خطبة عن (الَّذِينَ يَبْغُونَهَا عِوَجًا)
مايو 8, 2023خطبة حول قوله تعالى ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ )
مايو 9, 2023الخطبة الأولى (مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) (22): (28) المعارج، وقال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (57): (61) المؤمنون
إخوة الإسلام
إن الشَفَقَةُ مِن الذُنُوبِ، والخوفُ من علام الغيوبُ، أمرٌ مهمٌ ومطلوبٌ، فَقَد وَصَفَ اللهُ المُؤمِنِينَ المُتَّقِينَ بِالشَّفَقَةِ من عذاب يومِ الدِّين، ومن الساعةِ وجلون، فمن صفات المؤمنين وأخلاقهم أنهم: (مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)، فهم خائفون وجلون مشفقون من عذاب الله في الدنيا والآخرة، لأن عذاب ربهم لا ينبغي لأحد أن يأمنه، فقد قال الله تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) (97): (100) الاعراف، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
فالمؤمنون مع قوة إيمانهم، وكثرة أعمالهم الصالحة، لا يجزمون بنجاتهم من عذاب الله تعالى، وإنما دائما أحوالهم مبنية على الخوف والرجاء، وهم لِخَشيَتِهم مِن رَبِّهم- حَذِرونَ خائِفونَ مِن عِقابِه، وهم يُداوِمونَ على طاعتِه، فهم من أصحاب الحساسية المرهفة، والرقابة اليقظة، والشعور بالتقصير في جناب الله، على كثرة العبادة، والخوف من تلفت القلب، واستحقاقه للعذاب في أية لحظة، والتطلع إلى الله للحماية والوقاية، وَعَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَروِي عَن رَبِّهِ جَلَّ وَعَلا أَنَّهُ قَالَ: « وَعِزَّتي لا أَجمَعُ عَلَى عَبدِي خَوفَينِ وَأَمنَينِ، إِذَا خَافَنِي في الدُّنيَا أَمَّنتُهُ يَومَ القِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي في الدُّنيَا أَخَفتُهُ في الآخِرَةِ » صَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ،
وقدوة المؤمنين في الخوف من الله تعالى وخشيته هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أكثر الناس خشية لله، وهو من هو عند الله، وهو يعلم أن الله قد اصطفاه ورعاه، ومع ذلك: فقد كان دائم الحذر، دائم الخوف لعذاب الله، وكان على يقين أن عمله لا يعصمه ولا يدخله الجنة، إلا بفضل من الله ورحمة، ففي الصحيحين: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «قَارِبُوا وَسَدِّدُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْتَ قَالَ «وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ». وفي مسند أحمد: (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ جَاءَ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دُرِسَتْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ – أَوْ قَدْ قَالَ لِحُجَّتِهِ – مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ يَأْتِي بِهَا إِسْطَاماً فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فَبَكَى الرَّجُلاَنِ وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِّي لأَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَمَّا إِذْ قُلْتُمَا فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِمَا ثُمَّ لِيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ ».
وكيف يأمن المسلم من عذاب الله تعالى، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها حيث شاء، ففي صحيح مسلم: (عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّ قُلُوبَ بَنِى آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ ». وعن أنسٍ قالَ: (كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثِرُ أنْ يقولَ: «يا مُقلِّبَ القُلُوبِ ثبِّتْ قلبي على دِينِكَ»، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، آمنَّا بكَ وبما جِئتَ بهِ فهل تخافُ علينا؟ قالَ: «نَعَم، إنَّ القُلُوبَ بينَ أُصْبُعَينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبُها كيفَ يَشاءُ») رواه الترمذي وحسنه.
وجاء في تفسير قول الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (175): (176) الاعراف، (أن الله تعالى أمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتلو على الناس قصة هذا الرجل الذي آتاه الله آياته: أي علمه أحكام شرعيته، وبينها له، ولكنه والعياذ بالله انسلخ منها، وتركها، فكفر بعد إيمان، وضل بعد هداية، فتبعه الشيطان، فأغواه، قال الله عز وجل: {ولو شئنا لرفعناه بها}، أي: ولو شئنا لرفعناه بآياتنا فجعلناه يعمل بها، ويقوم بواجبها، فإذا فعل ذلك رفعه الله تعالى بها، ولكنه، أي: هذا الذي آتاه الله الآيات، ليس أهلا لأن يرفعه الله بها، لأنه أخلد إلى الأرض ومال إليها، وصار أكبر همه أن ينال حظوظه من الدنيا، سواء كان يريد الجاه، أو المال، أو المرتبة، أو غير ذلك، واتبع هواه، فيما أخلد إليه)،
فالمؤمن لا يأمن مكر الله، وهو مشفق من عذاب الله, لذا، فهو يعيش حياته ضارعا إلى ربه، لاجئا إلى حماه. والمؤمن يعيش حياته في معية ربه، لا يغفل عنه لحظة، حتى لا ينقطع عنه مدده, ولا يحرم من رضاه. فالعبد المؤمن بين مخافتين – بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه- وبين اجل قد بقى -لا يدرى ما الله قاض فيه، فما بعد الموت من مستعتب- ولا بعد الدنيا من دار, إلا الجنة أو النار، ويقول الحسن البصرى رحمه الله: (المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق, وجل, خائف. والفاجر يعمل بالماضي, وهو آمن). وفي صحيح البخاري: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ».
أيها المسلمون
وفي الصحيحين واللفظ للبخاري: (عَنْ سَهْلٍ قَالَ الْتَقَى النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِى الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لاَ يَدَعُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلاَ فَاذَّةً إِلاَّ اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدُهُمْ مَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ. فَقَالَ «إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فَقَالُوا أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لأَتَّبِعَنَّهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ. حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ ،فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ «وَمَا ذَاكَ». فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ،فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، وفي رواية مسلم : (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزمنَ الطويلَ بعَمَلِ أهلِ الجنَّةِ، ثُمَّ يُختَمُ لهُ عَمَلُهُ بعمَلِ أهلِ النارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزمنَ الطويلَ بعَمَلِ أهلِ النارِ، ثُمَّ يُختَمُ لهُ عَمَلُهُ بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ)،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال ابنُ رَجَبٍ: (قال عبدالعزيزِ بنُ أبي رَوَّادٍ: (حضَرْتُ رجُلاً عندَ الموتِ يُلَقَّنُ لا إلهَ إلا اللهُ، فقالَ في آخِرِ ما قالَ: هُوَ كافرٌ بما تَقُولُ، وماتَ على ذلكَ، قال فسألتُ عنهُ، فإذا هُوَ مُدمِنُ خَمْرٍ. فكانَ عبدُالعزيزِ يقولُ: اتقُوا الذُّنوبَ، فإنها هيَ التي أوْقَعَتْهُ). فالأعمال بالخواتيم، والخواتِيمُ مِيراثُ السوابقِ، فكُلُّ ذلكَ سَبَقَ في الكتابِ السابقِ، ومِن هُنا كانَ يَشتدُّ خوفُ السلفِ مِن سُوءِ الخواتيمِ، ومنهم من كانَ يَقلَقُ من ذِكرِ السوابقِ. وقد قيلَ: إن قُلُوبَ الأبرارِ مُعلَّقَةٌ بالخواتيمِ، يقولونَ: بماذا يُختَمُ لَنا؟ وقُلُوبُ المُقرَّبينَ مُعلَّقةٌ بالسوابقِ، يقولونَ: ماذا سَبَقَ لَنا. وبكَى بعضُ الصحابةِ عندَ مَوتهِ، فسُئلَ عن ذلكَ فقالَ: سَمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: «إنَّ اللهَ تعالى قَبَضَ خَلْقَهُ قَبْضَتينِ، فقالَ: هؤُلاءِ في الجنَّةِ، وهؤلاءِ في النارِ»، ولا أدرِي في أيِّ القبضَتَينِ كُنتُ؟ وقالَ بعضُ السلفِ: ما أبكَى العُيُونَ ما أَبكاها الكِتابُ السابقُ، وقالَ سُفيانُ لبعضِ الصالحينَ: هلْ أبكاكَ قطُّ عِلمُ اللهِ فيكَ؟ فقالَ لهُ ذلكَ الرَّجُلُ: تَرَكَني لا أَفرَحُ أبَداً، وكانَ سُفيانُ يَشتَدُّ قَلَقُهُ منَ السوابقِ والخواتيمِ، فكانَ يَبكِي ويقُولُ: أخافُ أنْ أكونَ في أُمِّ الكتابِ شَقِيَّاً، ويَبْكِي، ويقولُ: أخَافُ أنْ أُسْلَبَ الإيمانَ عندَ الموتِ) ، فخوف المؤمن من سوء الخاتمة يجعله يعيش في خشية ووجل، ومقامَ الخشية من الله، فالخوف من عذابه وعقابه هو الذي حقَّق لسلفنا الصالح المنازل الرفيعة، ولذا قرَّر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الخوف من الله أصلُ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ [الأعراف: 154]، فأخبرَ تعالى أن الهُدى والرحمة للذين يرهبونه، وقال ابنُ تيمية: (وخوفُ الله يُوجبُ فِعلَ ما أَمَرَ بهِ وتَركَ ما نهَى عنهُ، والاستغفارَ من الذُّنوبِ، وحينئذٍ يَندفعُ البلاءُ ويَنتصِرُ على الأعداءِ، فلهذا قالَ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ: لا يَخافنَّ عبدٌ إلا ذَنبَهُ، وإنْ سُلِّطَ عليهِ مَخلُوقٌ فمَا سُلِّطَ عليهِ إلا بذُنُوبهِ، فلْيَخَفِ اللهَ ولْيَتُب من ذُنُوبهِ التي نَالَهُ بها ما نالَهُ)،
الدعاء