحذيرا من الغرور: فالعقوبة العاجلة على ما اقترفه الإنسان أو الجماعة أو الأمة من معاص تقتضي حكمة المولى عز وجل أن تعجل عقوبتها حيث إن فيها ردعا وتحذيرا وعبرة، لهم ولغيرهم من الأفراد والجماعات، وقد أشارت إلى ذلك الآية الكريمة: {كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163]. ثامنا : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن في البلاء رحمة بالعصاة والتخفيف عنهم يوم القيامة: فمن حكمة الابتلاء بالعقوبة أن يعجل اللّه للمذنب عقوبته فتأتيه في الدنيا تخفيفا عنه يوم القيامة، يقول اللّه عز وجل: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. تاسعا : ومن فوائد الابتلاء وحكمته: أن في البلاء إقامة حجة العدل على العباد: يقول ابن القيم رحمه اللّه: “ومنها (أي من الحكم في الابتلاء بالضراء) إقامة حجة عدله عز وجل على عبده ليعلم هذا العبد أن للّه عليه الحجة البالغة، فإذا أصابه من المكروه شيء فلا يقول: من أين هذا؟ ولا من أين أتيت؟ ولا بأي ذنب أصبت؟ وما نزل بلاء قط إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة” (مفتاح دار السعادة). عاشرا : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن في الابتلاء تحقيقا لعبودية لله رب العالمين فإن كثيراً من الناس عبدٌ لهواه وليس عبداً لله ، يعلن أنه عبد لله ، ولكن إذا ابتلي نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين , قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) الحج/11 . الحادي عشر : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن في الابتلاء إعدادا للمؤمنين للتمكين في الأرض قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ،ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة ،فإذا امتحن صبر ،وإذا صبر مكن .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( من حكمة الله في الابتلاء )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ونواصل حديثنا عن حكمة الله في الابتلاء : فمن فوائد الابتلاء وحكمته : أن البلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكل فهو يطلعك عمليّاً على حقيقة نفسك لتعلم أنك عبد ضعيف ،لا حول لك ولا قوة إلا بربك ،فتتوكل عليه حق التوكل ،وتلجأ إليه حق اللجوء ،حينها يسقط الجاه والتيه والخيلاء ،والعجب والغرور والغفلة ،وتفهم أنك مسكين يلوذ بمولاه ، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز سبحانه .قال ابن القيم :” فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه ” ، الثالث عشر: ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن في الابتلاء إظهارا لحقائق الناس ومعادنهم . فهناك ناس لا يعرف فضلهم إلا في المحن . قال الفضيل بن عياض : ” الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه ” ، ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي “الدَّلائِل” عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ : اُفْتُتِنَ نَاس كَثِير – يَعْنِي عَقِب الإِسْرَاء – فَجَاءَ نَاس إِلَى أَبِي بَكْر فَذَكَرُوا لَهُ فَقَالَ : أَشْهَد أَنَّهُ صَادِق . فَقَالُوا : وَتُصَدِّقهُ بِأَنَّهُ أَتَى الشَّام فِي لَيْلَة وَاحِدَة ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة ؟ قَالَ نَعَمْ , إِنِّي أُصَدِّقهُ بِأَبْعَد مِنْ ذَلِكَ , أُصَدِّقهُ بِخَبَرِ السَّمَاء , قَالَ : فَسُمِّيَ بِذَلِكَ الصِّدِّيق . الرابع عشر : ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن الابتلاء يربي الرجال ويعدهم : فلقد اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم العيش الشديد الذي تتخلله الشدائد ، منذ صغره ليعده للمهمة العظمى التي تنتظره والتي لا يمكن أن يصبر عليها إلا أشداء الرجال ، الذين عركتهم الشدائد فصمدوا لها ، وابتلوا بالمصائب فصبروا عليها . الخامس عشر: ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور ، وأن الحياة الصحيحة الكاملة وراء هذه الدنيا ، في حياة لا مرض فيها ولا تعب ، قال الله تعالى : ( وَإِن الدارَ الآخِرَةَ لَهِىَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ ) العنكبوت/64 ، أما هذه الدنيا فنكد وتعب وهمٌّ ، قال الله تعالى: ( لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ ) البلد/4 . السادس عشر: ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك بأبلغ بيان معنى الصحة والعافية التي كنت تمتعت بهما سنين طويلة ، ولم تتذوق حلاوتهما ، ولم تقدِّرهما حق قدرهما .المصائب تذكرك بالمنعِم والنعم ، فتكون سبباً في شكر الله سبحانه على نعمته وحمده . السابع عشر: ومن فوائد الابتلاء وحكمته : أن الابتلاء يجعل المؤمن يشتاق إلى الجنة ، فلن تشتاق إلى الجنة إلا إذا ذقت مرارة الدنيا , فكيف تشتاق للجنة وأنت هانئ في الدنيا ؟
أيها المسلمون
ومن الأمور التي تخفف البلاء على المبتلى ،وتسكن الحزن ،وترفع الهم وتربط على القلب : أولا: الدعاء: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإذا كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه، لكن يخففه ويضعفه، ولهذا أمر عند الكسوف والآيات بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة. ثانيا: الصلاة: (قَالَ حُذَيْفَةُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى) رواه أحمد. وفيه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ » ثالثا : الصدقة : ففي سنن الترمذي : (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ ». ” وفى الأثر “داووا مرضاكم بالصدقة” ، رابعا : تلاوة القرآن: قال الله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) الاسراء 82، خامسا : الدعاء المأثور: قال الله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (155) :(157) البقرة ، فما استرجع أحد في مصيبة إلا أخلفه الله خيرا منها.
الدعاء