خطبة عن (أمير المؤمنين: عمر بن عبد العزيز)
فبراير 25, 2017خطبة عن (خطبة ابليس:(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ)
فبراير 26, 2017الخطبة الأولى ( هدايا الموظفين) :(هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (188) البقرة ، وروى البخاري في صحيحه (أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – رَجُلاً مِنْ بَنِى أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِي . فَقَامَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى الْمِنْبَرِ – قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ – فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ « مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ ، فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي . فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ » . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَىْ إِبْطَيْهِ « أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ » ثَلاَثًا) ، وفي مسند أحمد : (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ ». وفي سنن أبي داود (عَدِىُّ بْنُ عُمَيْرَةَ الْكِنْدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ لَنَا عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِنْهُ مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ فَهُوَ غُلٌّ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَسْوَدُ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّى عَمَلَكَ. قَالَ « وَمَا ذَاكَ ». قَالَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ « وَأَنَا أَقُولُ ذَلِكَ مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَأْتِ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِىَ مِنْهُ أَخَذَهُ وَمَا نُهِىَ عَنْهُ انْتَهَى ».
إخوة الإسلام
لقد رفع الله قدر المؤمنين ،فأمرهم بما أمر به المرسلين ، فأحل لهم الطيبات ، وحرم عليهم الخبائث ، وشاهد ذلك ما رواه الامام مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ». ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ». ويتبين لنا من الحديث أن الأكل من الحرام من أهم أسباب عدم استجابة الدعاء ومن أسباب دخول النار لحديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد(يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ أَوْلَى بِهِ ) والسحت هو الحرام ،وقد كان الصحابة حريصين على الأكل من الحلال حتى لا يتغذى الجسم على الحرام ، وما فعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه منكم ببعيد ، ففي صحيح البخاري (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ كَانَ لأَبِى بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ ، وَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ تَدْرِى مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ ، إِلاَّ أَنِّى خَدَعْتُهُ ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ ، فَهَذَا الَّذِى أَكَلْتَ مِنْهُ . فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ )
أيها المسلمون
بداية من هو الموظف الذي نقصده ؟ : الموظف هو: «من يختص عمله بغيره من دولة أو شركة أو مؤسسة أو فرد، في محل تجاري أو مزرعة أو مصنع أو ورشة ونحوها» ، والموظف إذا قام بواجب عمله، فقد استحق الإحسان عليه بشكره على جهده، وبتلبية متطلبات العمل واحترام أنظمته؛ وهي متطلبات حسنة، تأمر بها الشريعة الإسلامية وتحث عليها. وكل ذلك مما يعين الموظف على حسن أداء عمله، وهي من حق المسلم على المسلم، ومن حق المجتمع على أفراده ولو كان الموظف فيه غير مسلم. والشكر مطلوب لكل محسن بفعله ما هو مندوب إليه، أو واجب عليه كالموظف . ولا يصح ما اشتهر على بعض الألسنة: لا شكر على واجب. بل الشكر حتى على أداء الواجب ؛ فإن الله سبحانه وتعالى متفضل ومنعم على عباده، وشكرهم له واجب عليهم، وإذا شكروه رضي عنهم؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. ولكن ليس من الشكر والإحسان للموظف، بذل الهدية له؛ لأجل وظيفته لأنها:
إما رشوة، وإما اعتياض منه على عمل واجب عليه بوظيفته، وكلاهما محرم. فالرشوة ملعون دافعها وآخذها والساعي بينهما إذ لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ) (رواه أحمد وغيره). وروى عن عمرو بن مهاجر رحمه الله تعالى قال: (اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحاً فقال: لو كان عندنا شيء من تفاح فإنه طيب الريح طيب الطعم، فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحا، فلما جاء به الرسول قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه! ارفعه يا غلام، وأقرئ فلانا السلام، وقل له: إن هديتك وقعت عندنا بحيث نحب، قال عمرو بن مهاجر: فقلت له: يا أمير المؤمنين، ابن عمك ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة! فقال: ويحك! إن الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية وهي لنا اليوم رشوة). وسواء أكانت الهدية نقودا أم ثيابا أم طعاما أم أثاثا أم دعوة خاصة لطعام أم ضيافة في سفر، أم شفاعة أم قضاء حاجة أم محاباة في بيع ونحوه أو بطاقات تخفيض أو بطاقات مجانية.
وما يقدم للموظف من هدية لأجل وظيفته، تعرف في الجملة عند أهل العلم بهدايا العمال، ولكن ليست كل هدية تقدم للموظف تكون لأجل وظيفته، بل قد تكون لصلة رحم أو لتقوية صداقة ونحوهما. ولذا يختلف حكم الهدية للموظف باختلاف القصد منها، والسبب الباعث إليها، وعلاقة مهديها بالموظف، وباختلاف عمل الموظف، ورتبته فيه، وباختلاف قدر الهدية، ووقت بذلها. ومن الهدايا المحرم بذلها للموظف وقبوله لها: ما يقدمها المهدي للموظف بعد ترشيحه للوظيفة، أو توليه لها؛ لقصد استمالة قلب الموظف في غير الحق حالاً أو مستقبلاً؛ وذلك ليقدمه هو أو من يشفع له على غيره، أو ليغض الطرف عنه فيما اشترطته جهة عمله، أو ليموه أو يخفي الحقيقة إن كان محققًا، أو ليحكم له بباطل إن كان حاكمًا كقاض ونحوه. فهذه في ظاهرها قد تكون هدية، لكنها في باطنها رشوة ألبست ثوب الهدية، فيحرم على المهدي بذلها، ويحرم على الموظف قبولها، ويشتد تحريمها عليه إن علم بقصد المهدي
وهي حرام في حق جميع الموظفين: مثل : الحاكم والقاضي والعمدة والمديرون والعمال وغيرهم من العاملين.
ولكنها في حق الحاكم والقاضي أعظم جرمًا من غيرهما ؛ لأنها للحاكم والقاضي؛ لأجل ولايتهما، وهي من مناصب النبوة، فلا تقابل بعوض. والهدية لهم تحدث تهمة تهين بمناصبهم، وتخل بهيباتهم، وتؤول للخيانة فيهم وفي أتباعهم؛ فتختل المصالح . فعن أبي الأسود المالكي عن أبيه عن جده: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما عدل والٍ اتجر في رعيته» ، والأصل في الهدايا للموظفين أنه يحرم بذلها وقبولها فإن كان للشخص حق مرتبط إنجازه بموظف، ولا يستطيع الوصول إليه إلا بدفع مال لهذا الموظف، فصبره وعدم دفعه أولى. فإن أبى الموظف إلا الدفع، فإنه يحرم على الموظف مماطلة صاحب الحق، وقبوله ما يدفعه إليه تجاهه؛ لأنه مرتشٍ. ومن هذه الهدايا المحرمة ما يقدمه أصحاب المحلات التجارية والمستشفيات ونحوها لموظفيها؛ مقابل قيامهم بتغيير صلاحية المنتج، أو أسماء الشركات، أو طلب تحاليل من المرضى، أو ترويج أدوية ، وفي الصحيحين : (عَنْ أَبِى حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – رَجُلاً عَلَى صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتَبِيَّةِ ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قَالَ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ ، حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا » . ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ « أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي . أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ ، وَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ ، إِلاَّ لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِىَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ » . ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ « اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ » ، وفي صحيح مسلم : (عَنْ عَدِىِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الأَنْصَارِ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّى عَمَلَكَ قَالَ « وَمَا لَكَ ». قَالَ سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ « وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِىَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِىَ عَنْهُ انْتَهَى ». كما لا يحل للمسئول أن يأخذ عمولة ممن ينفذ عملاً لجهة عمله مقابل ترشيحه له إن كان الترشيح من طبيعة عمله، أو لكونه يعمل في هذه الجهة؛ فإن قبوله لذلك مخالف لمقتضى عقد عمله مع جهته؛ وقد أمر الله تعالى بالوفاء في العقود فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]. وفي سنن أبي داود (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ ». وقال الخطابي: «هدايا العمال سحت، وأنه ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة وإنما يهدي إليه للمحاباة؛ وليخفف عن المهدي، ويسوغ له بعض الواجب عليه، وهو خيانة منه، وبخس للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله». وقال عمر بن عبد العزيز: «كانت الهدية في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هدية، واليوم رشوة» البخاري، وروي عن ربيعة «الهدية ذريعة الرشوة، وعُلمة الظلمة».
أيها المسلمون
فَلْيَحْذَرْ الْحَاكِمُ الْمُتَحَفِّظُ لِدِينِهِ، الْمُسْتَعِدُّ لِلْوُقُوفِ بين يَدَيْ رَبِّهِ من قَبُولِ هَدَايَا من أَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ تَوَلِّيهِ لِلْقَضَاءِ؛ فإن لِلْإِحْسَانِ تَأْثِيرًا في طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ على حُبِّ من أَحْسَنَ إلَيْهَا، فَرُبَّمَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى الْمُهْدِي إلَيْهِ مَيْلًا يُؤَثِّرُ الْمَيْلُ عن الْحَقِّ عِنْدَ عُرُوضِ الْمُخَاصَمَةِ بين الْمُهْدِي وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَالْقَاضِي لا يَشْعُرُ بِذَلِكَ وَيَظُنُّ أَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن الصَّوَابِ بِسَبَبِ ما قد زَرَعَهُ الْإِحْسَانُ في قَلْبِهِ وَالرِّشْوَةُ لا تَفْعَلُ زِيَادَةً على هذا). وليؤد الأمانة في ولايته، وليحذر من بخس الحقوق، واستحلال الرشاوي باسم الهدايا؛ فإن العبرة بالمعاني لا بالأسماء، قال أصحاب جندب بن عبد الله رضي الله عنه له: “أوصنا”، فقال رضي الله عنه: “إِنَّ أَوَّلَ ما يُنْتِنُ من الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ” (رواه البخاري).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( هدايا الموظفين) :(هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ولكن كيف يتصرف الموظف في الهدايا المحرم؟ فنقول : هذه الهدايا لها حالتان: الحالة الأولى: أن يكون الموظف لم يستلم هذه الهدية ،فحينئذ يجب عليه أمران: الأمر الأول: عدم قبوله هذه الهدية. الأمر الثاني: نهيه – إن استطاع – باذل الهدية عن هذا المنكر، وتذكيره بأن هديته هذه ليست مباحة، وإنما هي: إما رشوة، وقد لعن الشارع الحكيم متعاطيها.
وإما هدية مقابل عمل واجب متعلق بالدولة، وهي هدية محرمة؛ لأنه لا يحل أخذ العوض على هذا العمل. ويذكره: أنهما من الرشوة أو الهدية المحرمة، وأنهما من الفساد في الأرض العائد ضرره على الباذل والآخذ والمجتمع، وقد حرم الله تعالى الفساد في الأرض. وذلك؛ أن إنكار المنكر واجب، وهذه الهدية من المنكر، فيجب النهي عنه ، الحالة الثانية: أن يكون الموظف قد أخذ هذه الهدية ثم تبين له حرمتها . فحينئذ اختلف الفقهاء في كيفية تصرفه فيها، على قولين : القول الأول: يحفظها؛ ليردها إلى المهدي، فإن تعذر ردها؛ لعدم معرفته بالمهدي أو بعد مكانه، فيضعها في بيت المال. واستدلوا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يأمر ابن اللُّتيبة رضي الله عنه بردها إلى أربابها ، فدل على عدم ردها لمهديها. ولما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه كان يحصي على عماله أموالهم عند استعماله لهم، ثم بعد إنهائهم العمل، يحصي أموالهم، ويشاطرهم ما زاد على رءوس أموالهم. وإنما لم يأخذ الزائد كله؛ لكونه قد يكون من تجارة ونحوها لا من هدية .وروى مَالِكٌ عن زَيْدِ بن أسلم عن أبيه أنه قال: “خَرَجَ عبدُ الله وَعُبَيْدُ الله ابْنَا عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ في جَيْشٍ إلى الْعِرَاقِ فلما قَفَلاَ مَرَّا على أبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وهو أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ، ثُمَّ قال: لو أقدر لَكُمَا على أَمْرٍ أنفعكما بِهِ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ قال: بَلَى، هَا هُنَا مَالٌ من مَالِ الله أُرِيدُ أن أبعث بِهِ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأُسْلِفُكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا من مَتَاعِ الْعِرَاقِ ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إلى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا، فَقَالاَ: وَدِدْنَا ذلك، فَفَعَلَ وَكَتَبَ إلى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ أن يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ، فلما قَدِمَا بَاعَا فَأُرْبِحَا، فلما دَفَعَا ذلك إلى عُمَرَ قال: أَكُلُّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ ما أسلفكما؟ قَالاَ: لاَ، فقال عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا، أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ، فَأَمَّا عبدُ الله فَسَكَتَ وأما عُبَيْدُ الله فقال: ما ينبغي لك يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هذا، لو نَقَصَ هذا الْمَالُ أو هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ، فقال عُمَرُ: أَدِّيَاهُ، فَسَكَتَ عبدُ الله وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ الله، فقال رَجُلٌ من جُلَسَاءِ عُمَرَ: يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو جَعَلْتَهُ قِرَاضًا، فقال عُمَرُ: قد جَعَلْتُهُ قِرَاضًا، فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ، وَأَخَذَ عبدُ الله وَعُبَيْدُ الله ابْنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ الْمَالِ” (رواه مالك في الموطأ).
أيها المسلمون
وهناك نماذج معاصرة من الرشوة تقدم في صورة هدايا وهى محرمة شرعا منها على سبيل المثال ما يلي:
– الهدايا التي تقدم للملوك والرؤساء ومن في حكمهم، فهذه يجب أن تورد إلى خزينة الدولة، لأنهم حصلوا عليها بحكم وظائفهم، لأنها من الرشوة المحرمة شرعًا. – والهدايا التي تقدم إلى الموظفين والعمال في ولايات الدولة ووحداتها الحكومية، لأنهم لو جلسوا في بيوتهم ما قدم لهم هذه الهدايا، – والمنافع الخدمية التي تقدم إلى العمال والموظفين من أصحاب المصالح والحاجات لتسهيل أمورهم فيجب الامتناع لأنها من الرشوة المحرمة شرعًا. – والهدايا التي تقدم لبعض القضاة ومن في حكمهم لإلغاء العقوبات أو تخفيفها لبعض العمال والموظفين أو غيرهم بدون حق، فهي من الرشوة، فيجب العدل والمساواة بين الناس. – والتكسب من الوظيفة أو المنصب وقبول هدايا من الناس لتسهيل أمورهم، ومنهم على سبيل المثال: النواب في مجلس النواب ومجلس الشورى والمجالس المحلية ونحوهم.- والهدايا التي تقدم إلى بعض الموظفين لترسية العطاءات والمناقصات على بعض رجال الأعمال، فهذا من الرشوة المحرمة.
– والهدايا التي تقدمها بعض المؤسسات والهيئات والنقابات والجمعيات إلى بعض المسؤولين في الدولة للحصول على تميز دون غيرهم، فهذه من الرشوة المحرمة شرعًا.
أيها المسلمون
لقد استهان كثير من الناس بهذا الباب الخطير، وهو سبب فساد الذمم، وشراء الضمائر، والمماطلة في الحقوق، والتقاعس عن أداء الواجبات إلا برشوة أو هدية أو خدمة يبذلها صاحب الحق. وإن ذلك لمن الظلم العظيم، وهو من أهم أسباب تخلف المسلمين وانحطاطهم، إذ لما عمت هذه الأخلاق الرديئة كثيرا من بلدان المسلمين توقف نماؤها، واستشرى فسادها، وخربت إداراتها، وتعطلت مصالح أبنائها، وصار المرء يعمل لنفسه لا لبلده وأمته، ويسعى في ملء خزائنه بالمال، ولو كان في ذلك انتهاك الشريعة، ومخالفة الأنظمة، ولو كان فيه خراب الديار والعمران، وفساد الذمم والأخلاق، وعمَّ ذلك مجتمعات المسلمين أو يكاد، ولم يسلم منه قادر عليه صغيرا كان أم كبيرا، إلا من سلمه الله تعالى، وقليل ما هم. وبسبب ذلك ساد في كثير من ديار المسلمين وبلدانهم السفلة والأراذل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، سادوا بما جمعوا من أموال محرمة جلبت لهم جاها لا يستحقونه، فخربت البلدان بسببهم، واستشرى الفساد، وانزوى الأمناءُ المصلحون الناصحون، وخمل ذكرهم، لأن البيئات المتلوثة بالرشوة والغش والسحت وأكل الحرام وممارسته وتسويغه لا مكان فيها للأمناء والمصلحين الناصحين.
الدعاء