خطبة عن (من صور الصدق)
مايو 11, 2023خطبة عن (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ)
مايو 14, 2023الخطبة الأولى ( مُجَاهدة النفس )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه : (فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ : « كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلاَّ الَّذِى مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ،فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ ». وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ ».
إخوة الإسلام
لقد أمر الله تعالى عباده أن يجاهدوا فيه حق جهاده، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته ،ويقول العلماء : الجهاد أربع مراتب : أولها : جهاد النفس، وثانيها: جهاد الشيطان، وثالثها: جهاد الكفار، ورابعها: جهاد المنافقين ،والأصل والأساس هو جهاد النفس ،فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً ،فيبدأ بها ،ويلزمها بفعل ما أمرت به ،وترك ما نهيت عنه ،لم يستطع جهاد عدوه الخارجي ،ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد: (وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ ».، ويبين الله تعالى لنا أهمية جهاد النفس أولا ، قبل جهاد الأعداء ،في هذا الموقف من بني اسرائيل ،حينما أمرهم الله تعالى بجهاد عدوهم ،فأمرهم أولا أن يجاهدوا أنفسهم ، ويتحكموا في شهواتهم ، فقال الله تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ) ،هكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يختبر صدق إيمانهم ،وطاعتهم لله ،وطاعتهم لنبيهم وملكهم وقائدهم، وليصفي من أفراد الجيش من كان غير مؤهل للقتال ،وغير صادق في نيته، وطاعته لأمر ربه ، فقال الملك طالوت لجنوده من بني اسرائيل : إننا سنصادف نهرا في الطريق، يختبر الله به قوة إيمانكم ، واحتمالكم وصبركم ،وصدق عزائمكم، فمن أحجم عنه ولم يشرب من مائه طاعة لربه ، وجهادا لنفسه فهو مني ،ويستمر في السير لقتال العدو معي ،ومن شرب منه ،فليخرج من الجيش، ومن لم يذقه وإنما بل ريقه فقط ،فليبق معي في الجيش، فلما وردوا النهر ،شرب معظم الجنود، وخرجوا من الجيش، وكان هذا الامتحان ليميز الخبيث من الطيب ،ومن يطيعه من الجنود ومن يعصاه، وليعرف أيهم قوي الإرادة ، ويجاهد نفسه بتحمل العطش، وأيهم ضعيف الإرادة ويستسلم لرغباته، فكانت النتيجة : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ )، فمن لم يستطع أن يجاهد نفسه ، فلن يستطيع أن يجاهد أعداءه،
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ( جهاد النفس أربع مراتب : أحدها: أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين. الثانية: أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها. الثالثة: أن تجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله ، الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله)، فإذا استكمل العبد المؤمن هذه المراتب الأربع ، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم ، فذلك يدعي عظيماً في ملكوت السموات، وفي وصية لقمان لابنه قال: (يا بني، إن الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حزون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حزنت، فإذا اجتمعا استقامت ).
ومما لا شك فيه أن النفس تكره مشقة الطاعة، وإن كانت تعقب لذة دائمة، وتحب لذة الراحة، وإن كانت تعقب حسرة وندامة، فالنفس تكره قيام الليل وصيام النهار، وتكره التبكير في الذهاب إلى المسجد، فكم من شخص يجلس الساعات في المقاهي والأسواق ويبخل بالدقائق القليلة يجلسها في المسجد، والنفس تكره إنفاق المال في طاعة الله، وتكره الجهاد في سبيل الله، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (البقرة:216). ،والنفس تكره الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وهي تكره القيام بالإصلاح بين الناس، وهكذا ، فما من طاعة إلا وللنفس منها موقف الممانع المعارض، فإن أنت أطعتها أهلكتك وخسرتها، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } (الزمر:15).
أيها المسلمون
والناس في مع النفس قسمان : قسم ظفرت به نفسه ،فملكته وأهلكته ،وصار مطيعاً لها، وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله القِسمين في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (النازعات:37-41). ،فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يأمر عبده بخوفه ونهي النفس عن الهوى، والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي الرب فينجو، والنفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى الإنفاق في سبيله فيقول سبحانه: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (التغابن:16). ،فالنفس قد تسمح بالملايين في سبيل البذخ والإسراف ،ولا تسمح بالقرش للفقير والمحتاج، والنفس تكون تارة أمّارة بالسوء، وتارة لوّامة تلوم صاحبها بعد الوقوع في السوء، وتارة مطمئنة وهي التي تسكن إلى طاعة الله ومحبته وذكره، فكونها مطمئنة وصف مدح، وكونها أمّارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم.
وجهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها ،ففي سنن الترمذي : (عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ » ،ومعنى: دان نفسه: أي حاسبها ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } (الحاقة:18). ، وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه ). ،وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة ). ، وقال الحسن: ( وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، ويعين الإنسان على محاسبة نفسه معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً، وأنه إذا حاسبها اليوم ربح سكنى الفردوس غداً، وإذا أهملها اليوم فخسارته بدخول النار غداً ). فحق العاقل الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن مجاهدة نفسه ومحاسبتها ،ويظهر التغابن بين من حاسب نفسه اليوم ومن أهملها يوم القيامة، قال الله تعالى : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } (آل عمران:30).
أيها المسلمون
وعن فضل المجاهد النفس: قال العلامة ابن رجب: “إنّ في حبس النّفس على المواظبة على الفرائض من مخالفة هواها وكفّها عمّا تميل إليه ما يوجب ذلك تكفير الصّغائر”، وأضاف: “فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه، وحصل له النّصر والظفر، وملك نفسه، فصار عزيزًا ملكًا، ومَن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك، غلب وقهر وأسر، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه”. (جامع العلوم والحكم) .، وعن أهمية المجاهد النفس : يقول الإمام سفيان الثوري رحمه اللّه: “ما عالجتُ شيئًا أشدّ عليّ من نفسي، مرّة لي ومرّة عليّ”.، وقد ذكر العلامة ابن رجب الحنبلي أنّ أبا بكر الصّدّيق كتب لعمر بن الخطاب عندما استخلفه: “إنّ أوّل ما أحَذِّرُك منه نفسك الّتي بين جنبيك”. ،فإذا كان سيّدنا أبو بكر الصّدّيق رضي اللّه عنه يرى أنّ أوّل الخطر من نفس عمر رضي اللّه عنه، ويرى المحدّث سفيان الثوري رحمه اللّه أنّ علاج أهواء النّفس من أشقّ الأعمال، فإنّه يجب على المؤمن أن يهتم في هذه الفتن والأهواء بأعلى درجات المجاهدة للنّفس حتّى يسلس قيادها،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مُجَاهدة النفس )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وعن مجالات المجاهدة ، يقول العلماء : مجاهدة النّفس لها مجالات متعددة : تشمل فعل الخيرات والقُربات ،واجتناب المحرّمات والسّيِّئات ،وفق ضوابط الشّرع ،كإسباغ الوضوء في شدّة البَرد ، فهي من جنس الآلام الّتي تحصل للنّفوس في الدّنيا، وكذا حبس النّفس في المسجد لانتظار الصّلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج إلى المواضع الّتي تميل النّفوس إليها، إضافة إلى الصّلوات الخمس ،والجمعة إلى الجمعة ،وكذلك رمضان إلى رمضان
ومن صور مجاهدة النفس عند سلفنا الصالح : فقد دخل رجل على سيّدنا عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه، فقال له عمر: “إنّك إن تلقَى اللّه ومَظلمتك كما هي خيرٌ لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها” ، وكان عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه لا يسجُد إلّا على التُّراب، ويقول سيّدنا الحسن رضي اللّه عنه: “أي قوم، المداومة المداومة؛ فإنّ اللّه لم يجعَل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت” ،وقال الحسن رضي اللّه عنه: “رحم اللّه عبدًا وقف عند همِّه، فإن كان للّه أمضاه، وإن كان لغيره تأخَّر”.
أيها المسلمون
فلابد من جهاد النفس ، لأن النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت، فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بد له منها، وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره ، حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق ، فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره،
الدعاء