خطبة عن (ودَخَلَ شهرُ رَجَب)
ديسمبر 23, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (هُوَ الكَرِيمُ يُجِيبُ مَنْ نَادَاهُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة:186. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} غافر:60، وَفي سنن أبي داود: (عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا».
إخوة الإسلام
لقاؤنا اليَوْمَ -إن شاء الله تعالى- مَعَ صِفَةٍ مِنْ أَجَلِّ صِفَاتِ المَوْلَى -جَلَّ فِي عُلَاهُ-، مَعَ صِفَةٍ تَبْعَثُ فِي النُّفُوسِ الرَّجَاءَ، وَتَمْلأُ الْقُلُوبَ بِالثِّقَةِ، وَتُبَدِّدُ ظُلُمَاتِ الْيَأْسِ؛ إِنَّهَا صِفَةُ “الْكَرَمِ” الْمَقْرُونِ بِالْإِجَابَةِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْكَرِيمُ، الَّذِي لَا تَنْفَدُ خَزَائِنُهُ، وَهُوَ الْمُجِيبُ الَّذِي لَا يُغْلِقُ بَابَهُ، فبَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ صِلَةً مُبَاشِرَةً، لَا تَحْتَاجُ إِلَى وَسَاطَةٍ، وَلَا إِلَى حُجَّابٍ، بَلْ هُوَ “نِدَاءٌ” صَادِقٌ، يَخْرُجُ مِنَ الْقَلْبِ سليم، فَيَجِدُ إِجَابَةً كَرِيمَةً وَافِيَةً.
وصِفَة “الكَرَمِ” الإِلَهِيِّ، وَالجُودِ الرَّبَّانِيِّ، لَا حُدُودَ لَها، ولَا تَنْقَطِعُ، فالله تعالى هُوَ الكَرِيمُ الَّذِي يُعْطِي قَبْلَ السُّؤَالِ، وَيُجِيبُ بَعْدَ الدُّعَاءِ، وَيَعْفُو بَعْدَ المَقْدِرَةِ،
(هُوَ الكَرِيمُ)، الَّذِي يَفْرَحُ بِسُؤَالِ العَبْدِ، وَيَغْضَبُ إِذَا تَرَكَ العَبْدُ سُؤَالَهُ، ومَعْرِفَةَ اللهِ بِأَنَّهُ “كَرِيمٌ” هِيَ مِفْتَاحُ الرَّجَاءِ، وَبَابُ الطُّمَأْنِينَةِ، فَإِذَا ضَاقَتْ بِكَ السُّبُلُ، وَأُغْلِقَتْ فِي وَجْهِكَ الأَبْوَابُ، فَتَذَكَّرْ أَنَّ بَابَ مَنْ نَادَاهُ الخَلَائِقُ كُلُّهُمْ لَا يَضِيقُ بِأَحَدٍ، وَأَنَّ يَمِينَهُ مَلْأَى سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، (وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ » [رواه أبو داود والترمذي].
وتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ}، فلَمْ يَقُلْ: “فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي قَرِيبٌ”، كَمَا جَاءَ فِي بَقِيَّةِ المَسَائِلِ فِي القُرْآنِ، بَلْ حَذَفَ الوَاسِطَةَ، لِيُشْعِرَ الدَّاعِيَ بِقُرْبِهِ المُطْلَقِ، حَذَفَ لَفْظَة “قُلْ” لِيُشْعِرَ الدَّاعِيَ بِشِدَّةِ الْقُرْبِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مَعَهُ فِي كل لَحْظَةِ دُّعَاءِ، يَسْمَعُ أَنِينَه، وَيَعْلَمُ حَاجَتَه، وَيَرَى ضَعْفَه، وهَذَا الْقُرْبَ: هُوَ أَعْظَمُ سَكِينَةٍ لِلْمُؤْمِنِ؛ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَلِكَ الْمُلُوكِ، ومَنْ بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَيْسَ بَعِيدًا عَنْكَ، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، يَنْتَظِرُ مِنْكَ سُؤَالاً لِيُعْطِيَكَ، وَدُعَاءً لِيُجِيبَكَ.
{فَإِنِّي قَرِيبٌ}، إِنَّهُ القُرْبُ الَّذِي يَمْلأُ القَلْبَ أَمْنَاً، وَيَمْلأُ الرُّوحَ ثِقَةً، وهُوَ الكَرِيمُ: الَّذِي يَسْمَعُ ضَجِيجَ الأَصْوَاتِ، بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ، عَلَى تَفَنُّنِ الحَاجَاتِ، فَلَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَلَا تُغَلِّطُهُ المَسَائِلُ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ المُلِحِّينَ، وهُوَ الكَرِيمُ: الَّذِي يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، وَيَجْعَلُ بَعْدَ العُسْرِ يُسْرَاً.
ومِنْ صور ومَعَانِي كَرَمِهِ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ يُجِيبُ مَنْ نَادَاهُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ، فَأَحْيَانَاً يَدْعُو العَبْدُ بِشَيْءٍ، وَيُرِيدُهُ فَوْرَاً، وَلَكِنَّ الكَرِيمَ يَعْلَمُ أَنَّ المَصْلَحَةَ فِي تَأْخِيرِهِ، أَوْ فِي صَرْفِ سُوءٍ عَنْهُ بِمِثْلِهِ، أَوْ فِي ادِّخَارِهِ لَهُ فِي الآخِرَةِ،
وسوء الظن باللهِ: أَنْ نَظُنَّ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ، بَلْ هُوَ يُجِيبُ حَتَّى مَنْ عَصَاهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ رَكَعَ وَسَجَدَ وَبَكَى بَيْنَ يَدَيْهِ؟، لَقَدْ أَجَابَ اللهُ دَعْوَةَ “إِبْلِيسَ” حِينَ قَالَ: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} الحجر:36، فَقَالَ الكَرِيمُ: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} الحجر:37. فَإِذَا كَانَ الله الكريم قَدْ أَجَابَ شَرَّ الخَلْقِ ، أَفَيَرُدُّ سُؤَالَ مَنْ يَقُولُ: “يَا رَبِّ، يَا غَفُورُ، يَا رَحِيمُ”؟
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وفي دعاء الأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ: “هُوَ الكَرِيمُ يُجِيبُ مَنْ نَادَاهُ”. فقد نَادَاهُ (نُوحٌ)، وَقَدْ غَلَبَهُ الطُّوفَانُ، فَنَجَّاهُ وَمَنْ مَعَهُ، فقال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) (75)، (76) الصافات،
وَنَادَاهُ (أَيُّوبُ)، وَقَدْ مَسَّهُ الضُّرُّ، وَفَقَدَ الأَهْلَ وَالمَالَ، قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (83) الأنبياء، فَقَالَ الكَرِيمُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (84) الأنبياء.
وَنَادَاهُ (يُونُسُ) فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ: ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ البَحْرِ، وَظُلْمَةِ بَطْنِ الحُوتِ، فَنَادَى: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (87) الأنبياء فَكَانَ الجَوَابُ الفَوْرِيُّ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (88) الأنبياء.
وتَأَمَّلُوا قَوْلَهُ تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}؛ فَهِيَ لَيْسَتْ خَاصَّةً بِيُونُسَ، بَلْ هِيَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يُنَادِي رَبَّهُ بِيَقِينٍ، فمن شَرْطَ الإِجَابَةِ “اليَقِينُ”، أَنْ تَدْعُوَ اللهَ وَأَنْتَ مُوقِنٌ بِالإِجَابَةِ، لَا أَنْ تَدْعُوَهُ مُجَرِّبَاً أَوْ شَاكَّاً، فالكَرِيمُ لَا يُعَامَلُ بِالِاخْتِبَارِ، بَلْ يُعَامَلُ بِالافْتِقَارِ، وكُلَّمَا ازْدَدْتَ انْكِسَارَاً بَيْنَ يَدَيْهِ، ازْدَدْتَ مِنْهُ قُرْبَاً، وَكُلَّمَا أَظْهَرْتَ عَجْزَكَ، أَظْهَرَ لَكَ قُدْرَتَهُ، فالله تعالى لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، فَلَا تَنْقَطِعُوا عَنِ النِّدَاءِ، وَلَا تَسْتَبْطِئُوا العَطَاءَ، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ عَبْدِهِ وَهُوَ يَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا أَخَّرَ عَنْكَ المَطْلُوبَ، لِيَزِيدَكَ مِنْ لَذَّةِ المُنَاجَاةِ، وَشَرَفِ الِانْتِسَابِ إِلَى عِبَادَتِهِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
وقد يدعو العبد اللهَ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، فَيَصْرِفُهَا اللهُ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْرُجُ خَاسِرَاً؛ بَلْ يُعْطِيهِ الكَرِيمُ سَكِينَةً فِي قَلْبِهِ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ بَلَاءً كَانَ سَيَقَعُ بِهِ، أَوْ يَكْتُبُ لَهُ أَجْرَاً يُثَقِّلُ مِيزَانَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَكَيْفَ يَيْأَسُ عَبْدٌ ورَبُّهُ اللهُ؟ وَكَيْفَ يَقْنَطُ إِنْسَانٌ، وخَالِقُهُ هُوَ “أَكْرَمُ الأَكْرَمِينَ”؟، فإِنَّ اليَأْسَ سُوءُ ظَنٍّ بِاللهِ، وَاليَقِينَ حُسْنُ عِبَادَةٍ لِلَّهِ، فَانْفُضُوا عَنْ قُلُوبِكُمْ غُبَارَ القُنُوطِ، وَارْفَعُوا أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ، وَنَادُوا: يَا جَوَادُ، يَا كَرِيمُ، يَا مُجِيبَ السَّائِلِينَ.
واعلموا أن لِلْكَرَمِ الإِلَهِيِّ أَوْقَاتَاً تَتَجَلَّى فِيهَا النَّفَحَاتُ، وَتُفْتَحُ فِيهَا الأَبْوَابُ، ومِنْهَا: ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، حِينَ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا نُزُولاً يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَفي مسند أحمد: (عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «يَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ». وفي رواية: (فَإِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ»، فتَأَمَّلُوا هَذَا النِّدَاءَ القُدُسِيَّ؛ فالمَلِكُ هُوَ الَّذِي يَعْرِضُ العَطَاءَ! فَأَيْنَ الغَافِلُونَ؟ وَأَيْنَ المَحْرُومُونَ عَنْ مَوَائِدِ الكَرَمِ فِي سَاعَاتِ السَّحَرِ؟، فمَنْ تَرَكَ مَضْجَعَهُ لِيُنَادِيَ رَبَّهُ، فَقَدْ وَصَلَ إِلَى أَقْرَبِ مَقَامَاتِ الإِجَابَةِ.
ومِمَّا يَمْنَعُ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ، وَيَحْجُبُ كَرَمَ اللهِ: “أَكْلُ الحَرَامِ”، ففي صحيح مسلم: عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ».
فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَفِيضَ الله الكَرِيمُ عَلَيْكَ بِجُودِهِ، فَطَهِّرْ مَطْعَمَكَ، وَطَهِّرْ مَكْسَبَكَ، وَأَقْبِلْ عَلَى اللهِ بِقَلْبٍ صَادِقٍ، تَجِدِ اللهَ أَمَامَكَ حَيْثُمَا وَجَّهْتَ رَجَاءَكَ، وتَذَكَّرُوا أَنَّ اللهَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فلَا تَسْتَعْظِمُوا حَاجَاتِكُمْ عَلَى كَرَمِ اللهِ، فَمَهْمَا كَبُرَتْ هُمُومُكُمْ، فَاللهُ أَكْبَرُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثانية (هُوَ الكَرِيمُ يُجِيبُ مَنْ نَادَاهُ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وَمَهْمَا عَظُمَتْ مَطَالِبُكُمْ، فَاللهُ أَعْظَمُ، ولَوْ أَنَّ أَوَّلَ الخَلْقِ وَآخِرَهُمْ، وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوا اللهَ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه: (عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ». هَذَا هُوَ الكَرِيمُ الَّذِي نَعْبُدُهُ، وَهَذَا هُوَ الرَّحِيمُ الَّذِي نَرْجُوهُ، فَتَعَلَّقُوا بِحَبْلِ الدُّعَاءِ، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ مَا قَدَّرَهُ اللهُ لَكُمْ هُوَ عَيْنُ الكَرَمِ، ولَا تَكُفُّوا عَنِ النِّدَاءِ، وَلَا تَمَلُّوا مِنَ الرَّجَاءِ، فَمَا طَرَقَ بَابَ الكَرِيمِ أَحَدٌ فَرَجَعَ خَائِباً.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
نعم (هُوَ الْكَرِيمُ يُجِيبُ مَنْ نَادَاهُ): فهو الَّذِي لَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، بَلْ يُحِبُّ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ، مُنْطَرِحًا بَيْنَ يَدَيْهِ. إِنَّ الْبَشَرَ مَهْمَا كَرُمُوا، فَإِنَّهُمْ يَمَلُّونَ مِنَ السُّؤَالِ، أَمَّا اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ، فَإِنَّهُ يَغْضَبُ إِذَا تُرِكَ سُؤَالُهُ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» صحيح الأدب للبخاري. فَكُنْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ فَطِنًا، وَاجْعَلْ حَاجَتَكَ عِنْدَ مَنْ يَفْرَحُ بِعَطَائِكَ، وَيَزِيدُكَ مِنْ فَضْلِهِ كُلَّمَا ازْدَدْتَ لَهُ طَلَبًا.
وانْتَبِهُوا إِلَى فَهْمِ مَعْنَى “الْإِجَابَةِ” فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مِنْ رَبِّنَا الْكَرِيمِ تَتَنَوَّعُ بِحَسْبِ حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا يُصْلِحُنَا. فَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَكَ مَا سَأَلْتَ بِعَيْنِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْكَ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابًا جَزِيلاً. لِذَا، لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ “دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي”، بَلِ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ نِدَاءٍ خَرَجَ بِصِدْقٍ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ، وَتَحَقَّقَتْ بَرَكَتُهُ، فاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَرُدَّ قَصْدَكَ، لَكِنَّهُ أَعْلَمُ مِنْكَ بِتَوْقِيتِ الْعَطَاءِ وَنَوْعِهِ. فَرُبَّمَا مَنَعَكَ لِيَحْمِيَكَ، وَرُبَّمَا أَخَّرَ لَكَ لِيُفَاجِئَكَ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ.
هُوَ الْكَرِيمُ: وإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُنَادَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَأَنْ يُتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، وَمِنْ أَعْظَمِ لَحَظَاتِ النِّدَاءِ لَحْظَةُ السُّجُودِ، حَيْثُ يَكُونُ الْعَبْدُ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ مِنْ رَبِّهِ. وَمِنْهَا الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذِهِ الْعَطَايَا الرَّبَّانِيَّةِ؟ وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذَا الْعَرْضِ السَّخِيِّ الَّذِي يَتَكَرَّرُ كُلَّ لَيْلَةٍ؟، والْإِجَابَة لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا، بَلْ أَعْظَمُ نِدَاءٍ هُوَ طَلَبُ الْهِدَايَةِ، وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَطَلَبُ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ، عِنْدَمَا تَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فَأَنْتَ تَقُومُ بِأَعْظَمِ نِدَاءٍ، وَاللَّهُ يَقُولُ لَكَ: «هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». فَلَا تَكُنْ هِمَّتُكَ فِي الدُّعَاءِ صَغِيرَةً، بَلِ اسْأَلِ اللَّهَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى، وَاسْأَلْهُ مُرَافَقَةَ النَّبِيِّ ﷺ، فَإِنَّكَ تَسْأَلُ كَرِيمًا لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ.
(هُوَ الْكَرِيمُ): هَذِهِ الصِّفَةَ -الْكَرَمَ وَالْإِجَابَةَ- تَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ يَعِيشُ فِي حَالَةٍ مِنَ التَّفَاؤُلِ الْمُسْتَمِرِّ، فَمَهْمَا بَلَغَتِ الْأَزَمَاتُ، وَمَهْمَا اسْتَحْكَمَتِ الْحَلَقَاتُ، فَإِنَّ لَنَا رَبًّا يُغَيِّرُ الْأَقْدَارَ بِالدُّعَاءِ. قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ». فَالنِّدَاءُ هُوَ السَّلَامُ الْأَقْوَى فِي يَدِ الْمُؤْمِنِ. فَإِيَّاكَ أَنْ تَتْرُكَ هَذَا السِّلَاحَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَيْأَسَ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. فَالْكَرِيمُ لَا يُخَيِّبُ مَنْ رَجَاهُ، وَالْمُجِيبُ لَا يَرُدُّ مَنْ دَعَاهُ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَأَكْثِرُوا مِنْ قَرْعِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ. اجْعَلُوا أَلْسِنَتَكُمْ رَطْبَةً بِنِدَاءِ “يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ”، وَاجْعَلُوا قُلُوبَكُمْ مَوْصُولَةً بِعَرْشِ الرَّحْمَنِ. فَمَا سَعِدَ مَنْ سَعِدَ إِلَّا بِصِدْقِ الِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَمَا شَقِيَ مَنْ شَقِيَ إِلَّا بِالِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْسِهِ وَنِسْيَانِ مَوْلَاهُ. هُوَ الْكَرِيمُ، وَهُوَ الرَّحِيمُ، وَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
الدعاء
