خطبة عن (غذاء الروح والجسد)
فبراير 4, 2024خطبة عن (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)
فبراير 6, 2024الخطبة الأولى (من دلالات الإسراء والمعراج)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (1) الإسراء
إخوة الإسلام
لقد كرَمَ الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأيده بالمعجزات، والحُجج والبراهين الدالة على صدق رسالته، ومِن بين هذه المعجزات: (الإسراء والمعراج)، من بيت الله الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وتنطوي هذه الرحلة المعجزة على معانٍ ودلالات عظيمة، كما تتضمن دروسًا وعبرًا عديدة، وسأذكر لكم اليوم -إن شاء لله تعالى- أهم هذه الدلالات والعبر، والدروس والفوائد، التي تضمنتها هذه الرحلة النبوية المباركة:
فمن دلالات الإسراء والمعراج: أن هذا الحدث كان تنفيسا لكرب النبي ﷺ، وتفريجا لهموم أصابته، وتأييدا له في نشر دعوته. فالإسراء والمعراج: منحة في قلب المحنة: فانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم وقد مات عمّه أبو طالب، وماتت زوجه أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها، وسبه وضربه أهل الطائف، ففي هذا الجو المشحون بالمحن، تأتى هذه المنحة الربانية لتعلو به على كلّ أحداث الأرض، ليكون هناك مع ملائكة الرحمن. وكانت رحلة الإسراء والمعراج تثبيتا لفؤاده صلى الله عليه وسلم، وتأكيدا لصلته الوثيقة بالله تعالى، حتى يطمئن قلبه، وتقوى عزيمته. كما تُعلمنا هذه الرحلة المباركة: أن اليسر مع العُسر، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب.
ومن الدلالات أيضا: أن في هذه الرحلة تكريما من الله تعالى لنبيِّه ﷺ، ورفعا لقدره، حيث أطلعه الله على بعضِ الحقائق الغيبية، وبين له مكانته عنده، وفضله على إخوته الأنبياء.
ومن الدلالات: أن قوع الإسراء والمعراج في جزء من الليل، يؤكِّد ويُعمِّق في نفس المؤمن قدرة الله، التي لا يحدُّها شيء، فالله تعالى على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومن الدلالات: أهمية الصلاة ومنزلتها في الإسلام: فكل الشعائر الدينية فُرضت بواسطة جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا الصلاة؛ فهي من الله إلى نبيِّه دون وسيطٍ، وفي هذا مَلْمَح لكل مؤمن، بأنَّ روحه تعرج في الصلاة إلى السماء، كما عرج نبيُّ الإسلام روحًا وجسدًا إلى سدرة المنتهى. فالصلواتِ الخمس هي عماد الدين، وهي أمُّ العبادات، وأشرف الطاعات، وأعظم القربات، وإذا قُبِلت الصلاة قُبِلت سائر الأعمال الصالحة.
ومن الدلالات: أن هذه الرحلة كانت اختباراً جديداً للمسلمين في إيمانهم، ويقينهم وثباتهم، ففي تصديق أبي بكر رضي الله عنه إبرازٌ لأهميّة الإيمان بالغيب، والتسليم له، طالما صحّ فيه الخبر، وفي ردّة ضعفاء الإيمان تمحيصٌ للصفّ الإسلامي من شوائبه، حتى يقوم الإسلام على أكتاف الرّجال الذين لا تهزّهم المحن أو تزلزلهم الفتن.
ومن الدلالات: أن اجتماع الأنبياء والرسل له – صلى الله عليه وسلم – والصلاة خلفه، فيه دليل على عموم رسالته وشموليتها، وأن الله سيُخضِع له الأرض ويُمكِّنه فيها، وأن رسالته الخاتمة سيجمع الله له فيها ما تفرَّق بين الرسالات السابقة. وأنّ دعوة الأنبياء واحدة، فالكل جاء بالتوحيد الخالص من عند الله عز وجل.
من دلالات الإسراء والمعراج: أن معراجه بدأ وانتهى على أرض بيت المَقدِس، وهي رسالة واضحة تقول: أن هذه الأرض يوم تكون معكم يُعزكم الله، ويرفع قدركم، وهي تحدِّد قوتكم من ضعفكم، فيوم تكون معكم، فأنتم سادة الدنيا وقادتها، ويوم تكون بيَدِ عدوكم، فأنتم الضعفاء المقهورون، وأيضا: فإن الانطلاق من بيت الله الحرام إلى بيت المقدس فيه إشارة واضحة بأن استقلال بيت المقدس يَرتبِط ارتباطًا جوهريًّا ببيت الله الحرام.
ومن الدلالات: أن الله تعالى يُري رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من دلائل قدرته، ومن عجائب خلقه، ومن أحوال بعض الناس في الدار الآخرة: قال تعالى :﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيات رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 18]، فقد شاهد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة الجنّة ونعيمها، ورأى شجرة المنتهى: ففي الصحيحين: (أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ)، ورأى صلى الله عليه وسلم رجُلاً يجمَع حزمةً من حطَب عظيمة لا يستطيع أنْ يحملها، ثم هو يزيدُ عليها حطبًا جديدًا، فلمَّا سأل جبريلَ – عليه السلام – أجابَه بقوله: “هذا الرجل من أمَّتك تكون عنده أمانات الناس، لا يقدر على أدائها، ويريد أنْ يتحمَّل عليها”. ورأى الرسول- صلى الله عليه وسلم – قومًا على أقْبالِهم رِقاع، وعلى أدْبارهم رِقاع، يسرَحُون كما تسرح الإبل والغنم، ويأكُلون الضريع (وهو اليابس من الشوك)، والزَّقُّوم (وهو ثمرُ شجر مرٌّ له زفرة؛ أي: شجر من النار وهو المذكور في قوله تعالى: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 64]، ويَأكُلون من رضف جهنم (أي حِجارتها المحماة)، فلمَّا سأل الرسولُ جبريلَ – عليه السلام – قال: “هؤلاء هم الذين لا يُؤدُّون الصدقات المفروضة عليهم في أموالهم”. ورأى الرسولُ الكريم – صلى الله عليه وسلم – رجالاً لهم مَشافر كمَشافر الإبل (يعني: شفاهًا كشفاهها)، وفي أيديهم قطعٌ من نار كالأفهار (وهي الحجارة التي كلٌّ واحدٍ منها ملء الكف)، يَقذِفونها في أفْواههم فتخرُج من أدبارهم، فلمَّا استفسر الرسولُ – صلى الله عليه وسلم – عن طبيعة تلك المرئيَّة أجابَه جبريل – عليه السلام – بقوله: “هؤلاء أكَلَةُ أموال اليتامى ظُلمًا”. ورأى الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – رجلاً يسبَحُ في نهرٍ من دمٍ يُلقَم الحجارة، فلمَّا سأل جبريل – عليه السلام – قال: آكِل الربا، وقد شبَّهه الله – تعالى – في محكم التنزيل بقوله: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275]. ورأى الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم – قومًا بين أيديهم لحمٌ نضيجٌ في قُدور، ولحم نِيءٌ في قُدورٍ أيضًا، فجعلوا يأكلون من ذلك النِّيء الخبيث، ويدَعُون النَّضِيج الطيِّب، فلمَّا سأل الرسول عن تفسير تلك المرئيَّة أجابَه جبريل – عليه السلام – بقوله: “هذا الرجل من أمَّتك تكون عنده المرأة تقومُ من عند زوجها حَلالاً طيبًا، فتأتي رجلاً خبيثًا، فتبيت عنده حتى تصبح”. ورأى أناسًا تُقرَض ألسنتهم وشِفاههم بِمَقاريض من حديد، كلَّما قُرضت عادتْ كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فاستفسر، فأبان له جبريل – عليه السلام – “أنهم خُطَباء الفتنة من أمَّتك، يقولون ما لا يفعلون”. ورأى الرسول- صلى الله عليه وسلم – “أقوامًا يُقطَع اللحم من جنوبهم فيُلقَمونه، فيُقال لهم: كُلْ كما كنت تأكُل لحم أخيك”، وفسَّرَها جبريل – عليه السلام – للرسول- صلى الله عليه وسلم – بأنَّ هؤلاء هم الهمَّازون من أمَّتك، اللَّمَّازون للناس”، ورأى الرسول – صلى الله عليه وسلم – “جحرًا صغير يخرُج منه ثورٌ عظيم، فجعل الثور يريدُ أنْ يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع”، وفسَّره جبريل بقوله: “هذا الرجل من أمَّتك يتكلَّم الكلمة العظيمة، ثم يندم عليها، فلا يستطيع أنْ يردَّها”
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (من دلالات رحلة الإسراء والمعراج)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ومن دلالات رحلة الإسراء والمعراج: أنَّ هذا الإسلام هو دين الفطرة البشريَّة: ففي تلك الرحلة جاءه جبريل عليه السلام بثلاثة آنية، الأوّل مملوء بالخمر، والثاني بالعسل، والثالث باللبن، فاختار النبي – صلى الله عليه وسلم – إناء اللبن فأصاب الفطرة، ولهذا قال له جبريل عليه السلام: ” أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك ” رواه البخاري. فالإسلام دين الفطرة البشريَّة؛ فالَّذي خلق الفطرة البشريَّة خلق لها هذا الدِّين، الَّذي يلبِّي نوازعها، واحتياجاتها، ويحقِّق طموحاتها، ويكبح جماحها، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30] .
ومن الدلالات: أن هذه الرحلة تحمل درسا في معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه: فها هي قريش تطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يصف لها بيت المقدس، ورسول الله لم يكن قد رآه من قبل، ففي صحيح مسلم: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ». وصدق الله إذ يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } غافر:51.
ومن الدلالات : وجوب بلاغ العلم حتى لو كره الناس: فقد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قص القصة على أم هانئ وقال: “مثل لي النبيون فصليت بهم” ثم قام ليخرج إلى المسجد، فتشبثت أم هانئ بثوبه، فقال: “ما لك؟” قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم. قال: “وإن كذبوني”. وفي هذا درس للدعاة إلى الله عز وجل، أن يبلغوا أمانة الله تعالى، رضى الناس أم غضبوا، فالداعية يطلب رضا الله لا رضا الناس، ففي صحيح ابن حبان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس).
الدعاء