خطبة عن (بشارات في الأزمات)
يناير 10, 2024خطبة عن ذكر الله ،والرزق الكفاف ،وحديث ( خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ ، وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي )
يناير 13, 2024الخطبة الأولى (موقف الإسلام من الحزن والسرور)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) المائدة (41)، وقال تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (65) يونس، وقال تعالى: (فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) (76) يس
إخوة الإسلام
الحياة الدنيا ليست دار أفراح دائمًا، بل فيها ما يُفرح، وفيها ما يُحزن، والحزنُ العارض الذي يحدث بسبب وجود أمر محزن، كفقد عزيز أو غيره، لا لوم على الإنسان فيه، ففي صحيح البخاري: (أن عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ لَمَّا جَاءَ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ)، وفي الصحيحين: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضى الله عنه – قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ – وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – تَذْرِفَانِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ – رضى الله عنه – وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ «يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ». ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ – صلى الله عليه وسلم – «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ »
وقد سجلت سيرة رسول الله العطرة مواقف لحزنه صلى الله عليه وسلم، فكان منها: حزنه صلى الله عليه وسلم على فتور الوحي بعد نزوله عليه أول مرة، ففي صحيح البخاري: (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّىَ، وَفَتَرَ الْوَحْىُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -). فحري بكل مؤمن يمر عليه يوم لا يقرأ فيه شيئا من القرآن أن يحزن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حزن على فترة الوحي، مع أن ذلك ليس بيده، فكيف بمن يستطيع أن يقرأ الوحي في كل وقت ليتغذى به قلبه، وتهتدي به نفسه، ويصلح به حاله، ثم يقصر في ذلك، فلا يحزن على تقصيره؟،
أيها المسلمون
وإذا كان الاسلام قد اجاز الحزن المؤقت، إلا أنه قد نهى عن الحزن الدائم، فالحزن الدائم المستمر له تأثير ضار على من يُصاب به؛ فالله عز وجل يحب من عباده ألا يَحزنوا، قال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (139) آل عمران، وقد وردت آيات في القرآن الكريم، تنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن؛ قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 176]؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يحزن أشد الحزن على مسارعة الكفار في كفرهم، ويخشى ضررهم على أهل الإيمان؛ لأنهم يفتنون الناس بأقوالهم وأفعالهم ،وكم قذفوا من الشبهات لتشكيك المؤمنين في إيمانهم، ورد المقبلين على الإيمان عن إقبالهم، وتثبيت أهل الكفر على كفرهم؟، وكم عذبوا المؤمنين في مكة وعلى صخورها؟ كل ذلك كان يُحزن النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه الله تعالى عن ذلك، وبين سبحانه أن عاقبة كفرهم وصدهم عن الإيمان عائد عليهم، ولا يضر الله تعالى ولا دينه شيئا، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 41].
ونحن في واقعنا اليوم نرى كثيرا من العلماء والمصلحين يحزنون من نكران بعض المثقفين للحق رغم وضوحه، ذاهلين عن حقيقة هذه المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ففي الصحيحين: (أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ»، فلا جدوى من كثير من النقاشات والجدال مع من فسد قلبه، وتغيرت فطرته، وذهب عقله.
أيها المسلمون
وإذا كان الإسلام قد نهى عن الحزن، فقد أمر بإدخال السرور على المسلم، فقال تعالى: ﴿ تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ﴾ [الأحزاب:51]؛ فمن فوائد الآية: أنه ينبغي مُراعاة المُؤمن بإدخال السرور عليه، وانتفاء الحزن عنه؛ لقوله تعالى: (وَلَا يَحْزَنَّ)؛
فمن وجد محزونًا وكان بإمكانه طمأنته، وتسكين روعه، فينبغي له فعل ذلك، قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]؛ قال العلامة العثيمين رحمه الله: ينبغي طمأنة المحزون ببشارته بمستقبله؛ لأنه يقول: ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. وقال الله جل جلاله: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم: 24]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: سكَّن الملك روعها، وثبَّت جأشها، وناداها من تحتها، لعله من مكان أنزَلَ من مكانها، وقال لها: لا تحزني، أي: لا تجزعي ولا تهتمي.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (موقف الاسلام من الحزن والسرور)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فإدخال السرور على قلوب الناس، وإسعاد النفوس وإدخال البشر إليها، ورسم البسمة على الوجوه، وصنع البهجة في النفوس، فهذا كله عمل جليل، وأمر لا يدركه إلا الأنقياء والأصفياء من عباد الله، ولا تستطيعه إلا النفوس الكبيرة العظيمة، وفي السلسلة الصحيحة للألباني : (أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، و لأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ، يعني مسجدَ المدينةِ شهرًا، و مَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، و مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، و مَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ)، فإدخال السرور على الناس قيمة عالية من قيم هذا الدين العظيم، وقد رتب عليه الشارع الحكيم أعظم الجزاء وأوفره. ففي الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم). وفي الحديث الذي رواه الطبراني: (عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدخل على أهل بيت من المسلمين سرورًا، لم يرضَ الله له ثوابًا دون الجنة). وفيه: (من لقي أخاه المسلم بما يحب الله ليسره بذلك سره الله عز وجل يوم القيامة). وفيه: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخالك السرور على مؤمن أشبعت جوعته، أو سترت عورته، أو قضيت له حاجة). ولما سئل بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: ما بقي من لذاتك في الدنيا؟ قال: إدخال السرور على الإخوان . وهذا الإمام مالك يسأله سائل فقال: “أي الأعمال تحب؟”، فكان الجواب: “إدخال السرور على المسلمين، وأنا نذرت نفسي أن أفرج كربات المسلمين”
الدعاء