خطبة عن (اقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ)
مايو 2, 2023خطبة عن (القصاص يوم القصاص)
مايو 4, 2023الخطبة الأولى ( هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (25): (28) الطور
إخوة الإسلام
في الجنة العالية، جلس أهلها المكرمون، يأكلون فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، ويشربون من خمر بيضاء لذة للشاربين، لا يصدع الرأس، ولا يوجع البطن، ولا يسكر فيحمل على الهذيان كخمر الدنيا. والغلمان يطوفون عليهم بأنواع الخدمة، كأنهم لؤلؤ مكنون، في حسنهم وبهائهم ونظافتهم، وحسن ملابسهم. وقد اتكؤوا على السندس والإستبرق، ينظرون في أنهار الجنة وأشجارها وثمارها، ويتمتعون بهوائها. فأقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف من سوء العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال خوفهم، ورضوان الله ونجاتهم، يقول بعضهم لبعض: بم صرتم إلى هذه المنزلة الرفيعة؟. فيرد بعضهم: إنا كنا في الدار الدنيا، ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه، فتصدق الله علينا الكريم الرحيم، وأجارنا مما كنا منه خائفين ،فقد كنا من قبل نتضرع إليه أن يمن علينا بالمغفرة، ويتجاوز عن التقصير، فاستجاب لنا ربنا وأعطانا سؤلنا: مغفرة وجنة نعيم، ووقانا عذاب السموم، إنه سبحانه لطيف بعباده، صادق فيما وعد، رحيم بالمؤمنين. قال أحدهم لصاحبه: “يا فلان! أتدري أي يوم غفر الله لنا؟. قال: يوم كنا في موضع كذا، فدعونا الله، فغفر لنا).
ويقول سيد قطب: (السر إذن أنهم عاشوا على حذر من هذا اليوم. عاشوا في خشية من لقاء ربهم. عاشوا مشفقين من حسابه. عاشوا كذلك وهم في أهلهم، حيث الأمان الخادع. ولكنهم لم ينخدعوا. وحيث المشغلة الملهية. ولكنهم لم ينشغلوا. عندئذ مَنَّ الله عليهم، ووقاهم عذاب السموم، الذي يتخلل الأجسام كالسم الحار اللاذع!، وقاهم هذا العذاب مِنَّة منه وفضلاً، لما علم من تقواهم وخشيتهم وإشفاقهم. وهم يعرفون هذا. ويعرفون أن العمل لا يدخل صاحبه الجنة، إلا بمنة من الله وفضل. فما يبلغ العمل أكثر من أن يشهد لصاحبه أنه بذل جهده، ورغب فيما عند الله. وهذا هو المؤهل لفضل الله. وقد كانوا مع الإشفاق والحذر والتقوى يدعون الله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ}. وهم يعرفون من صفاته البر بعباده، والرحمة بعبيده: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }. وكذلك، ينكشف سر الوصول في تناجي هؤلاء الناجين المكرمين في دار النعيم).
أيها المسلمون
وهكذا َتَتَجَلَّى سِعَةُ بِرِّ الله تعالى بعباده المؤمنين، فِيمَا أَعَدَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي دَارِ خُلْدِهِ؛ يَتَنَعَّمُونَ بِجِوَارِهِ فِي بَحْبُوحَةِ دَارِهِ، يَقُولُونَ وَهُمْ فِيهَا فَاكِهُونَ؛ (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطُّورِ: 28]. فَاللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْبَرُّ بِعِبَادِهِ، الْعَطُوفُ عَلَيْهِمْ، الْمُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، يُوسِعُهُمْ خَيْرًا وَكَرَمًا وَفَضْلًا وَشُكْرًا وَإِجَابَةً؛ (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لُقْمَانَ: 20]. يَقُولُ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: “الْخَيْرُ مِنَ اللَّهِ كَثِيرٌ؛ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُهُ مِنَ النَّاسِ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَهُوَ لِلنَّاسِ مِنَ اللَّهِ مَعْرُوضٌ؛ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلَا يَجِدُهُ مَنْ لَا يَبْتَغِيهِ، وَلَا يَسْتَوْجِبُهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِهِ… أَلَمْ تَرَوْا إِلَى كَثْرَةِ نُجُومِ السَّمَاءِ؟ فَإِنَّهُ لَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ”،
وَمَعَ عَظِيمِ بِرِّهِ بِعِبَادِهِ، ومَعَ كَمَالِ غِنَاهُ سبحانه: إلا أنه تعالى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ، وَإِنَابَةِ الْمُنِيبِينَ، فقد جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا. فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ”
كما دلت الآيات على أن الدعاء من أرجى الأعمال عند الرب تبارك وتعالى، وقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتأول القرآن فتدعو الله تعالى، فتقول: اللهم قنا برحمتك عذاب السموم؛ إنك أنت البر الرحيم؛ لأن الله قال عن أولياءه: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:٢٧ – ٢٨].
أيها المسلمون
فبعد وصف نعيم أَهْل الجنة، وتحاور أهلها عن أحوالهم في الدُّنيا، وكيف كانوا خائفين من عذاب الله، فدعوه باسمي (البر والرحيم)، فوقاهم عذابَ السَّموم؛ استجابةً لدعائهم. فالله تعالى بر بعباده، ويحبُّ البرَّ، ويأمر به؛ فقال في آية أخرى حوت جميع أعمال البر، فقال تعالى: “لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” [البقرة: 177].
كما أَثنى الله تعالى على عيسى ويحيى – عليهما السَّلام – ببرِّهما بأبويهما، فقال: “وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا” [مريم: 32]، وقال عن يحيى – عليه السلام : “وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا” [مريم: 14] . وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأخلاقَ الحسنةَ من البرّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «البرُّ حُسْنُ الخُلُق وَالإثْمُ مَا حَاكَ في صَدْركَ وَكَرهْتَ أَنْ يَطَّلعَ عَلَيْه النَّاسُ» (رواه مسلم)،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ )
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
ما عُبد الله بمثل الحزن والشفقة والوجل، فهو دليل فهم المرء حقيقة الدنيا، واستعداده لما يستقبل من أمور الآخرة. والمؤمن العاقل يصبح ويمسي مشفقا على نفسه، حزينا على ما فاته ،يشفق على نفسه من عذابه ربه. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} المعارج (27)، (28).
والمؤمن يشفق على أعماله أن ترد فلا تقبل، قال تعالى في وصف عباده المتقين: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} المؤمنون (60)، (61)، وفي مسند أحمد: (عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي هَذِهِ الآيَةِ ( الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الَّذِى يَسْرِقُ وَيَزْنِى وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ قَالَ « لاَ يَا بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الَّذِى يُصَلِّى وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ»، فقد قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} الفرقان (23). فمن الغفلة والجهل المبين، أن يعيش الإنسان آمنا مطمئنا، وكأنه آخذ على ربه عهدا بدخول الجنة. فالله تعالى لم يصف عباده المؤمنين إلا بالإشفاق والخوف والوجل والحزن في الدنيا، حتى إذا دخلوا الجنة زال حزنهم وخوفهم وإشفاقهم ووجلهم، وتبدل فرحا وأمنا، قال تعالى: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} الزخرف (68): (73)، وقال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (33): (35) فاطر
الدعاء