خطبة عن (من المواقف التربوية .في سيرة خير البرية)
مارس 17, 2018خطبة عن ( هيا إلى الحسنات الجارية )
مارس 17, 2018الخطبة الأولى ( من عوائق التنمية في بلاد المسلمين كما تبينها سورة النمل)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) 15: (19) النمل
إخوة الإسلام
حديثا اليوم -إن شاء الله- عن عوائق التنمية في بلاد المسلمين كما تبينها سور النمل ،فمن خلال تدبر سورة النمل، تلك السورة التي تشير إلى حقيقة كثيرا ما تغيب عنا، وهي أن هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم، والذي ننبهر بما وصل إليه من تقدم ،وتطور بعد ظهور دول تمتلك قوة عظيمة، هو نفسه العالم الذي شهد منذ آلاف السنين ملكا عظيما، لم ولن تعرف له البشرية مثيلا، حيث انقادت فيه الريح والشياطين والحيوان والإنسان لسلطان ملك واحد ،هو نبي الله سليمان عليه السلام. ونحن اليوم إذ نفتخر بأننا نعيش في عصر ثورة الاتصال، حيث أصبحت صورة الحدث تأتينا في بيوتنا من مكان الحدث نفسه ساخنة ومباشرة، خلال ثواني معدودة ،حتى ولو بعد عنا آلاف الكيلومترات، فعلينا أن لا ننسي ،أن هناك من كان يأتيه الحدث لا صورته في مدة تطول لو حسبت بالثواني، فعرش بلقيس لا صورته جيء به إلي نبي الله سليمان عليه السلام في أقل من طرفة عين . لذلك وبعد هذه المقارنة السريعة ،فإنه يحق لنا القول ،بأنه إذا كان من الحكمة أن نتعلم ونستفيد من تجارب بعض هذه الدول القوية ،والتي تقود عالم اليوم، فإنه من الحكمة أيضا – بل هو الحكمة بعينها – أن نتعلم ونستفيد من ” مملكة آل داوود العظيمة ” ما يعيننا علي بناء دولة إسلامية قوية ومعاصرة، وذلك من خلال العودة إلي هذه السورة الكريمة ( سورة النمل )،والتي قدمت لنا تلك المملكة العظيمة : (مملكة آل داود عليهم السلام ) ، ومن الأهمية بمكان أن أقول – وهو ما سأشير له من خلال لقطات خاطفة – بأن كل النماذج المعاصرة والتي استطاعت أن تبني قوة عظيمة سواء كانت اقتصادية، أو عسكرية، أو علمية، إنما تمكنت من ذلك من خلال الاستفادة من أربعة أسس لبناء دولة قوية ، قدمتها هذه السورة الكريمة ، وسأعرضها بعجالة في هذه الخطبة من خلال أربع وقفات :
الوقفة الأولي :- العلم أولا :- فإن من يتدبر هذه السورة الكريمة ،سيجدها كغيرها من سور هذا الكتاب العظيم ، قدمت دعوة صريحة وقوية للتعلم، فلا يمكن الحديث عن أعظم مملكة في تاريخ البشرية ، دون التحدث عن العلم، وتاريخ البشرية يشهد بأنه لم يستطع شعب جاهل أن يؤسس دولة قوية. لذلك ، نجد أنه في كل هذه السورة الكريمة لم ترد كلمة الجهل – وبكل مشتقاتها- إلا مرة واحدة، وجاءت ليصف بها الحق سبحانه وتعالي قوم لوط الذين عُرفوا بأخس الأعمال وأنكرها، في حين أن كلمة العلم بمشتقاتها تكررت في هذه السورة ثلاثة عشر مرة . وقد جاء ذكر هذه الكلمة في اسم من أسماء الله الحسني ورد في مقدمة هذه السورة، في قوله تعالى 🙁 وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) النمل (6) ، والحكيم العليم عندما أراد أن يذكر ما أنعم به علي آل داوود – وهو الذي أنعم عليهم بنعم كثيرة وعظيمة – لم يذكر إلا نعمة العلم ، فقال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ النمل (15) ، وسليمان عليه السلام لما أراد أن يعدد نعم الله عليه، ذكر نعمة منفردة وهي نعمة العلم، وبدأ بها، في حين أجمل بقية النعم الأخرى، وجعلها في مرتبة ثانية بعد نعمة العلم ، فقال تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) النمل (16) ، فالعلم هو الذي يجعل المستحيل ممكنا، فنبي الله سليمان عليه السلام ،عندما طلب أن يُؤتي إليه بعرش بلقيس، قُدمت له عروض ، كان أقواها وأسرعها من حيث التنفيذ ، العرض الذي قدمه من وصف بالعلم ، قال الله تعالى : (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) النمل (40) ، ونحن لسنا بحاجة إلى أن نطيل الحديث عن العلم والتعلم، كما أننا لسنا بحاجة لأن نؤكد هنا بأنه لا يمكن الحديث عن أي تنمية، ولا عن أي دولة إسلامية قوية، مادامت الأمية تنتشر في عالمنا الإسلامي، حيث زادت نسبتها علي50٪ في بعض دول أمة النبي صلي الله عليه وسلم، والذي كان أول ما أنزل إليه من القرآن العظيم ، قول الله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (1) :(5) العلق
الوقفة الثانية :- لابد من مشاركة الجميع :- ففي هذه المملكة العظيمة ( مملكة آل داود ) وفي هذه السورة الكريمة ( سورة النمل ) ، ذكر الله تعالي مخلوقين صغيرين ضعيفين، أحدهما : كان سببا في نجاة أمة من الناس من هلاك أخروي مبين، وثانيهما : كان سببا في إنقاذ أمة من الحشرات من هلاك دنيوي محقق. فهذا “سبق صحفي” جاء به الهدهد، قال تعالى : ( فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) النمل (22) ، وهذه “صفارة إنذار” أطلقتها نملة ، قال الله تعالى : (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) النمل (18) ، مع أنه كان من الأولي، وفق المنطق السليم، أن يأتي بهذا ” السبق الصحفي ” أو أن تطلق “صفارة الإنذار” بعض المخلوقات القوية في هذه المملكة العظيمة، كالجان أو الريح مثلا. وقد أطلقت صفارة الإنذار نملة نكرة، قد تكون من العساكر، وقد تكون من الوصيفات أو الشغالات، فكل ذلك لا يهم، وإنما المهم هو الفعل ، فالحكيم العليم لم يعرفها ، بل تركها نكرة ، وهو ما يمكن أن نستخلص منه ، أن إنقاذ أمة ، أية أمة، لا يقتصر فقط على نخبها وقادتها وزعمائها، بل قد يأتي من نكرة من الناس، تماما كما أنقذت نملة نكرة أمتها. وفي ذلك “السبق” وفي ” صفارة الانذار ” إشارة واضحة وجلية ،بأنه لابد أن يشارك الكل صغارا وكبارا، ضعفاء وأقوياء، في بناء الدولة القوية التي نحلم بها. وهنا لابد من الإشارة إلي أننا – وفي أغلب بلدان العالم الإسلامي – نعاني من ظاهرة هي تناقض تماما هذه الصور الإيجابية ،التي قدمها لنا هذا الهدهد ، وتلك النملة. فأغلب حكومات العالم الإسلامي ما تزال عاجزة عن إشراك ودمج نسب هامة من شعوبها في معركة التنمية، فلا يمكن الحديث عن تنمية في بلد لم يزل نصفه، أو ثلثه، أو ربعه، عالة عليه. فلابد من إدماج الشرائح المستضعفة ،والمقصية ، في مسيرة التنمية ، وذلك من خلال تعليم الأميين، وخلق مصادر للدخل في الأوساط الأكثر فقرا، حتى تتمكن هذه الفئات الواسعة ،من المشاركة في بناء الدولة ، بدلا من أن تظل عالة عليها. ومع أن الحكومات مطلوب منها – وهذا مطلب ملح جدا – أن تخلق بيئة مناسبة لإحداث تغيير في الأوساط الفقيرة، يمكن الفقراء من المشاركة في بناء الدولة، إلا أن ذلك لا يمنع من القول بأن قرار التغيير لا يمكن أن يتخذه في النهاية إلا الفقراء المستضعفون أنفسهم
الوقفة الثالثة :- العمل ثم العمل ثم العمل :- فلم يكن “المؤسس الأول” لهذه المملكة العظيمة (مملكة نبي الله داود عليه السلام ) لم يأكل إلا من عمل يده ، ففي صحي البخاري (حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَنَّ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ لاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » ، فأي دعوة للعمل أبلغ وأشد صراحة من هذه الدعوة ،التي تركها لنا داوود عليه السلام، فذلك النبي الذي لا يأكل إلا من عمل يده ،مع أن الله تعالى قد خصه بأن جعل الحديد لينا بين يديه كعجينة الطحين، وقد مكنته هذه المعجزة من أن يؤسس ما يمكن أن نُطلق عليه بلغة العصر، أول مصنع للصناعات الحربية. ونحن في العالم الإسلامي اليوم أغلب حكوماتنا سلبية، وأغلب مواطنينا سلبيين ، ولا توجد في بلداننا صناعة، لذلك فلا يمكن أن نتحدث عن نهضة جادة، لأن السماء لا تمطر ذهبا (كما قال الفاروق رضي الله عنه)، وهي كذلك لا تمطر نهضة، ولا تنمية. ونحن هنا لا نطالب بصناعات حربية – وإن كان يشرع لنا ذلك – وإنما نطالب بأن نصنع قليلا مما نستهلك، فأمتنا تأكل مما يزرعه الآخرون، وتلبس مما ينسجه الآخرون، وتنام علي ما تستورده من الآخرين، وحديثا قيل : من يصنع لك ، يصنعُك. لقد ترك لنا داوود عليه السلام دروسا كثيرة ،سأكتفي هنا بذكر درسين من تلك الدروس: أولهما لفقراء الأمة، وثانيهما لأغنيائها، ولابد من العمل بهما معا لتحقيق أي تنمية. فلفقراء الأمة – وما أكثرهم – أقول : لا تهجروا العمل، ولا تتكبروا عليه، فقد كان داوود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده. ولأغنياء الأمة أقول: لا تنغمسوا في حياة الترف، والبذخ، وجياع أمتكم كثر، وأعلموا أن داوود عليه السلام –وهو من أنعم الله عليه بنعم كثيرة – كان يصوم يوما، ويفطر يوما. وفي الصحيحين (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضى الله عنهما – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَأَحَبَّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( من عوائق التنمية في بلاد المسلمين كما تبينها سورة النمل)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
الوقفة الرابعة : ( أن نتعلم كيف نتعامل مع الكوارث والازمات ) :- ففي عالمنا اليوم والذي كثرت فيه الكوارث والأزمات والحروب تقدم لنا هذه السورة الكريمة نموذجين في غاية الروعة للتعامل مع الأزمات ، وما قدمته هذه السورة في هذا المجال هو ما يدندن حوله أهل الاختصاص في عالمنا اليوم. النموذج الأول : جاء من “مملكة سبأ” والتي استدعت ملكتها أهل الرأي للمشاركة في جلسة ” تشاورية ” أو ” تفكيرية ” لدراسة أفضل السبل للتعامل مع ذلك التهديد الخطير الذي ظهر فجأة من خلال رسالة شديدة اللهجة جاء بها هدهد. فالملكة شاورت، وحاورت ، وقدمت سيناريو لما يمكن أن يحدث ، قال الله تعالى : (قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) النمل (32) :(35) ، فهذا الأسلوب المتميز في التعامل مع الازمات والكوارث ،مكن الملكة من أن تدير أزمة خطيرة، بطريقة مثلي، جنبت شعبها خسارة دنيوية وأخروية محققة. أما النموذج الثاني في التعامل مع الازمات والكوارث: فقد جاء من ” وَادِ النَّمْلِ ” وهو نموذج يختلف تماما عن النموذج الأول، ففي ” وَادِ النَّمْلِ ” كانت الكارثة وشيكة جدا، وكان الموقف حرجا جدا، ولم يكن هناك متسع من الوقت للتشاور والتحاور. فلو أن النملة التي شعرت بقرب الخطر أخذت تتشاور وتتحاور مع بقية النمل لهلكت وأهلكت معها النمل، لذلك كان من اللازم أن تصدر قرارا عاجلا، دون أن تتشاور مع البقية ، قال الله تعالى : (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) النمل (18) ، ولقد برأت النملة سليمان وجنوده عندما قالت : (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، وكأنها بذلك لا تريد أن تفتح مجالا للنقاش في غير وقته، وهو نقاش قد لا ينتهي إلا بعد هلاك النمل. فلو لم تكن تلك النملة حاسمة في تبرئتها لسليمان عليه السلام لاشتغل النمل بالحديث عن الخطر وعن دوافعه، وربما تحدث النمل عن ” المؤامرة ” التي خطط لها جند سليمان عليه السلام ضد وادي النمل البريء المسالم, وربما هلك النمل ـ وهو يتبارى في الكلام ـ كما يحدث اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية، والتي تواجه ـ عادة ـ التهديدات والأخطار ، وذلك في الوقت الذي تستسلم فيه لفكرة المؤامرة التي تستحيل مواجهتها.
وعموما فعلي حكوماتنا وشعوبنا أن يتعلموا من النمل دروسا أخري غير الانفراد باتخاذ القرار في أوقات الكوارث والأزمات، ولو أن حكوماتنا وشعوبنا تعلموا من النمل القدرة على ” التخطيط”، و ” التضحية “، و”روح العمل الجماعي “، و ” القدرة العالية علي التنظيم “، و” الإصرار والمثابرة مع القدرة علي الاستمرار” لكان حال عالمنا الإسلامي يختلف تماما عن حاله اليوم. ويكفي أن نعرف بأن النمل يمتلك قدرة عجيبة في تحديد الجهد اللازم لإنجاز أي عمل، فهو لا يبذر الطاقات من أجل انجاز عمل تافه، كما أنه لا يبخل بتلك الطاقات عندما يكون أمام عمل عظيم يستحق أن تبذل من أجل الجهود. ففي تجربة مثيرة لأحد دارسي النمل، تمت تغطية قطعتين من مادتين مختلفتين بالسكر، وكان وزن إحدى القطعتين يضاعف وزن الثانية ثلاث مرات، في حين أن الحجم كان متساويا. لقد جاءت النملة التي اكتشفت القطعتين بتسع من النمل لحمل القطعة الخفيفة، وبسبع وعشرين نملة لحمل القطعة الثقيلة!فليتنا تعلمنا من النمل هذه الخاصية، فكم من أمور تافهة استنفرت لها الدول الإسلامية وبُذِّرت من أجلها الطاقات والجهود؟ وكم من أعمال عظيمة بُخِل عليها بتلك الطاقات والجهود؟ وعلى الشعوب في الإسلامية أن تتعلم من النمل ضرورة محاسبة ومعاقبة كل من يعطي وعودا زائفة، سواء كان من يعطي تلك الوعود الزائفة سياسيا أو حاكما. لقد ذُكر أن رجلا وضع قطعة من الحلوى على طريق نملة فلما رأت النملة قطعة الحلوى سارعت إلى إرسال إشارة إلى باقي النمل كي يأتي ليشاركها في هذه القطعة، ولكن ما كاد النمل يقترب من قطعة الحلوى حتى قام الرجل بسحبها. بحث النمل عن القطعة، ولكنه لم يجدها، فما كان منه إلا أن غادر المكان، ولكن النملة التي جاءت بالبشرى بقت في المكان للحظات، وهي لحظات استغلها الرجل ووضع قطعة الحلوى من جديد، فرحت النملة بذلك وزفت البشرى من جديد للنمل الذي جاء مسرعا، ولكن الرجل كرر فعلته، وسحب قطعة الحلوى من قبل وصول النمل إليها. عاد النمل وبقت النملة في المكان محتارة من الأمر. وللمرة الثالثة أعاد الرجل القطعة لمكانها، وللمرة الثالثة زفت النملة البشرى للنمل، وللمرة الثالثة جاء النمل مسرعا ولكنه لم يجد شيئا، ولكن النمل في هذه المرة، وبدلا من يعود من حيث أتى، اتجه إلى النملة التي خدعته لثلاث مرات ليهجم عليها وليقتلها شر قتلة.
وفي ختام الحديث عن مملكة آل دواود العظيمة فلا بد من الإشارة إلى أن هذه المملكة العظيمة كان قد تم خرابها ـ بعد عام من موت سليمان عليه السلام ـ على يد نملة من النمل الأبيض (الأرضة ) المعروف بفساده وإفساده، وربما يكون في ذلك إشارة إلا أن الدول العظيمة قد يأتي خرابها بأفعال بسيطة من أعداء صغار لم يكن يحسب لهم أي حساب. يقول الله تعالى في سورة سبأ : (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) سبأ 14. فلولا تلك النملة التي خربت العصا التي كان يستند عليها سليمان عليه السلام، لما سقط سليمان عليه السلام، ولما علمت الجن والشياطين بموته، وبنهاية ملكه. وقد لا يكون من المناسب أن أختم دون أن أعود إلي مقارنة عجيبة وعميقة تركها لنا سليمان عليه السلام، وهو الأولي من غيره بأن يقوم بتلك المقارنة. لقد قارن هذا الملك وهو أعظم ملك دنيوي، وبين أبسط عمل أخروي: (لتسبيحة واحدة يتقبلها الله تعالى منك خير مما أوتي آل داود ) حلية الأولياء فقد زال ملك سليمان العظيم، وبقيت تسبيحاته في صحيفته ،فسبحان الله وبحمده ،عدد خلقه ،ورضا نفسه ،وزنة عرشه ،ومداد كلماته .
الدعاء