خطبة عن (من دلالات الإسراء والمعراج)
فبراير 5, 2024خطبة عن (التضرع إلى الله فيه نجاتنا)
فبراير 7, 2024الخطبة الأولى (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (203)، (204) الأعراف، وقال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (104) الأنعام، وقال تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الجاثية (20)، وقال تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (44) النور
إخوة الاسلام
البصائر: جمع بصيرة، والبصيرة: هي ما به يتضح الحق، والبرهان القاطع، الذي لا يترك في الحق لبسا، وهي الإدراك والفطنة، والبصيرة: مأخوذةٌ من البصر، فكأن صاحب البصيرة قد بلغ من المعرفة العقلية، والنظر الفكري، والحكمة الثاقبة حداً يصل إلى درجة المشاهد المحسوس، وجاءت الكلمة في القرآن جمعا: “بَصَائِرُ” لأن القرآن فيه أنواع من الهدى، على حسب النواحي التي يهدي إليها، من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد، وتسديد الفهم في الدين، ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس، والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا والآخرة، والتحذير من مهاوي الخسران، فهذا القرآن: فيه براهين قاطعة، وأدلة ساطعة، على أن الله تعالى هو المعبود وحده، وأن ما جاء به النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – هو الحق. فمن أبصر ذلك فلنفسه، ومن عمي فعليها،
والسؤال: لماذا سُمِّيَ القرآنُ بَصَائِر؟، والجواب: لأن القرآن هو مَحِلُّ تَبْصِير القلب، والقلب مَحِلُّ الاعتقاد، وهو مَحِلُّ البَصِيرَة؛ فلذلك سُمِّيَت الآيات القرآنية بَصَائِر، أي تُورِث القلبَ بصيرة، أما عن أنواع البصائر في القرآن فهي متعددة، ومنها: أن القرآن برنامج حياة الإنسان: فالقرآن العظيم هو الرسالة التي أنزلها الله لسعادة العالمين، وهو برنامج قيادة الإنسانية نحو الهدى والحق والخير وإرشاد الحائرين، وإنقاذ البشرية من الشقاء والظلم والعبث الفردي والدولي، الذي ملأ مجتمعاتها بالضيق والشقاء والكدر والعذاب الأليم، قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، وبينما يريد الله تعالى بالإنسانية اليسر في حياتهم ومعاشهم وعلاقاتهم، يصر الذين يتبعون الشهوات، ويبغون الحياة عوجاً، على إغراق المجتمعات في الظلمات، وإبعادها عن برنامج حياتها، الذي أنزله الله لا عوج فيه صراطاً قويماً، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27].
ومن بصائر القرآن: أن القرآن هو الحبل المدود لمن رام الرُّقيَ والصعود والتقدم: فالقرآن هو حبل الله الممدود لإغاثة الإنسان المتعب الجريح المكدود، ليعصمه من الضلال الفكري، والهلاك المعيشي والاقتصادي والحياتي، ففي صحيح ابن حبان: (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن هذا القرآن سببٌ طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً)،
ومن بصائر القرآن: أن القرآن أصل نظام العالم ونُظُمه، وهو العاصم من الضلال والهلاك: وهنا تنبع قيمة البصائر القرآنية المحددة للأوليات والأولويات: فالبصائر القرآنية هي أصل التصورات والرؤية الرشيدة، وأساس المناهج الفكرية العملية المؤسسة للحياة السعيدة، وأساس الحضارات والبناءات المجيدة؛ يجد فيه المفكرون والمثقفون والناس أجمعون ما يعصمهم من التيه والفتن والضلالات الفكرية والعقلية والحياتية، قال الله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:176]. فالقرآن الكريم هو الـمرجع الأكبر في الآراء والأفكار والنظم والسياسيات، فهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، وهو الذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، ولذا ينبغي بيان هذه البصائر للناس أجمعين، فهي ليست خاصةً بالمؤمنين، بل يجب أن تحمل رسالتها لتصل إلى العالمين، قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20]، وهل يمكن أن توجد هذه البصائر والأنوار إلا في الكتاب المبارك الخاتم المهيمن المختار؟
ومن بصائر القرآن: أن القرآن هو الكتاب المهيمن: فهو المقياس الحقيقي لصدق الأقوال والأعمال، وهو ميزان الصحة للأفكار والمشاريع الفردية والجماعية، وهو المعيار المهيمن على الكتب السماوية والتشريعات الأرضية الوضعية، فهو الدالُّ على مدى الثقة بمناهج البشر وتجاربهم الإنسانية، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، وفي سنن البيهقي: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«اعْمَلُوا بِالْقُرْآنِ أَحِلُّوا حَلاَلَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ وَاقْتَدُوا بِهِ وَلاَ تَكْفُرُوا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَمَا تَشَابَهَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى أُولِى الْعِلْمِ مِنْ بَعْدِي كَمَا يُخْبِرُوكُمْ وَآمِنُوا بِالتَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ وَلْيَسَعْكُمُ الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ أَلاَ وَلِكُلِّ آيَةٍ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار. إنها بصائر القرآن تنير الدروب لبني الإنسان، وتأخذ بيد الحيران إلى المكان الذي يجد فيه السكينة والاطمئنان.
أيها المسلمون
وحين وصف الله تبارك وتعالى كتابه العزيز بهذا الوصف، فقال تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ)، فهو سبحانه وتعالى يعلمنا أن نتوجه إلى هذا القرآن الكريم، والكتاب العظيم، حين تختلط علينا الأمور، وحين نريد أن نتبين الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والضلال من الهدى، فهذه الأمور أصبحت متشابكة في واقعنا، وفي حياتنا، وتحتاج إلى بصائر لتجليها. فكلما ازدادت علاقتنا بكتاب الله عز وجلّ، كلما وضحت وتجلت أمامنا الأمور، فهذا هو القرآن العظيم، كتاب هداية شاملة للناس، في شؤونهم كلها، الوجدانية العاطفية، والعقلية التفكيرية، والسلوكية العملية، الدنيوية والأخروية، الفردية والجماعية.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والسؤال: هل وجود البصائر كافٍ في إحداث التغيير الحسن، والتحول الإيجابي الصالح؟، والجواب: للأسف لا!، فالبصيرة لا تقتضي الالتزام بمقتضيات ما يراه البصر، فقد يرى المرء الشيء على حقيقته، ولكنه يصر على مخالفته، لتملك شهوته له، أو لانحلال عزيمته، وضعف إرادته، واتباعه لغيه، ونبذه لرشده، فقلب الطرف لتعتبر بأقوامٍ وصفهم الله بذلك، فقال تعالى عنهم: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38]. نعم، إنهم كانوا مستبصرين، بمعنى: أنهم كانوا عارفين بواقعهم، وحقائق ما حولهم، ولكنهم لم يقوموا بمقتضيات ذلك. فكانوا (كما يقول الزمخشري): “عقلاء متمكنين من النظر والافتكار، ولكنهم لم يفعلوا، أو كانوا متبينين أن العذاب نازلٌ بهم، لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام، ولكنهم لجوا حتى هلكوا”، فيا لضعف الإرادة، وتملك شهوة البغي عند الناس، ووحل الكبر الذي يكسوا العباد بالأدناس، هؤلاء القوم كانت لهم عقول، وكانت أمامهم دلائل الهدى، ولكن الشيطان استهواهم، وزين لهم أعمالهم، وأتاهم من هذه الثغرة المكشوفة، وهي غرورهم بأنفسهم، وإعجابهم بما يأتونه من الأعمال، وانخداعهم بما هم فيه من قوة ومال ومتاع: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}، سبيل الهدى المؤدي إلى الإيمان، وضيع عليهم الفرصة: نعم: {وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}”.
الدعاء