خطبة عن ( مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ )
أكتوبر 23, 2021خطبة عن ( حقيقة الإنسان في القرآن )
أكتوبر 23, 2021الخطبة الأولى ( مَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (162) ،(163) الأنعام
إخوة الإسلام
المسلم هو المستسلم لله سبحانه وتعالى ، وهو المنقاد لشرعه ، وأمره ونهيه ، المسلم هو الذي يعبد الله عز وجل لأنه ربه وخالقه المستحق للعبادة ، فقد آمن بعظمة الله وقيوميته ووحدانيته ، فملك عليه قلبه ونفسه ، وجعل حبه لربه مقصد معاشه ومعاده ، وحياته ومماته ، ورجا أن يتقبله الله تعالى في عباده الصالحين . فمن استشعر هذه المعاني ، سعى في استحضار نية التقرب لله عز وجل في جميع شؤون حياته ، فإذا نام احتسب نومه لله عز وجل ، كي يستعين براحة جسمه على العبادة حين يستيقظ ، وإذا أكل أو شرب قصد بذلك التقوي للقيام بحقوق الله ، وإذا تزوج أراد إعفاف نفسه ، والاشتغال بالحلال عن الحرام ، وإذا طلب الذرية قصد الذرية الصالحة التي تعمر الأرض بمنهج الله ، وإذا تكلم فبالخير تكلم ، وإذا سكت فإمساكاً عن الشر ، وهو يرجو بنفقته على نفسه وأهله الأجر والثواب أيضاً ، وإذا تعلم وقرأ ودرس احتسب ذلك أيضاً… ، وهكذا تكون مقاصده في أعماله كلها ، ومن ذلك يتبين لنا معنى قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ) (162) ،(163) الأنعام ،فحياتي وما آتيه فيها ، وما أحيا عليه في عمري من العبادة ، كله لله عزّ وجلّ. ومماتي وما أموت عليه من الإيمان والتوحيد والرجاء والخوف ، والعمل الصالح نيته وفعله وباطنه وظاهره ، كله لله جل وعلا ، وخالصًا لله رب العالمين ، وكذا فإن حياتي وموتي بيد الله تبارك وتعالى ، ففي هذه الآية مقام التسليم لله ، وفيها درجة التفويض إلى الله ، وذلك بناء عن مشاهدة توحيد ، ومعاينة يقين وتحقيق ; فإن الكل من الإنسان لله ، أصل ووصف ، وظاهر وباطن ، واعتقاد وعمل ، وابتداء وانتهاء ، وتوقف وتصرف ، وتقدم وتخلف ، فلا شريك لله فيه ، لا منه ولا من غيره يضاهيه أو يدانيه . وروى مسلم في صحيحه : (عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ « وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِى وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ »
أيها المسلمون
فإذا أخلص العبد المسلم عمله كله لله ، أصبحت المباحات عبادات يثاب عليها ،قال ابن تيمية رحمه الله : ” ينبغي ألا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة ، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة “، فالأمور المباحة ، لا يؤجر عليها صاحبها إلا إذا احتسبها لتحقيق مقصد من مقاصد الخير والفضل والأجر ، وقد ذكر ابن القيم : أن خواص المقربين هم الذين انقلبت المباحات في حقهم إلى طاعات وقربات بالنية ، فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين ، بل أعمالهم راجحة “، وفي صحيح البخاري : (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ »، قال الإمام النووي – رحمه الله – معلقاً على الحديث :” وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة ويثاب عليه ، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد: (حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ) ؛ لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية ،وشهواته وملاذه المباحة ، وإذا وضع اللقمة في فيها ،فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة ،والتلذذ بالمباح ، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة ، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك ، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى . ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئا أصله على الإباحة ، وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه ، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله تعالى ، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطاً ، والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكف نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام ، وليقضي حقها ، وليحصل ولداً صالحاً ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ) ، وقال السيوطي رحمه الله :” ومن أحسن ما استدلوا به على أن العبد ينال أجرًا بالنية الصالحة في المباحات والعادات قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري : « الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » ،فهذه يثاب فاعلها إذا قصد بها التقرب إلى الله ، فإن لم يقصد ذلك فلا ثواب له “
أيها المسلمون
وإذا أخلص العبد لله عمله ، وتقرب إلى الله بعباداته ، استشعر الأنس بالله ، والأُنس بالله تعالى, والتعلق به من أعظم النعم التي يُنعم الله بها على عباده في الدنيا والآخرة، فعندما يُرزق العبد محبة الله تبارك وتعالى, وتملأ المحبة قلبه, فإنه يشعر بأنه إنسان آخر, وأنه في عالم آخر، فهذه المحبة هي التي ملأت قلب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم, وقلوب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم, حتى جعلتهم يقدمون أشياء نادرة ،لم تتكرر في التاريخ – فهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، يتصدق بكل ماله ولا يدع لأهله منه شيئا ، وهذا عثمان بن عفان يدفع ملايين الأموال، وعبد الرحمن بن عوف، وهكذا كل الصحابة، هذا كله نتيجة حلاوة الإيمان التي ملأت قلوبهم، فأصبح أعظم شيء في حياتهم إنما هو مرضاة الله تبارك وتعالى، والأنس به سبحانه وتعالى ،فغنى العبد بطاعة ربه والإقبال عليه، وإخلاص الأعمال لله أصل الدين وتاج العمل، وهو عنوان الوقار، وسمو الهمة، ورجحان العقل، وطريق السعادة، ولا يتم أمر ،ولا تحصل بركة ، إلا بصلاح القصد والنية، وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في أكثر من آية، فقال له : ” فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ” [الزمر: 2] ،وقال الله تعالى : ” قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ” [الزمر: 11] ،وقال الله تعالى : ” قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ” [الزمر: 14] ، فصلاح العمل من صلاح النية، وصلاح النية من صلاح القلب .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول ابن مسعود رضى الله عنه : ” لا ينفع قول وعمل إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية إلا بما وافق السنة ” . ويقول ابن الجوزي: ” ما أقل من يعمل لله تعالى خالصاً؛ لأن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم ” . وهذا سفيان الثوري يقول : ” ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، لأنها تتقلب علي ” ،فالعمل من غير نية خالصة لوجه الله طاقة مهدرة، وجهد مبعثر، وهو مردود على صاحبه، والله تعالى غني حميد لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً له سبحانه، ففي سنن النسائي: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَالَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَيْءَ لَهُ فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَيْءَ لَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ) وروى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِى تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ». فالعبرة في الإسلام ليست بكثرة العمل فحسب، إنما الواجب صحة الإخلاص لله وكثرة العمل الموافق لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد جمع ربنا ذلك في قوله تعالى : ” وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ” [البينة: 5] ،والعمل ـ وإن كان كثيراً ـ مع فقد صحة المعتقد يورد صاحبه النار قال سبحانه : ” وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ” [الفرقان: 23] . وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى : ” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ” [الملك: 2] ، قال : ” أخلصه وأصوبه قالوا : يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ” . وبعض الناس يظن أن الإخلاص إنما هو فقط في الصلاة وقراءة القرآن وأعمال العبادات الظاهرة كالدعوة إلى الله والإنفاق، وهذا غير صحيح، فالإخلاص واجب في جميع العبادات حتى زيارة الجار ،وصلة الرحم ،وبر الوالدين، فهذه مطلوب فيها الإخلاص، وهي من أجل العبادات، وكل فعل يحبه الله ويرضاه واجب فيه إخلاص النية مهما كان العمل، حتى في جانب المعاملات كالصدق في البيع والشراء ،وحسن معاملة الزوجة ،والاحتساب في إصلاح الأولاد وغيرها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ » رواه البخاري ،فكل أمر يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فهو عبادة، وواجب فيها الإخلاص وإن دق العمل .
الدعاء