خطبة حول حديث (لَيْسَ لاِبْنِ آدَمَ حَقٌّ إلا بَيْتٌ يَسْكُنُهُ وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ)
سبتمبر 26, 2020خطبة عن الأمل والأجل وحديث : ( هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذَا أَجَلُهُ )
سبتمبر 26, 2020الخطبة الأولى ( قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ طُولُ الْحَيَاةِ وَكَثْرَةُ الْمَالِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام البخاري في صحيحه : (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ : « لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا ، وَطُولِ الأَمَلِ » وفي رواية لمسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ حُبِّ الْعَيْشِ وَالْمَالِ ». وعند الترمذي بسند حَسَنٌ صَحِيحٌ: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ طُولُ الْحَيَاةِ وَكَثْرَةُ الْمَالِ ».
إخوة الإسلام
إن حبُّ المال ، والتعلُّق بطلبِه ، والشَّغَفُ بجمعه، والحِرصُ على تنميته، وكذا صيانتُهُ من الآفاتِ ، كل ذلك أمر مركوزٌ في الفِطَر، ومُستقرٌّ في العقول، ومُستحكِمٌ في النفوس. وفي بيان قوة هذا الحب، وكمال هذا التعلُّق، وتمام هذا الحِرص ، فقد جاء قولُه تعالى في كتابه العزيز : ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ (19) ،(20) الفجر ، وقوله تعالى في وصف الإنسان: ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8]،وقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (14) آل عمران ، وفي هذا الحديث الذي هو بين أيدينا اليوم إن شاء الله ،يقول فيه رسول صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي :(حُبِّ الدُّنْيَا ، وَطُولِ الأَمَلِ) أو(حُبِّ الْعَيْشِ وَالْمَالِ ) أو (طُولُ الْحَيَاةِ وَكَثْرَةُ الْمَالِ ) » قال النووي : هذا مجاز واستعارة : ومعناه :( أن قلب الشيخ كامل الحب لكثرة المال ،وطول الحياة ، محتكم كاحتكام قوة الشاب في شبابه ) ، والمراد استمراره على ذلك ، ودوامه عليه ، وأن حبه لهاتين الخصلتين لم ينقطع عنه بشيخوخته . وقيل : وصفه بكونه شابا ،لوجود هذين الأمرين فيه ، واللذين هما في الشباب أكثر ، وبهم أليق ، للرجاء في طول أعمارهم ، ودوام استمتاعهم ولذاتهم في الدنيا . وقيل : أن الحكمة في تخصيص هذين : أن أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه ، فهو راغب في بقائها ،فأحب لذلك طول العمر ، وأحب المال ، لأنه أعظم في دوام الصحة التي ينشأ عنها غالبا طول العمر ، فلما أحس بقرب نفاذ ذلك ، اشتد حبه له ، ورغبته في دوامه.
أيها المسلمون
ومن الواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر في هذا الحديث الشريف أمته من أمرين : الأول : الغفلة عن الموت ، وطول الأمل ، والثاني : الْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ فحب المال والحرص الشديد على جمعه قد يذهبَ بصاحبه كلَّ مذهبٍ، وهو خليق بأن يُركِبَه كلَّ مركَب، غير أن الله تعالى لم يدَعْ الانسان وحيدًا أمام سِحر هذا المال وبريقِه، أسيرًا لفتنتِه وإغرائه، يخبِطُ خَبْط عشواء في جمعه وإنفاقه؛ بل أقامَ له معالِمَ، وحدَّ له حدودًا، ورسَمَ له طريقَ سيرٍ ، يُفضِي بسالكِهِ إلى خير غاية، وينتهي به إلى أكمل مقصود. وهو طريقٌ دلَّ عليه ما جاء في كتابِ ربنا وسنة نبيِّنا – صلوات الله وسلامه عليه – من بيِّناتٍ في آياتٍ مُحكَمات، وسُننٍ واضِحاتٍ، وفي الطليعَةِ من ذلك ، جاء الثناءُ على المالِ الصالحِ ، يُرزَقُه العبدُ الصالحُ المُطيعُ لله، المُستقيمُ على أمره، الحافظُ لحدوده، في قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: « يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ » رواه احمد. وإنما يكونُ صلاحُ هذا المال بحِلِّ أصله، وطِيبِ كسبِه، ومشروعيَّةِ مصدره، وهذا يستلزِمُ التنزُّه عن أكل الحرامِ الخبيثِ الذي يبُوءُ آكِلُه بإثمه، ويكونُ وبالاً عليه، فقد روى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ :( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) المؤمنون 51،وَقَالَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) » البقرة 172. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ». والمرادُ أن الرسلَ وأممَهم مأمورون بالأكل من الطيبات، التي هي الحلال، وبالعملِ الصالح، فما دام الأكلُ حلالاً ،فالعملُ صالحٌ مقبولٌ، فإذا كان الأكلُ غيرَ حلالٍ ، فكيف يكونُ العملُ مقبولاً؟! ،ولذا كانت الصدقةُ بالمال الحرام مردودةً غيرَ مقبولة، ففي “صحيح مسلم” ،(أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ » والأمرَ ليس مُقتصِرًا على ذلك ، بل المال الحرام قد ينتهي بصاحبِهِ إلى نار الجحيم يوم القيامة، ففي سنن الترمذي ( يقول صلى الله عليه وسلم : (يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ » والسُّحْتُ هو الحرام في كل صُوره؛ كأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، وأخذ رُشَا، ومهر البغِيّ – وهو ما تُعطاهُ لقاءَ بِغائِها -، وحُلوان الكاهن – وهو ما يأخُذه أجرًا لكِهانته -، وما يُؤخَذ أجرًا لبيع المُسكِرات والمُخدِّرات، وكافة أنواعِ البُيُوع التي حرَّمَها الله ورسولُه؛ من مطعوماتٍ ومشروبات ، وملبوسات، ومُتَّخذاتٍ للتزيُّن، ونحوها . وإنها لنهايةٌ مُرعِبة، ومصيرٌ مُفزِعٌ تقَضُّ له مضاجِعُ أُولِي النُّهى، وتُوجِبُ تفتُّحَ الوعيِ لإدراك سبيل النجاة، والظَّفَر بأسبابِ السلامة، والحَظْوة بمسالكِ العافية التي تأتي في الطليعةِ منها: تقوى الله تعالى، والاستحياءُ منه حق الحياء؛ فإنه من أظهر أسبابِ التنزُّه عن أكل الحرام. وقد روى البزار في مسنده : (عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا النَّاسَ ، فَقَالَ : هَلُمُّوا إِلَيَّ ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا ، فَقَالَ : هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لاَ تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ). ولا بد أن يعلمَ أن قليلَ المال الذي يكفيه خيرٌ له من كثيرِ المال الذي يُلهِيه عن كلِّ ما يصلُحُ به أمرُه، وتستقيمُ به حالُه في دينه ودُنياه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في “مسنده” 🙁 عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ بُعِثَ بِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى وَلاَ آبَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ بُعِثَ بِجَنَبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً وَأَعْطِ مُمْسِكاً مَالاً تَلَفاً ».
أيها المسلمون
كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغفلة عن الموت ، وطول الأمل ، فطول الأمل سببٌ لقلة الطاعة، والتكاسل عن العبادة، وقسوة القلب، وتأخيرِ التوبة، واتباع الهوى، وكثرة المعصية، والحرص على الدنيا، والغفلة عن الموت، وما بعده من شدائد وأهوال، وربما الموت على المعصية؛ وهذا هو عينُ الشقاء ، يقول الحسن البصري : “ما أطال عبدٌ الأملَ إلا ساء العمل”؛ويقول مالك بن دينار – رحمه الله -:“أربع من الشقاء: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا” ، ويقول الفضيل بن عياض – رحمه الله -: “إن من الشقاء طول الأمل، وإن من النعيم قِصَر الأمل”، وقصر الأمل: هو الاستعداد للرحيل في أي وقتٍ وحين، فلا ترى صاحبَه إلا متأهِّبًا؛ لعلمه بقُرْب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب؛ فإنه يبعث على انتهاز فرصة الحياة التي تمر مرَّ السحاب. وقال ابن رجب – رحمه الله – في “لطائف المعارف” : “اعلم أن الإنسان ما دام يأمُل الحياة، فإنه لا يقطَع أملَه من الدنيا، وقد لا تَسمَح نفسه بالإقلاع عن لذَّاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويُرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيَقَّن الموت وأيِس من الحياة، أفاق من سكرتِه بشهوات الدنيا؛ فنَدِم حينئذ على تفريطه ندامةً يكاد يَقتُل نفسه، وطلب الرَّجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يُجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، وقد حذَّر الله في كتابه عبادَه من ذلك؛ ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح”. ومَثَلُ مَن يُطيل الأملَ ويقعد عن العمل، والآخر المتأهِّب المُستعِد، كمثل قومٍ في سفر، فنزلوا قرية، فمضى المتأهِّب الحازم المستَعِد ،فاشترى ما يَصلُح لتمام سفره، وجلس متأهبًا للرحيل ، أما المُفرِّط فإنه يقول كل يوم: سأتَأهَّبُ غدًا؛ حتى أعلن أمير القافلة الرحيل، ولا زاد معه، وهذا حال المؤمن الحازم الذي لا يَندم عند مجيء الموت، بخلاف المُفَرِّط الذي يصرخ ويقول : ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ طُولُ الْحَيَاةِ وَكَثْرَةُ الْمَالِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ولقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تُحَذِّر من طول الأمل، وقد بيَّن رب العالمين في القرآن الكريم أنَّ طولَ الأمل من وساوس الشياطين؛ قال تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 25]، قال الحسن البصري – رحمه الله -: “أي زيَّن لهم الشيطانُ الخطايا، ومدَّ لهم في الأمل”؛ الجامع لأحكام القرآن ، فالشيطان يُغرِّر الإنسان، ويَعِده ويُمنِّيه الخُلْد، ويشجِّعه على الانغماس في الشهوات، والوقوع في المحرَّمات، واللهث وراء الملذات؛ كما قال تعالى عن الشيطان: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [النساء: 120].ومَن كان هذا وصْفَه، فحاله كحال البهائم؛ قال تعالى: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3]، أي: دعْهم يا محمد يعيشوا كالأنعام، ولا يَهتموا بغير الطعام والشهوات، ويشغَلهم طولُ الأمل عن الإيمان والأخذ بطاعة الله تعالى، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – في “فتح الباري”: “هذا تنبيه على أن إيثار التلذُّذ والتنعُّم، وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين” ، وقد بيَّن ربُّ العالمين في كتابه الكريم أن طول الأمل يُورِث قسوةَ القلب؛ فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16]. وقسوة القلب هي من أشد الأمراض فتْكًا بالإنسان، وإن أشدَّ المصائب قبل الموت هو موت القلوب، وموت القلوب إنما يكون بالحرص على الدنيا الفانية، والإعراض عن الباقية، وليعلم الإنسان أنه كلما ازداد حرصًا على الدنيا، ازداد بُعدًا عن الله -تعالى- ويقسو قلبه، ويُطيل الأملَ، فيَكسَل عن العمل وينسى الآخرة. وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحب لها، والإعراض عن الآخرة. ففي الحديث الحثُّ على قِصَر الأمل، وأن الأمر أعجل مما نتصوَّر؛ أخرج الإمام مسلم (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ « صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ». وَيَقُولُ :« بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ..) ، وفي سنن الترمذي : (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ ».فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُمْ : « قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ».
الدعاء