خطبة عن قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ )
نوفمبر 15, 2025الخطبة الأولى (نعمة الوقت)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان:62]. وروى البخاري في صحيحه: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ».
إخوة الإسلام
الوقت هو العمر، وهو رأس مال الإنسان، وفيه يزرع لدينه ودنياه وآخرته، فمن ضيّع وقته ضيّع عمره، ومن ضيّع عمره، خسر دينه ودنياه وآخرته، يقول الحسن البصري (رحمه الله) “ما من يوم ينشق فجره إلا وينادى: (يا ابن آدم: أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة”.
فالساعات تمضي، والأيام تنقضي، والأعمار تُطوى، فمن أحسن استغلالها في طاعة الله، فاز وسعد، ومن ضيّعها، خسر وندم، وفي المستدرك للحاكم على شرط الشيخين: (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)
وقال الصحابي الجليل (ابن مسعود (رضي الله عنه): “ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي”. وقيل للحسن البصري: (يا أبا سعيد، ما سرّ زهدك في الدنيا؟ قال: “علمت أن أيامي محدودة، فما مضى منها لا يعود، وما بقي منها لا يُدرى كيف يكون”، ومن كلماته (رحمه الله): “يا ابن آدم، إنَّما أنت أيَّام، كلَّما ذهب يومٌ ذهب بعضُك” ،
فالمسلم إذا أدرك قيمة وقته، كان أكثر حرصًا على حفظه، واغتنامه فيما يُقَرِّبه مِن ربِّه -سبحانه وتعالى- -وكان حريصا على الاستفادة من وقته، استفادة تعودُ عليه بالنفع في دنياه وآخرته، فالوقت نعمة من الله تعالى، والنعمة تستلزم الشكر، وشكر النعمة باللسان: ثناء على المنعم، والشكر بالجوارح: أن يستخدمها فيما يرضيه سبحانه وتعالى، فيُسَارِع إلى استغلال الفراغ قبلَ الشغل، والصحَّة قبل السقم؛
أيها المسلمون
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ». أي أن الناس يغبنون أنفسهم، ويخسرون تجارة الآخرة، بسبب إضاعة الصحة والفراغ، وفي الحديث تذكير لأمته صلى الله عليه وسلم بهاتين النِعمتَينِ العَظيمتَينِ الجَليلتَينِ، المَغبون فيهما كَثيرٌ مِن النَّاسِ، فلا يَعرِفون قَدْرَهما، ولا ينتَفِعون بهما في حَياتِهم الدُّنيويَّةِ والأُخرويَّةِ، وهما: صِحَّةُ البدَنِ والنَّفْسِ وقُوَّتُهما، والفراغُ، وهو خُلُوُّ الإنسانِ مِن مَشاغلِ العيْشِ، وهُمومِ الحياةِ، وتَوفُّرُ الأمنِ والاطمئنانِ النَّفْسيِّ، فهما نِعمتانِ عَظيمتانِ، لا يُقدِّرُهما كَثيرٌ مِن النَّاسِ حَقَّ قَدْرِهما.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: معنى هذا الحديث: أن الناس مُقصِّرون في شكر هاتين النعمتين: (الصحة والفراغ)؛ لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون.
وفي الحَديثِ أيضا: إشارةٌ إلى أنَّ الإنسانَ لا يَتفَرَّغُ لِلطَّاعةِ إلَّا إذا كان مَكْفيًّا، صَحيحَ البَدَنِ؛ فقدْ يَكونُ مُستَغنيًا ولا يَكونُ صَحيحًا، وقدْ يَكونُ صَحيحًا ولا يَكونُ مُستَغنيًا، فلا يَكونُ مُتفَرِّغًا لِلعِلمِ والعَمَلِ؛ لِشُغُلِه بالكَسبِ، فمَن حَصَلَ له الأمرانِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ، ثم كَسِلَ عنِ الطَّاعاتِ؛ فهو المَغبونُ الخاسِرُ في تِجارَتِه مع الله تعالى،
ومن الملاحظ أن بعض الناس لديه متسع من الوقت، ولكنه يعاني سقماً، فلا يستفيد، ولا يستطيع أن يقضي فراغه بما ينفعه؛ لانشغاله بمرضه، وآخرون لديهم صحة، ولكنهم مشغولون بالكد في سبيل تحصيل الرزق، أو شيء آخر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (لجليبيب) لما زوجه: (اللهم لا تجعل عيشهما كداً، وصب عليهما الخير صباً)؛ حتى لا يُشغلا بالكد عن الطاعة،
فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر هنا: أنه قد يوجد في عبد من الترف، وإرث الأموال والنعمة التي أفاءها الله عليه ما هو مستغن، لا يحتاج إلى الكد والسعي، وفي نفس الوقت أعطاه الله جل وعلا عافيةً وصحةً في بدنه، فإذا اجتمعت هاتان النعمتان في عبد: (الصحة والفراغ) ولم تجعلاه في طاعة الله جل وعلا، ولم ينتهزهما في التعامل مع ربه جل وعلا بالإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:٧] فهذا الرجل مغبون، أي: أنه خاسر، لم يفقه كيف يستثمر تلك النعمتين التي وهبهما الله جل وعلا إياه، فالله جل وعلا يهب نعماً، ويضع صوارف، ووضع موعداً، والناس في هذا يكدحون، ويمضون ويغدون ويروحون، لابد لهم من ذلك، فمن جعل همه الأكبر السعي في طاعة الله، وما أفاء الله عليه من النعم، وما دفع الله عنه من الصوارف، جعله عوناً على الطاعة، فهذا الذي فقه الشرع،
وقال صلى الله عليه وسلم: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)، فعبر بكلمة (كثير) لأن القلة من الناس من يفقه هذا الأمر، ويستثمر هاتين النعمتين في طاعة الرب جل وعلا، وقد جرت سنة الله في خلقه أن الأصفياء الفضلاء قليل، قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (13) سبأ
فمَن أصحَّ الله جسمه، وفرَّغه من شواغل هذه الدنيا، فلم ينفق صحته الواقعة في في أربح التجارات، وأعلى المكاسب فإنه مغبون.
وفي الحديث أيضًا دليل على أن الفراغ نعمة، فإذا أنعم الله تعالى على عبد من عباده بصحة في بدنه، وفراغ في وقته، فلم ينفق هذه الصحة في هذا الفراغ لله سبحانه فقد غبن، لذا يقول أحد العلماء مخبرًا عن نفسه: (إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرحٌ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره)
أيها المسلمون
ومن المؤسف والمحزن أن الكثير من الناس يضيّعون أوقاتهم في اللهو واللعب والباطل، في زمننا هذا الذي كثرت فيه الألعاب الرياضية، والملاهي الليلية، والنت وما فيه من مشاغل وملاهي ومفسدات، فإذا جاء الموت، تمنوا ساعة واحدة ليعملوا صالحًا، ولكن أنى لهم ذلك؟، وقد قال الله تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون:99-100]. ناسيا أن هذا العمر سوف نسأل عنه يوم القيامة، فقد روى الترمذي في سننه بسند صححه: (عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ».
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية (نعمة الوقت)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فإذا مَتّعك الله بسمعك، وبصرك، وقوتك، وحفظ عليك نُضْرَة الشباب ورَوْنَقَه وبهاءه، وعافاك من خطير الأسقام، وجليل الأمراض، وجمع لك إلى ذلك خلوّ القلب من الشواغل، والمكدرات، والهموم القاطعات، وأمتعك بالساعات الفارغات، ثم لم تستعمل ذلك فيما يبلّغك رضوان الله، ودارَ كرامتِه، ولم تغتنمه فيما يصلح دنياك وآخرتك، وكنت ممن يصرف وقته، ويقطع زمانه لهوًا ولعبًا، وعبثًا وإسفافًا، وتعلّقًا بالأدنى، ورضًا بالخَسِيس، وركونًا إلى التافه من القول والعمل؛ فعُمُرَك أضعتَ، وزمانَك قطعت، وأنت المغبون الخاسر، والمحروم ولا محالة!.
فللنعم آفات، كما للبدن آفات، وآفة النعم: الزوال والاضمحلال، فبينما ترى الرجل صحيحًا معافىً، لا يشكو من عِلّة في نفسه، أو جسمه، إذ هجمت عليه الهموم، وكدرت قلبه الغموم، ونزل به السقَامُ، ووَهَنْتُه الأمراضُ، وأقضّت مضجعَه العِللُ، فسعت به إلى شيخوخة مبكّرة، وعِلّة مُسْتَحْكِمة، أو داءٍ حائل بينه وبين ما يشتهي، من متع الحياة الأثيرة لديه، المُذَلّلة المبذولة بين يديه، فإن كان ممن أبلى شبابه، وأفنى عمره، واستنفد قوته فيما يحب ربه ويرضاه، وابتغى فيه الوسيلة لرضاه، وادخر زادًا يبلغه من الجنة مناه، وإلا غُبِنَ غَبْنًا أورثه حسرة، وأعقبه ندامة لا نظيرَ لها، حينها ينظر إلى أهل العافية والفراغ نظر الأماني، فيتحسر على ما كان منه من التفريط والتواني!.
فلا ينبغي لعاقل أن يضيع ساعات لليله ونهاره في ما لا ينفع عند الله –عز وجل- فمن ضيع هذه الساعات التي هي عمره فهو والله المغبون.
فأحيوا لله أنفسكم بذكره, فإنما تحيى القلوب بذكر الله, فكم من قائم في هذا الليل، قد اغتبط بقيامه في حفرته, وكم من نائم في هذا الليل، قد ندم على طول نومه، عندما يرى من كرامة الله-عز وجل-للعابدين غداً, فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله.
الدعاء
