خطبة عن (آثار المعاصي على الفرد والمجتمع)
أكتوبر 26, 2025الخطبة الأولى (مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
روى الترمذي وغيره وصححه الألباني: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ». وفي رواية للإمام أحمد: «إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ قِلَّةَ الْكَلاَمِ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ»
إخوة الإسلام
هَذَا الحَدِيثُ الجَلِيلُ هو مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فهو يَضَعُ لَنَا قَاعِدَةً كُبْرَى فِي التَّرْبِيَةِ وَالأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ؛ فَالإِسْلَامُ دِينٌ يَرْفَعُ قِيمَةَ الإِنْسَانِ، وَيُهَذِّبُ سُلُوكَهُ، وَيُرَبِّيهِ عَلَى التَّوَازُنِ بَيْنَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ»، أَيْ إِذَا كَانَ الإِسْلَامُ حَسَنًا كَامِلًا فِي النَّفْسِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، كَانَ مِنْ ثَمَرَاتِ ذَلِكَ: أَنْ يَتْرُكَ الْمَرْءُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنَ القَوْلِ، وَالفِعْلِ، وَالنَّظَرِ، وَالاهْتِمَامِ.
ونحن نشاهد كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَدَخَّلُونَ فِي مَا لَا يَعْنِيهِمْ؛ ويَتَكَلَّمُونَ فِي أُمُورِ الآخَرِينَ، وَيَتَتَبَّعُونَ أَخْبَارَهُمْ، وَيَخُوضُونَ فِي سِيرَتِهِمْ، وَيُضَيِّعُونَ أَوْقَاتَهُمْ فِي لَا فَائِدَةٍ، وَقَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36]. فَمَنْ تَتَبَّعَ مَا لَا يَعْنِيهِ أَضَاعَ وَقْتَهُ، وَأَشْغَلَ قَلْبَهُ، وَنَقَصَ قَدْرُهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ فِي الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالظُّنُونِ، وقد قالوا في الأمثال: (من تدخل فيما لا يعنيه، سمع ما لا يرضيه).
وإِنَّ تَرْكَ المرء مَا لَا يَعْنِيه يَدُلُّ عَلَى رُقِيِّ فِكْرِه، وَسُمُوِّ نَفْسِه، وَحِكْمَتِه فِي الحَيَاةِ؛ فَالمُؤْمِنُ الحَقُّ يَشْغَلُ نَفْسَهُ بِمَا يَنْفَعُهُ، وَيَعْرِفُ أَنَّ عُمْرَهُ رَأْسُ مَالِهِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: “مَنْ أَشْغَلَ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، فَقَدْ أَضَاعَ حَظَّهُ مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا”، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: “إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قِيمَةَ الإِنسَانِ، فَانْظُرْ فِيمَا يُشْغِلُ نَفْسَهُ”.
أَيُّهَا المسلمون
إِنَّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِينَا لَيْسَ سَلْبِيَّةً وَلَا انْطِوَاءً، بَلْ هُوَ حِكْمَةٌ وَعَفَافٌ وَسُؤْدُدٌ، فَالمُسْلِمُ لَا يَتَدَخَّلُ فِي خُصُوصِيَّاتِ النَّاسِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ، وَلَا يُضَيِّعُ وَقْتَهُ فِي اللَّغْوِ وَالقِيلِ وَالقَالِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون:1-3]، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ وَتَرْكَ مَا لَا يَعْنِي هُوَ مِنْ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْفَائِزِينَ، فَتَأَمَّلُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ كَيْفَ جَعَلَ اللهُ الإِعْرَاضَ عَنِ اللَّغْوِ فِي صَدْرِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَقَاءِ النَّفْسِ وَسَكِينَتِهَا. وقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا تَكَلَّمْ بِكَلَامٍ تُعْتَذَرُ مِنْهُ غَدًا».
فاحْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ أَلْسِنَتُكُمْ نَظِيفَةً، وَأَقْلَامُكُمْ عَفِيفَةً، وَقُلُوبُكُمْ سَلِيمَةً، فَكَمْ أَهْلَكَتِ الغِيبَةُ وَالظُّنُونُ أُنَاسًا كَانُوا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَمْ نَقَصَتْ قِيمَةُ رِجَالٍ بِسَبَبِ كَلِمَةٍ تَفَوَّهُوا بِهَا فِي مَا لَا يَعْنِيهِمْ، فَالمُؤْمِنُ يَتَوَقَّفُ قَبْلَ كُلِّ كَلِمَةٍ، وَيَتَفَكَّرُ: هَلْ فِيهَا خَيْرٌ فَأَقُولُهُ؟ أَمْ شَرٌّ فَأَسْكُتُ؟
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية (مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقوله صلى الله عليه وسلم: «تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»: يَشْمَلُ أُمُورًا كَثِيرَةً فِي حَيَاةِ المُسْلِمِ؛ فَيَتْرُكُ كُلَّ مَا لَا يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى مَا يُرْضِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي زَمَانٍ كَثُرَتْ فِيهِ الْمَشَاغِلُ وَالْمَلَاهِي، وَتَسَلَّلَ فِيهِ فُضُولُ الكَلَامِ وَالتَّدَخُّلُ فِي الشُّؤُونِ، نَحْتَاجُ أَنْ نُرَبِّي أَنْفُسَنَا وَأَبْنَاءَنَا عَلَى أَدَبِ التَّرْكِ لِمَا لَا يَعْنِينَا. قَالَ بَعْضُ الحُكَمَاءِ: “مَنْ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ، سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَعِرْضُهُ”.
فمِن كَمالِ مَحاسنِ إسْلامِ المُسلِمِ، وتمامِ إيمانِهِ، ابتِعادُه عمَّا لا يَخُصُّه ولا يُهِمُّه، وما لا يُفيدُهُ مِن الأقْوالِ، والأفْعالِ، وعَدَمُ تدخُّلِه في شُؤونِ غَيرِهِ، وعدَمُ تَطفُّلِهِ على غَيرِهِ، فيما لا يَنفَعُهُ ولا يُفيدُهُ،
ويَدخُلُ أيضًا في عُمومِ المَعْنى: الابتِعادُ عمَّا لا يَعني ممَّا حرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ، وما كرِهَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما لا يُحتاجُ إليه: مِن فُضولِ المُباحاتِ مِن الكَلامِ، والأفْعالِ، والأحْوالِ؛
وممَّا لا يَعني الإنسان ليس محصورًا في الأمورِ الدُّنيويَّة؛ بل إنَّ ممَّا لا يَعنيه أيضًا ما هو متعلِّقٌ بأُمورٍ أُخرويةٍ: كحقائقِ الغيبِ، وتفاصيلِ الحِكَم في الخَلْقِ والأمْرِ، ومنها السؤالُ والبحثُ عن مسائِلَ مُقدَّرةٍ ومُفترَضةٍ لم تقَعْ، أو لا تكادُ تقَعُ، أو لا يُتصوَّرُ وقوعُها.
فَلْنَتَأَدَّبْ بِهَذَا الأَدَبِ النَّبَوِيِّ، وَلْنَجْعَلْهُ مِيزَانًا لأَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا، فَنَزِنُ كَلِمَاتِنَا قَبْلَ أَنْ نَنْطِقَ بِهَا، وَنُفَكِّرُ فِي أَعْمَالِنَا قَبْلَ أَنْ نُقْدِمَ عَلَيْهَا.
الدعاء
