خطبة عن (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)
ديسمبر 22, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (ودَخَلَ شهرُ رَجَب)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) التوبة (36)، وَفي الصحيحين :(عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». وروى الإمام أحمد في مسنده: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَارِكْ لَنَا فِي رَمَضَانَ».
إخوة الإسلام
إِنَّنَا نَسْتَقْبِلُ الْيَوْمَ ضَيْفاً كَرِيماً، وَزَمَاناً شَرِيفاً، وَمَوْسِماً مِنَ الْمَوَاسِمِ الَّتِي عَظَّمَهَا اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي كِتَابِهِ، وَرَفَعَ قَدْرَهَا نَبِيُّنَا ﷺ فِي سُنَّتِهِ؛ إِنَّهُ شَهْرُ رَجَبٍ الْأَصَمُّ، أَحَدُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ مَحَطَّةً لِتَطْهِيرِ النُّفُوسِ، وَتَهْيِئَةِ الْقُلُوبِ لِمَا بَعْدَهَا مِنْ عَظِيمِ الطَّاعَاتِ، ولَقَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا هَذَا الشَّهْرُ لِيُذَكِّرَنَا بِحُرْمَةِ الزَّمَانِ، وَبِعَظَمَةِ الْخَالِقِ، الَّذِي اصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ مَا شَاءَ، وَأَمَرَنَا فِيهَا بِلُزُومِ التَّقْوَى، وَمُجَانَبَةِ الظُّلْمِ.
وشهرُ رجب كان يسمى عند العرب قديما: “رجبُ الأصمُّ” لأنه كان يُصمُّ فيه صوتُ السِّلاحِ في الجاهليةِ، تعظيماً له، وهو “رجبُ المضرُ” الذي سُمي بذلك لأنَّ قبيلةَ مُضر كانت أشدَّ الناسِ تعظيماً له، وحفظاً لِحرمتِهِ، فإذا كان أهلُ الجاهليةِ يعظمونَهُ بتركِ القتال، فما بالُنا نحنُ أهلُ الإسلام، أليسَ جديراً بنا أن نعظمَهُ بتركِ الذنوبِ والآثام؟، أليسَ حرياً بنا أن نستشعرَ فيه عظمةَ الخالقِ الذي اصطفاهُ من بينِ الشُّهور؟.
وتأملوا في قولِ اللهِ سبحانه: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} التوبة (36). فإنَّ الظُّلمَ في هذه الأشهرِ الحرمِ أعظمُ منه في غيرها، كما أنَّ الطاعةَ فيها أعظمُ أجراً، فالظُّلمُ هنا يشملُ كلَّ معصية، وكلَّ تجاوزٍ لحدودِ الله، فالسيئةَ في شهرِ رجبٍ ليست كغيرها، لأنها وقعت في زمانٍ له حرمةٌ عند الله، (فيَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ)،
وقوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}. فظُلْم النَّفْسِ مُحَرَّمٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَلَكِنَّهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ -وَمِنْهَا رَجَبٌ- أَشَدُّ إِثْماً وَأَعْظَمُ جُرْماً، وَالظُّلْمُ هُنَا يَشْمَلُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ يَرْتَكِبُهَا الْعَبْدُ، سَوَاءً كَانَتْ فِي حَقِّ اللهِ، بِالشِّرْكِ أَوِ التَّقْصِيرِ فِي الْفَرَائِضِ، أَوْ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، بِأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ خَدْشِ أَعْرَاضِهِمْ، فتَعْظِيمَ هَذَا الشَّهْرِ يَكُونُ بِالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَبِتَوْقِيرِ شَعَائِرِ اللهِ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْحُرُمَاتِ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.
فشهر رجب هو مَوْسِمُ “لغسيلِ القلوب”، فابدأ بتركِ الظلم، ورد المظالمِ، ورُدَّ الحقوقَ إلى أهلها، وكُفَّ لسانكَ عن الغيبةِ والنميمة، وطهّر قلبكَ من الغِلِّ والحسد، فالمؤمنُ حريصٌ على أن يدخلَ رمضانَ بقلبٍ سليم، ولا سبيلَ لذلك إلا بالبَدءِ من رجب، وقد كان السلفُ الصالحُ يقولون: “شهرُ رجبٍ هو شهرُ الزَّرع، وشهرُ شعبانَ هو شهرُ السُّقيا، وشهرُ رمضانَ هو شهرُ الحَصاد”، فمن لم يزرعْ في رجب، ولم يسقِ في شعبان، فكيفَ يطمعُ أن يحصدَ في رمضان؟،
فإنَّ الذي ينتظرُ ليلةَ القدرِ وهو غارقٌ في غفلتِهِ اليوم، كمن ينتظرُ الثمرَ وهو لم يحرثْ أرضاً، ولم يغرسْ شجراً، فشهر رجبٌ هو وقتُ “المُجاهدة”، وقتُ ترويضِ النفسِ على القيامِ، والصيام، ووقتُ إحياءِ الأورادِ التي هُجرت، ووقتُ العودةِ إلى المصحفِ الذي علاهُ الغبار،
وشهر رجب سمّاهُ بعض العلماء “شهرَ الاستغفار” لأنَّ الاستغفارَ هو الذي يُزيلُ الرَّانَ عن القلوبِ، لتتهيأَ لنفحاتِ الرحمن، فاجعلوا ألسنتكم رطبةً بالاستغفار، ونادوا ربَّكم: “اللهم بارك لنا في رجب، وشعبان، وبلغنا رمضان”، فبلوغَ رمضانَ أمنيةٌ غالية، لا ينالها إلا الموفقون، وبدايةُ التوفيقِ هي إحسانُ العملِ في رجب، فَمَنْ أحسنَ في البدايات، رُزِقَ التوفيقَ في النهايات.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ
ومن المؤسف أنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ أَحْدَثُوا فِي هَذَا الشَّهْرِ عِبَادَاتٍ، وَمَنَاسِكَ، لَمْ يَأْذَنْ بِهَا اللهُ، وَلَا صَحَّتْ عَنْ رَسُولِهِ ﷺ، كَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ، أَوْ تَخْصِيصِهِ بِصِيَامٍ مُعَيَّنٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ تَعْظِيمَ رَجَبٍ يَكُونُ بِمَا شَرَعَهُ اللهُ، لَا بِمَا ابْتَدَعَهُ الْبَشَرُ، فَأَفْضَلُ مَا تُقَدِّمُهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ هُوَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَالْإِكْثَارُ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي كُنْتَ تَعْمَلُهَا فِي غَيْرِهِ، تَعْظِيماً لِحُرْمَةِ الزَّمَانِ.
فانْظُرُوا فِي أَحْوَالِكُمْ مَعَ رَبِّكُمْ عِنْدَ دُخُولِ هَذَا الشَّهْرِ، هَلْ سَيَمُرُّ عَلَيْنَا رَجَبٌ كَمَا مَرَّ غَيْرُهُ؟، أَمْ أَنَّنَا سَنَجْعَلُهُ بِدَايَةً لِصَلَاحِ الْبَالِ، وَطَهَارَةِ الْجَنَانِ؟، إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْفَطِنَ هُوَ مَنْ يَنْتَهِزُ فُرَصَ الزَّمَانِ، لِيَتَقَرَّبَ إِلَى الرَّحْمَنِ، فَشَمِّرُوا عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ، وَطَهِّرُوا بُيُوتَكُمْ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَلْسِنَتَكُمْ مِنَ الْغِيبَةِ، وَقُلُوبَكُمْ مِنَ الشَّحْنَاءِ؛ تَعْظِيماً لِمَا عَظَّمَ اللهُ.
وحُرْمَةَ رَجَبٍ تَقْتَضِي مِنَّا أَيْضاً: تَرْكَ الْخُصُومَاتِ، وَالْمُشَاحَنَاتِ، فَإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ حَرَّمَ الْقِتَالَ فِيهِ لِحُرْمَتِهِ، فَأَوْلَى بِنَا أَنْ نُحَرِّمَ الْقِطِيعَةَ، وَالْهِجْرَانَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ، فاجْعَلُوا رَجَبَ شَهْرَ التَّصَالُحِ، شَهْرَ مَدِّ الْجُسُورِ، شَهْرَ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِ مُضَاعَفٌ،
أقولُ قَوْلي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم.
الخُطْبَةُ الثانية (ودَخَلَ شهرُ رَجَب)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وقيل أنَّ شهرَ رجبٍ: هو “بَردُ القلوب” قبلَ “حرارةِ رمضان”، فمن سكنتْ نفسهُ في رجب، وقرَّتْ عينهُ بذكرِ الله، وجدَ حلاوةَ الإيمانِ في شعبان، وذاقَ جِيادَ الأجرِ في رمضان، فالعبرةَ ليست في دخولِ الشُّهور، بل بِمَا تُحدثُهُ هذه الشُّهورُ في القلوبِ من تغيير، فهل سيخرجُ رجبُ وأنا كما دخلتُ فيه؟، أم سأخرجُ وقد انصلحَ حالي مع ربي، ومع أهلي، ومع جيراني؟
فدُخُول هَذَا الشَّهْرِ يَجِبُ أَنْ يُحْدِثَ فِي نُفُوسِنَا “نَفْضَةً إِيمَانِيَّةً”، فلَا تَنْشَغِلُوا فِيهِ بِالْخِلَافَاتِ حَوْلَ ثُبُوتِ وَقَائِعَ تَارِيخِيَّةٍ (كَالْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ)، بِقَدْرِ مَا تَنْشَغِلُونَ بِالدَّرْسِ الْعَظِيمِ لِتِلْكَ الرِّحْلَةِ؛ وَهُوَ “عُرُوجُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ”، فلِيَكُنْ رَجَبُ مِعْرَاجاً لَكَ عَنِ الذُّنُوبِ، وَإِسْرَاءً بِرُوحِكَ مِنْ مَيَادِينِ الْغَفْلَةِ إِلَى رِحَابِ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ.
فلِنَجْعَلْ مِنْ دُخُولِ رَجَبٍ حَافِزاً لِتَغْيِيرِ أَنْفُسِنَا، فعَمِّرُوا أَوْقَاتَكُمْ بِالذِّكْرِ، وَبِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَانْبِذُوا التَّفَرُّقَ، فإِنَّ الْأُمَّةَ الْيَوْمَ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى أَنْ تَعُودَ لِحُرْمَةِ دِينِهَا، وَحُرْمَةِ زَمَانِهَا، لِيَرْفَعَ اللهُ عَنْهَا مَا نَزَلَ بِهَا مِنَ الْبَلَاءِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَعَظِّمُوا شَهْرَ رَجَبٍ كَمَا عَظَّمَهُ اللهُ، وَاجْعَلُوا هَذَا الشَّهْرَ سُلَّماً لِلْوُصُولِ إِلَى رَمَضَانَ بِقُلُوبٍ سَلِيمَةٍ، وَنُفُوسٍ زَكِيَّةٍ، وَأَعْمَالٍ مَقْبُولَةٍ، وتذكروا أنَّ الأشهرَ الحرمَ هي محطاتٌ لِشحنِ النفوس، فكونوا فيها من “السباقين السابقين”، وانظروا في صحائفِ أعمالكم، وجدّدوا التوبةَ مع كلِّ شروقِ شمسٍ في هذا الشهرِ المُبارك.
الدعاء
