خطبة عن الدين وحديث ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَدْعُو بِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقِيمُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ)
يناير 18, 2025خطبة عن (تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ)
يناير 20, 2025الخطبة الأولى (هجر القرآن)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) الفرقان (30)
إخوة الإسلام
إن تلاوة القرآن الكريم لهي من أجلّ العبادات، وأرفعها قدْراً عند الله تعالى، وقد أمرنا الله -عز وجل- بتلاوته؛ فقال تعالى مخاطبا نبيّه صلى الله عليه وسلم: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:4]، وقال: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (91)، (92) النمل، وقال تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) الكهف: (27)، وفي صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «لاَ تَحَاسُدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهْوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ»
والقرآن الكريم هو كتاب الله العزيز، وهو أعظم كنز بين أيدينا، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:57،58]، وقد أمَرَنا الله تعالى بالإقبال عليه: قراءةً واستماعًا، وتعلُّمًا وتدبُّرًا، وعملًا وتحاكمًا، وذلك سببٌ لرحمة الله لنا في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف:203]، وقال سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]،
فالقرآن كتابُ هدايةٍ وحُكْم، وكلُّ ما نحتاج إليه بَيَّنه الله في القرآن العظيم، نصًّا أو دَلالة أو استنباطًا، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمه، وجَهِلَه مَنْ جَهِله، وبقدر ما نتدبَّر القرآنَ، تظهرُ لنا هداياته، قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف:52]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء:9]، فمَنْ تَمَسَّك بالقرآن فقد اهتدى، ولا يضلُّ ولا يشقى، قال الله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه:123،124].
ولذلك كان المشروع في حق المسلم أن يحافظ على تلاوة القرآن، امتثالاً لعموم قول الله سبحانه وتعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) [العنكبوت:45]، وفي صحيح مسلم: (أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»، فالبشرية في حاجة إلى نور القرآن، وأشد الناس احتياجا إلى القرآن هم المسلمون؛ لأنهم لا يستطيعون أن يواجهوا قضايا عصرهم وزمانهم إلا بالقرآن العظيم، واقامة أحكامه في حياتهم،
أيها المسلمون
والمتدبر لقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30]، يتبين له أن الله تعالى ينهى عن هجر القرآن، والابتعاد عنه، وترك تلاوته، وتدبّر آياته وأحكامه، وعدم تطبيق أوامره وما جاء فيه، واللهو عنه ونسيانه، والافتراء بكلامٍ ليس فيه بغير حق، وعدم الإيمان اليقينيّ به، ولكن من المؤسف والمحزن، أننا نشاهد اليوم هجرًا للقرآن العظيم، في أنحاء شتى، عند كثير من المسلمين، فقد هُجر القرآن تلاوة، وزهد الكثير في حفظه وتدارسه، وأعرض الكثيرون عن مجالس تذاكره، بالرغم من حرصهم الشديد على مطالعة الصحف والمجلات والإنترنت والأفلام والمباريات، كما هجروا القرآن استماعا، وأقبلوا على سماع اللهو والغناء، وارتبط أكثر الناس باستماع القرآن في الأحزان والمآتم، ونحى المسلمون كتاب الله في تحاكمهم، بل واتهم البعض شرع الله بالضعف والعجز والقصور، والتخلف عن ركب الحضارة، وهجروا القرآن الكريم استشفاء وتداويا، ولجأ الكثير من الناس إلى السحرة والعرافين والدجالين، يطلبون منهم الشفاء، والدواء لأمراضهم،
وقد ترتب على هجر القرآن: أن قست القلوب، وتحجرت العيون، فهاجر القرآن متوعد بالمعيشة الضنك، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124]، يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله- في بيان حال من هجر القرآن: “فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره الضيِّق الحرج؛ لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء”، وقال تعالى: (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) [الجن:17]، فهل من عودة إلى القرآن الكريم، فمن أوجب الواجبات الاعتناء بدراسته، ومعرفة أسراره،
أيها المسلمون
وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- خمسة أنواع من هجر القرآن الكريم، أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه: وهذا مؤشر خطير وواضح على فساد قلب هذا الإنسان، وسيطرة الشيطان عليه، فمن علامات المؤمن الصالح: ألا يمل سماع القرآن، وأن يشتاق إليه إذا ما شغله عن سماعه شاغل. والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، وعدم الرضا بتحكيمه في الخلافات، وعدم الاعتماد عليه في فض النزاعات، وتحكيم قوانين وضعية من صنع البشر والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه، ففهمه هو المقصود الأول من تنزيله وليس مجرد قراءته. والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فعلى المسلم أن يستشفي بالقرآن الكريم ما استطاع، ففيه الشفاء، وأفضل الدواء، وبه يستشفى من العلل والأمراض النفسية والعضوية، ففي صحيح مسلم: (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي).
أيها المسلمون
وقد توعّد الله -سبحانه وتعالى- من أعرض عن القرآن الكريم بالوعيد الشديد يوم القيامة، قال تعالى: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا) (99): (101) طه، وجزاء هاجر القرآن يختلف باختلاف نوع الهجر، فقد يكون الهاجر للقرآن كافراً، كمن ترك الإيمان والتصديق به، وقد يكون الهاجر عاصياً، كمن يترك امتثال أوامره واجتناب زواجره، مع بقاء أصل الإيمان معه، وفي صحيح مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ».وهجرُ القرآن من صفات الكافرين والمنافقين، قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [فصلت: 3، 4]، وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ [الأحقاف: 3]، وقال الله عن المنافقين: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:23،24]، فلنحذر أن نكون من المعرضين عن كتاب رب العالمين، فنحن من غير القرآن كالغرقى، فإن تمسَّكْنا بالقرآن نجونا، وإن هجرناه هلَكْنا،
أيها المسلمون
ولهجر القرآن أسباب: فمن أسباب هجر القرآن الكريم: كثرة الذنوب والمعاصي، والإصرار عليها، فالذنب ينكت في القلب، والذنب بعد الذنب يُعمي القلب، فيصبح عليه الغشاوة، ولا يعود الإنسان بعدها قادرا على تدبّر القرآن الكريم، لكثرة تلك الذنوب التي غطّت قلبه، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) [الأنعام:25]، فينبغي على المؤمن أن يبتعد عن الذنوب والمعاصي التي تؤثّر على تدبّره للقرآن الكريم. ومن الأسباب: ترك الدعاء، فيعتبر الدعاء وسيلةً للتقرب إلى الله -تعالى- وطلب الإعانة منه على فهم القرآن وتدبره، وقد كان ابن تيمية -رحمه الله- يقول في دعائه دائماً: “اللهم يا معلّم آدم وإبراهيم علّمني، ويا مفهّم سليمان فهّمني”. ومن أسباب هجر القرآن الكريم: عدم فهم معانيه، والغفلة عن تدبّر الآيات والمقصود من معانيها، وعدم الاهتمام بمطالعة كتب التفسير، ومن أسباب هجر القرآن الكريم: الجهل بفضل تلاوة القرآن الكريم، فالغفلة عن الثواب المترتّب على تلاوة القرآن الكريم قد تجعله ينصرف عن تلاوته، وإذا أدرك الأجر العظيم المترتب على قراءته للقرآن حرص على عدم التغافل عنه لينال الثواب العظيم، ففي سنن الترمذي: (أن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ الم َرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ»، وفيه: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَيَرْضَى عَنْهُ فَيُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً»، ومن أسباب هجر القرآن الكريم: الانشغال بالدنيا، وعدم معرفة الإنسان أن غاية وجوده في هذه الدنيا هو عبادة الله وحده، فترى الإنسان يسعى دائما لتحصيل حاجاته المهمّة والكمالية، وينسى أن يخصّص وقتاً للقرآن الذي تحتاج إليه النفوس، فلا بد للمؤمن أن يجتهد ويجدّ بالعمل للآخرة والفوز فيها، وأن يأخذ من الدنيا بقدر ما يوصله للآخرة، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77]، ومن أسباب هجر القرآن الكريم: الفتور وضعف الهمة، ويكون علاج ذلك بالإكثار من الأعمال الصالحة والاستمرار عليها وإن قلّت، فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطع.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (هجر القرآن)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فيجب أن نحرص على تلاوة القرآن، واستماعه، ونُفرِّغ للقرآن بعض الأوقات، ولا نجعله في هامش حياتنا، فمن تعظيم القرآن أن تجعل للقرآن أوقاتًا للتلاوة والاستماع، والتعَلُّم والتعليم، ولنحذر من هجر القرآن العظيم، فإنَّ منْ يهجُرِ القرآنَ آثمٌ وظالمٌ، ومرتكبٌ كبيرةً من الكبائر، فقد أنزل الله القرآن لنتعلمه، ونتلوه ونتدبره ونعمل به، وقد جعل كثيرٌ من المسلمين القرآن لمقاصدَ أخرى غيرِ مشروعة، فبعضهم يقرؤه أو يسمعه لمجرد حصول البركة، وهو هاجرٌ له، لا يتدبر آياته، ولا يعمل بأحكامه، قال سبحانه: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل:20]، فالله تعالى لم يعذُرِ أحدًا في قراءة القرآن الكريم، حتى المرضى، والمسافرين، والمجاهدين، فالقرآن شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين، وهجره من صفات المنافقين.
ومن لا يتقن القراءة جيّدا، فليحاول جاهداً أن يحسّن تلاوة القرآن، فإنّ أجره مضاعف؛ حيث له أجر المشقّة وأجر التلاوة، ومن الأمور المعينة على عدم الهجر تطبيق ما يرد في القرآن من الأحكام واجتناب النواهي، بالإضافة إلى الحرص على تحسين القراءة، تجويداً وترتيلاً، ففي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعْثًا وَهُمْ ذُو عَدَدٍ فَاسْتَقْرَأَهُمْ فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَأَتَى عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ «مَا مَعَكَ يَا فُلاَنُ». قَالَ مَعِي كَذَا وَكَذَا وَسُورَةُ الْبَقَرَةِ. قَالَ «أَمَعَكَ سُورَةُ الْبَقَرَةِ». فَقَالَ نَعَمْ. قَالَ «فَاذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ». فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ إِلاَّ خَشْيَةَ أَلاَّ أَقُومَ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَاقْرَءُوهُ وَأَقْرِئُوهُ فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا يَفُوحُ بِرِيحِهِ كُلُّ مَكَانٍ وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَيَرْقُدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ وُكِيَ عَلَى مِسْكٍ».
الدعاء