دروس من ( قصة سيدنا موسى عليه السلام )
مارس 1, 2017خطبة عن قتل المؤمن :(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا)
مارس 5, 2017الخطبة الأولى ( وقفات مع حديث : أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ..عَنِ الإِيمَانِ ..عَنِ الإِحْسَانِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه عن ( عُمَر بْن الْخَطَّابِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ». قَالَ صَدَقْتَ. قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ « أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ». قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي « يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ».
إخوة الإسلام
هذا الحديث النبوي الشريف ، هو حديث عظيم قدره ، كبير شأنه ، فهو حديث جامع لأبواب الدين كله ، بأبسط أسلوب ، وأوضح عبارة ، ولا نجد وصفا جامعا لهذا الحديث أفضل من قوله صلى الله عليه وسلم : قَالَ « فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ». وقال ابن دقيق العبد: (هذا حديث عظيم ،اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ،ومتشعبة منه؛ لما تضمنه من جمعه علم السنة، فهو كالأم للسنُّة؛ كما سميت الفاتحة «أم القرآن»؛ لما تضمنته من جمعها معاني القرآن ) . وهذا الحديث أيضا :هو من الأحاديث المتواترة؛ لأنه ورد من رواية ثمانية من الصحابة الكرام هم: أبو هريرة، وعمر، وأبو ذر، وأنس، وابن عباس، وأبو عامر الأشعري، وجرير البجلي رضي الله عنهم. وقد تناول الحديث حقائق الدين الثلاث : الإسلام والإيمان والإحسان ، وهذه المراتب الثلاث عظيمة جدا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى علق عليها السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة ، وبين هذه المراتب الثلاث ارتباط وثيق ، فدائرة الإسلام أوسع هذه الدوائر ، تليها دائرة الإيمان فالإحسان ، وبالتالي فإن كل محسن مؤمن ، وكل مؤمن مسلم ،
أيها المسلمون
ونأتي إلى قول راوي الحديث ، وهو فاروق الأمة ،عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ) ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه للتعليم، ولكنهم كانوا يتحرَّجون من سؤاله خوف الوقوع في النهي الذي ورَد ذِكره في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101، 102]، فما كانوا يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا عند وقوع أمر لا يعرفون حُكمه، ولعل هذا النهي عن الأسئلة كان لحِكمة، لذا فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم كما ففي صحيح مسلم -: ((ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ». فكان يُعجِبهم أن يأتيهم الرجل الغريب العاقل، فيسأل وهم يسمعون، فيتعلموا من رسول الله ما يجيب به السائل، فكان من رحمة الله بهم أن أرسَل جبريل – عليه السلام – ليُعلِّمهم أمور دينهم. وفي قوله رضي الله عنه: (إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ ) ، فقد أعطى الله – سبحانه وتعالى – الملائكة – وهم أجسام نورانية لا تُرى – القدرةَ على التشكل بالمحسوسات، ولما كانت الملائكة أرقى طبيعة وخِلقةً من الإنسان، فإذا تمثَّلوا بالإنسان تمثَّلوا بإنسان في أجمل صورة ،وأكمل خِلقة، وكان جبريل – عليه السلام – كثيرًا ما يتمثَّل بدحيةَ الكلبي، وكان من أَوْسَم الصحابة وأجمَلِهم، وقد جاء في رواية النَّسائي لهذا الحديث زيادة:(أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأنَّ ثيابَه لم يَمسَّها دَنس). وفي قوله رضي الله عنه (لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ) : فكون الرجل غير معروف من أهل المدينة، معناه: أنه قادِم من خارجها، ومن البدهي أن يكون المسافر أشعثَ أغبر مُرهقًا، فهذان وصفان متناقِضان يحملان على الدهشة من حال الرجل. فكيف لا يعرفه منهم أحد ، وليس عليه آثار السفر ؟ ، وأما قوله رضي الله عنه : ( حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ ) : فإسناد ركبتَيه إلى ركبتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دليلٌ على الحرص على التعلُّم لئلا يفوته شيء مما يقوله – عليه الصلاة والسلام، ووضْع الكفين على الفخِذين هيئة المتأدِّب بين يدَي المعلم، غير أن مناداة الرسول – صلى الله عليه وسلم – باسمه لا يليق بمقام الرسالة، فإن الله – تعالى – لم يُخاطبه في القرآن إلا بلقب الرسالة أو النبوة، أو وصْف يليق بحاله، ولم ينادِه باسمه المجرد، ولعل جبريل – عليه السلام – فعَل ذلك زيادة في التعمية والإغراب؛ لأن مُناداة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – باسمه المجرد كان من شأن الأعراب ساكني البادية الذين لم يسكنوا المُدن والحواضر، وقد كان جبريل – عليه السلام – على صورة أحدهم ، ثم قال سيدنا جبريل عليه السلام : (أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً .قَالَ صَدَقْتَ) . فللدين الإسلامي ثلاث مراتب وهي : الإسلام ، والإيمان ، والإحسان . وكل مرتبة لها معنى ، ولها أركان . فالمرتبة الأولى : والإسلام لغة : الانقياد والإذعان . وأما في الشرع : فيختلف معناه بحسب إطلاقه ، وله حالتان : فالحالة الأولى : أن يطلق الاسلام مفرداً غير مقترن بذكر الإيمان فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله ، كقوله تعالى 🙁 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) آل عمران/19 ، وقوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) المائدة/3 ، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمران/85 . ولذا فقد عرف بعض أهل العلم الاسلام بقولهم : هو الاستسلام لله بالتوحيد ،والانقياد له بالطاعة ، والبراءة من الشرك وأهله . أما الحالة الثانية : أن يطلق الاسلام مقترنا بالإيمان ،فهو حينئذ يراد به الأعمال ،والأقوال الظاهرة ، كقوله تعالى : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) الحجرات/14 ، وفي صحيح البخاري ومسلم : ( عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ فِيهِمْ قَالَ سَعْدٌ : فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ . فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَوْ مُسْلِمًا” قَالَ : فَسَكَتُّ قَلِيلا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أَوْ مُسْلِمًا” قَالَ : فَسَكَتُّ قَلِيلا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا عَلِمْتُ مِنْهُ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَا لَكَ عَنْ فُلانٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” أَوْ مُسْلِمًا إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ” ، فقوله صلى الله عليه وسلم : ” أَوْ مُسْلِمًا ” ؛ لما قال له سعد رضي الله عنه( مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا ): يعني أنك لم تطلع على إيمانه ،وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة . والمقصود بالإسلام هنا في هذا الحديث معناه الشرعي، وهو الانقياد الظاهر لجميع أوامر الله أصولاً وفروعًا، وجواب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على ذلك جاء بالتركيز على الجانب العملي من الإسلام، فبوابة الدخول إلى دين الله هي كلمة الشهادة، وقد جاءت أركان الإسلام في الحديث مرتَّبة وَفق ترتيبها الزماني في التشريع؛ فالشهادتان أول ما دعا إليها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عند مبعثه في مكة، ثم فُرِضت الصلوات الخمس قبل الهجرة ليلة المعراج، ثم فُرضِت الزكاة وصوم رمضان في السنة الثانية للهجرة، ثم فُرِض الحج في السنة السادسة، وقيل: التاسعة من الهجرة. وقول سيدنا عمر رضي الله عنه : (قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ) ، فهذان أمران مختلفان لا يجتمعان؛ فالسؤال يدل على أنه يريد التعلُّم، والتصديق يدل على أنه عالم؛ لذا كان مَثار استغراب الصحابة – رضوان الله عليهم – وعَجَبهم، ولكن جبريل قصَد من ذلك أن يُريهم آداب السؤال ،وكيفية المحاورة مع أهل العلم، فكان في دور طالب العلم المتحلي بالجرأة المقرونة بالأدب، والذي يختار من المسائل أهمَّها وأعمها فائدة، وبعد سماعه الجواب من الرسول – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يعلِّمهم كيف يكون الإذعان للحق، وإنصاف المسؤول إذا أعطى الجواب المقنِع البيِّن، فسارَع إلى تصديقه. ثم نأتي إلى قوله : (قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ».قَالَ صَدَقْتَ) ، والإيمان في اللغة : التصديق المستلزم للقبول والإذعان . وفي الشرع : يختلف معناه بحسب إطلاقه وله حالتان أيضا : الحالة الأولى : أن يطلق الإيمان على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام فحينئذ يراد به الدين كله كقوله عز وجل : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة /257 ، وقوله تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) المائدة/23 ،وقوله صلى الله عليه وسلم : « يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِى النَّاسِ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ ». قَالَ فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ « أَلاَ إِنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ الْمُؤْمِنُونَ ».أخرجه مسلم . ولهذا أجمع السلف على أن الإيمان : ” تصديق بالقلب ـ ويدخل فيه أعمال القلب ـ ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ” ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطنا وظاهرا في قوله عز وجل : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال/2-4 ، وقد فسر الله تعالى الإيمان بذلك كله في قوله تعالى : (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) البقرة/177 ، وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله في حديث وفد عبد القيس في صحيح البخاري ومسلم واللفظ للبخاري: (وَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ قَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ »قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ « شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ – وَأَظُنُّ فِيهِ – صِيَامُ رَمَضَانَ ، وَتُؤْتُوا مِنَ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ » ، وقد جعل صلى الله عليه وسلم صيام رمضان إيمانا واحتسابا من الإيمان وكذا قيام ليلة القدر وكذا أداء الأمانة وكذا الجهاد والحج واتباع الجنائز وغير ذلك وفي صحيح ومسلم: « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ». والآيات والأحاديث في هذا الباب يطول ذكرها .
والحالة الثانية : أن يطلق الإيمان مقرونا بالإسلام ،وحينئذ يفسر بالاعتقادات الباطنة ، كما في هذا الحديث ، ويسمى حديث جبريل ، وما في معناه ، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الجنازة : (اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ ». أخرجه الترمذي وقال : حسن صحيح ، وصححه الألباني .
وذلك لأن الأعمال بالجوارح إنما يتمكن منها في الحياة ،فأما عند الموت فلا يبقى غير قول القلب وعمله .
والحاصل أنه إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ بل كل منهما على انفراده يشمل الدين كله وإن فرق بين الاسمين كان الفرق بينهما بما ذكر ( وهو أي الإسلام يختص بالأمور الظاهرة على الجوارح والإيمان بالأمور القلبية الباطنة ) ، وهو الذي دل عليه هذا الحديث ، ففي هذا الحديث كان سؤال جبريل – عليه السلام – عن الإيمان الشرعي، وجواب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان تفسير الإيمان بمعناه الاعتِقادي فقط؛ لذا ذكَر أركانَ الإيمان الستة. فقال: أن تؤمنَ بالله: والإيمان بالله يتضمَّن الإيمان بوجوده ووحدانيته، وإثباتَ صفات الكمال المطلَق له – ومعرفةُ أسماء الله وصفاتِه طريقُها النقل والسماع – وتنزيهَه عن صفات النَّقص. وملائكته: الإيمان بوجود الملائكة، وأنهم مخلوقات لله – تعالى – نورانيَّة، لا يَعصون الله ما أمَرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهم مكلَّفون بإدارة شؤون الكون والمخلوقات حسَب السُّنن التي أودَعها الله فيه، ولكل واحد منهم مقام معلوم، ومنهم المسبِّحون. وكتبه: والكتب المنزَّلة التي ذُكِرت في القرآن الكريم أربعة: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وأُنزِل على بعض الأنبياء صُحفٌ، منها: ما أُنزِل على إبراهيم وموسى – عليهما السلام – كما في قوله تعالى : ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19]. ورُسله: الإيمان بالرسل من أركان الإيمان، وقد ذُكِر خمسة وعشرون منهم في القرآن الكريم بأسمائهم، وذُكِر في بعض الأحاديث أن عدد الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر، وعدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفًا، فيجب الإيمان بمن ذكِر اسمُه على التعيين، ويجب الإيمان بالآخرين إجمالاً، ويجب اعتقادُ تحلِّيهم بصفات الكمالات البشرية؛ من الصدق والأمانة والفطانة والعصمة والتبليغ كما تقدم في الموضوع الثالث.
واليوم الآخر: والمقصود به المرحلة الرابعة لحياة الإنسان؛ فإن مراحل الحياة ذُكِرت في قوله – تعالى -: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [المرسلات: 20 – 24]، هذه المرحلة الأولى، والمرحلة الثانية والثالثة جاءت في قوله – تعالى -: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ [المرسلات: 25، 26]، فالأرض تَحفظ الإنسان في حال الحياة على ظهرها، وهي المرحلة الثانية، وتحفظ الإنسان بعد موته في بطنها، وهي المرحلة الثالثة، وتُسمَّى الحياة البرزخية، وقد جاء ذِكرها في قوله – تعالى -: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، أما المرحلة الرابعة: وهي المقصود هنا في الحديث باليوم الآخر، وقد ذُكِر في قوله – تعالى -: ﴿ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [المرسلات: 29 – 34]، وهي التي احتوت على المراحل الأربعة. والإيمان باليوم الآخر يشتمِل على جميع المواقف والمشاهد التي ورَد ذِكْرها في القرآن الكريم وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم؛ من النفخ في الصور، وبعْث الناس وحشْرهم، والميزان، والحساب، والصراط، والجنة، والنار. وتؤمن بالقَدَر خيره وشره: والمراد بالقَدَر عِلم الله – تعالى – الأزلي، المحيط بمقادير الأشياء وأحوالها التي تكون عليها، من مبدأ ونهاية، وقوة وضعْف، وخير وشر، وما تقَع فيه من زمان ومكان، وما يَسبِقها من مُقدِّمات، وما يتْبعها من آثار، بحيث يكون إيجادها بعد ذلك على وَفْق ذلك العِلم، فلا يقع مثقالُ ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا طِبقًا لِما أحاط به علمه وسبَق به كتابه . وقد دلَّت الآيات الكريمة الكثيرة وأحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المتعددة على هذا الركن، منها قوله – تعالى -: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقوله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، وليس معنى الإيمان بالقَدَر الكفر بالأسباب التي تترتَّب عليها النتائج، فكما علِم الله – سبحانه – الأشياء، علِم أسبابها ونتائجها وسائر أحوالها، وربَط بعضها ببعض في عِلمه، فمجموع ذلك هو القَدَر، وهذا ما يُرشد إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اتِّخاذ الأسباب مع التوكل على الله والإيمان بالقَدَر؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ». ثم نأتي إلى قول سيدنا جبريل عليه السلام : ( قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ». والإحسان في اللغة : هو إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه . وفي الشرع يختلف معناه بحسب إطلاقه ، وله حالتان : الحالة الأولى : أن يطلق الإحسان على سبيل الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام والإيمان ، فيراد به الدين كله كما سبق في الإسلام والإيمان . أما الحالة الثانية : أن يقترن الاحسان بهما ،أو بأحدهما ، فيكون معناه : تحسين الظاهر والباطن ، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم تفسيراً لا يستطيعه أحد من المخلوقين غيره صلى الله عليه وسلم لما أعطاه الله من جوامع الكلم فقال صلى الله عليه وسلم : ” الإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” وهي أعلى مراتب الدين وأعظمها خطرا وأهلها هم السابقون بالخيرات المقربون في أعلى الدرجات . وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن مرتبة الإحسان على درجتين وأن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين : المقام الأول وهو أعلاهما : أن تعبد الله كأنك تراه ،وهذا يسميه بعض العلماء (مقام المشاهدة ) ،وهو أن يعمل العبد كأنه يشاهد الله عز وجل بقلبه ، فيتنور القلب بالإيمان ، حتى يصير الغيب كالعيان ،فمن عبد الله عز وجل على استحضار قربه منه، وإقباله عليه ،وأنه بين يديه كأنه يراه ،أوجب له ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم .
أما المقام الثاني : فهو مقام الإخلاص [والمراقبة ] : وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه ،واطلاعه عليه ،وقربه منه ، فإذا استحضر العبد هذا في عمله ،وعمل عليه ،فهو مخلص لله تعالى ،لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله ، وإرادته بالعمل . وهذا المقام إذا حققه العبد سهل عليه الوصول إلى المقام الأول . ولهذا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم تعليلا للأول فقال : ” فإن لم تكن تراه فإنه يراك ” وفي بعض ألفاظ الحديث : ” فإنك إلا تكن تراه فإنه يراك” فإذا تحقق في عبادته بأن الله تعالى يراه ،ويطلع على سره وعلانيته وباطنه وظاهره ،ولا يخفى عليه شيء من أمره ،فحينئذ يسهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني ،وهو دوام استشعار قرب الله تعالى من عبده ،ومعيته له حتى كأنه يراه ، فالإحسان كما بينت لكم : يُطلَق في اللغة على معنيين: الأول: يُقال أحسن، بمعنى فعل فعلاً حسنًا أو أصاب. والمعنى الثاني: بمعنى: الإتقان والإجادة يقال: أحسَن عمله؛ أي: أتقَنَه وجوَّده. والمقصود بالإحسان في هذا الحديث المتقدم: هو السؤال عن كيفية إتقان المسلم عبادته وطاعته. فقال: ((أن تَعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)): فإن العامل إذا كان يؤدِّي عملاً ،بحضور صاحب العمل ،فلا شكَّ أنه سيبذل أقصى جُهده؛ ليكون عملاً متقنًا لا خلَلَ فيه، وبما أن رؤية الله مستحيلة على المخلوقات في هذه الحياة الدنيا، فليُنْزل المسلم رؤية الله له واطِّلاعه على علمه مكان رؤيته لربه؛ فالعِلم برؤية الله له يبعثه على إتقان العمل كأنه يرى الله تعالى، وهذه المراقبة والحضور من عقيده المؤمن؛ كما جاء في قوله – تعالى -: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7]..
أيها المسلمون
فدرجة الإحسان هي مرتبة عالية ،ومنزلة رفيعة ،لا يصلها إلا المؤمن ،الذي ارتقى في مراتب الإيمان ،فيكون قد ترسخ إيمانه السليم في قلبه ،وخلى من كل شوائب عقدية تكدر عليه صفو إيمانه, قال الله تعالى (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) لقمان (22), أي من جاهد نفسه وعالج قلبه بكثرة التقرب إلى الله بالعمل الصالح والاستسلام لأوامره فإن الله سيوصله إلى تلك المنزلة العالية والتي تعب من أجلها العاملون وجد في طلبها الصالحون ومن بلغها فقد استمسك بالعروة الوثقى أي أنه في مأمن من الله من تلاعب الشيطان , والعلماء هم أكثر من يطلبها بعد الأنبياء لكثرة معرفتهم بأسباب تحصيلها ولكنها لا تنال بسهولة لكثرة العقبات التي دونها , وفتن الدنيا هي الصارفة ،ومن أشدها فتنة المال والرياسة ،فإن الله يمحص الناس بشهوات الدنيا ،فيتساقطون ويتباعدون عن تلك المنزلة وتتكشف رغباتهم ،ويزول اللبس عند من كان عنده أقل معرفة , ولا ينطلي أمر المفتونين إلا على جاهل . والمحسنون هم أبعد الناس عن كل فتنة لأنهم مستمسكون بالعروة الوثقى , وخاصة فتنة المال الحرام والتي يسوقها السلاطين والتجار وغيرهم لكسب ود أولئك العلماء فيشترون ذممهم وعلمهم , فترى الصالحين منهم لا يقبلون حتى مجالسة أهل الدنيا ،خشية أن يفتنوا، وتضيع أخرتهم بدراهم معدودة , قال الله تعالى في بلوغ هذه المنزلة (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ( المائدة (93 ) , فانظر كم يحتاج المسلم من إيمان وتقوى حتى يتدرج ليبلغ منزلة الإحسان وعليك بالتفكر في هذه الآية , فليست المنازل تدرك بالكلام ولا بالتشبه بالصالحين ،ولكنه قول باللسان ،وعمل بالجوارح، وطلب من الله بقبول العمل، واستشعار بمراقبة المولى عز وجل لك في كل حين وفي كل مكان .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وقفات مع حديث : أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ..عَنِ الإِيمَانِ ..عَنِ الإِحْسَانِ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ونأتي إلى قوله عليه السلام : (قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ». قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا) . فالساعة في الأصل تُطلَق على الجزء من الليل أو النهار؛ قال – تعالى -: ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]، ويقول – عز وجل-: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ [يونس: 45]. وقد أُطلِقت الساعة في القرآن الكريم كثيرًا على (يوم القيامة)؛ والأحداث الكونيَّة الهائلة التي تقع؛ كما في قوله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]، وسؤال جبريل – عليه السلام – هوعن هذا اليوم، وبما أن الله استأثَر بعِلم الساعة فلا يعلَمه ملَكٌ ولا نبي؛ كما قال – تعالى -: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ﴾ [طه: 15]، أي: أكاد أُخفيها حتى عن نفسي، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم ردا على سؤاله : « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ». فجاء الجواب بصيغة التعميم، فلم يَقُل: لا أعلَمها؛ حتى لا يتوهَّم أن غيره يعلَمُها، وإنما عمَّم عدم عِلم كل مسؤول عنها بها، فلا السائلون يعلمون ولا المسؤولون من المخلوقات يعلمون. وأما قوله : فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا : فالأمارة: هي العلامة، وكذلك الأشراط بمعنى العلامات، وأشراط الساعة: علاماتها. وقد قسَّم العلماء علامات الساعة إلى علامات صغرى، وعلامات كبرى. فالعلامات الصغرى: تكون متقدِّمة بمدة طويلة نوعًا ما عن وقوع الساعة، ومن أهم أشراط الساعة الصغرى: بِعثة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ووفاته، وفتْح بيت المقدس ، وفتح القسطنطينية، ومنها ما ورَد في هذا الحديث، والحكمة من هذه الأشراط الصغرى تذكير المؤمن بقُرْب يوم القيامة؛ لكيلا تأخذه الغفلةُ عنها والانشغال بمُتَع الحياة الدنيا والاطمئنان إليها. أما العلامات الكبرى :فهي التي تَتْبعها أحداث يوم القيامة مباشرة من اختلال النظام الكوني، وقد جاءت جملة منها في حديث حذيفة الغفاري – رضي الله عنه – كما في صحيح مسلم (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِىِّ قَالَ اطَّلَعَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ « مَا تَذَاكَرُونَ ». قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ « إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ ». فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلاَثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ ) .
ثم ننتقل إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( قَالَ « أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ) رَبَّتَهَا) :فالأَمَة: هي المملوكة الرقيقة. وربتها: فالرب، هو المالك، والسيد، والربَّة: المالِكة والسيدة، وللعلماء في ذلك تفسيران لهذه العبارة: الأول: أن تَكثُر الفتوحات الإسلامية ويَكثُر السبايا، فيتزوَّج بهن قادة المسلمين، فتَلِد الأَمَةُ المملوكة أبناءً لهؤلاء القادة، فيصبح منهم السادة والملوك، وبناتٍ يكنَّ سيدات وملِكات؛ فيكونوا أربابًا وربَّات لأمهاتهم ولغير أمهاتهم بالأَوْلى، وقد وقَع مِثل هذا في بداية الفتوحات الإسلامية لبلاد الفرس والروم، كما كان للموالي صَولة وجَولة في دولة بني العباس ودولة المماليك.
والتفسير الثاني للعبارة: أن يَكثُر العقوق بين الأولاد والآباء، فتكون الابنة هي الآمرة الناهية في البيت وكأنها السيدة، وأمها كأنها الخادمة عندها، وهذا المعنى واقع شائع، فما أكثر هذا اللون من العقوق وخاصة في عصورنا هذه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ». فالحفاة: جمع حافٍ، وهو الذي لا نَعْل برجله. والعُراة: جمع عارٍ، وهو الذي لا ثوب على بَدَنه. والعَالة: جمع عائل، وهو الفقير. ورِعاء الشاء: هم رُعاة الغنم. ويتطاولون: أي يتنافَسون في ارتفاع المباني ، أيُّهم أطول بُنيانًا. والمراد بهذه العلامة أن أهل الحاجة والفاقة ،وأهل الجهل والتخلُّف العلمي والحضاري، يَصيرون إلى بَسْطة في الدنيا، وَسْعة من المال والجاه، حتى يتنافسوا في رفْع القصور، ويُصبِحوا رؤساء الناس وملوك الأرض، وقد تحقَّق مَثلُ ذلك في مختلف العصور، وعبر الأجيال؛ فقد اندَثرت دول وقامت دول تتحقَّق فيها هذه المعاني ، بل رأينا اليوم من يتطاولون في تشييد الأبراج وناطحات السحاب ، وأيهم يسبق غيره في هذا المضمار . وأما قوله رضي الله عنه : ( قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي « يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ ». قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. ثم انطلَق أي: ثم انصرَف السائل، وجاء في بعض الروايات: فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((ردُّوا عليَّ الرجل))، فالتُمِس، أو فأخذوه ليردوه، فلم يجدوه ولم يَروا شيئًا. ومعنى فلبِثتُ مَليًّا؛ أي: بقيت مدة طويلة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( قَالَ « فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ».
فقد أسنَد الرسول صلى الله عليه وسلم التعليم إلى جبريل – عليه السلام – عِلمًا أنه السائل الذي قام بدور المتعلِّم، ولما كان أسلوبه في السؤال واستِفساره عن قضايا هي أمهات أمور الدين وأصول الإسلام، هذا الأسلوب كان سببًا في الحصول على الإجابات من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فحصل العلم الكثير بسببه وبحُسن أسلوبه في السؤال، وقد قيل: “حُسْن السؤال نصف العلم”.
أيها المسلمون
ومن أهم ما يُستنبَط من هذا الحديث: 1- مراعاة آداب طلب العِلم عند الإقبال على العلماء: أ- حُسْن الهيئة، وحسن الملابس، وأخْذ الزينة، وقد قيل: “حُسْن الأدب في الظاهر عنوان حُسْن الأدب في الباطن”. ب- التأدب في الجلوس بين يدَي العالم. ج- الدُّنو من العالم لكي يُسمِعه السؤال، ويستمِع إلى الجواب من غير مشقَّة على العالم. د- السؤال عن الأمور الهامة من قضايا الدين وتَرْك التفريعات النظرية. هـ- المبادرة إلى إظهار الإذعان للحق عندما يتَّضِح لطالب العِلم. 2- أركان الإسلام الخمسة: الشهادتان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، وكذلك أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله تعالى، والملائكة، والكتب، والرسل، والقَدَر خيره وشره، من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، مَن جحَد شيئًا منها فقد ارتدَّ عن الإسلام. 3- أهمية الإتقان في العمل والطاعة؛ فقد جعله الرسول – صلى الله عليه وسلم – قَسيم الإسلام والإيمان، ووردت آيات كثيرة تبيِّن مكانة المحسنين وأجرهم العظيم. 4- العلم بمجيء وقت القيامة من أمور الغيب التي أستأثَر اللهُ بعِلمها، ولم يُطلِع عليها أحدًا من خلْقه، لا مَلَكًا مُقرَّبًا ولا نبيًّا مُرسلاً. 5- إذا سئل العالِم عن شيء لا يعلمه فليقل: لا أعلم، أو لا أدري، وليس ذلك بمُنقِصٍ من قَدره ومكانته، بل دليل على ورَعه وتقواه ووفور عِلمه. 6- حُسْن أدب الصحابة مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برد العلم إلى الله وإلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعدم المبادرة بالإجابة، ولا ينبغي للطالب أن يُبادِر بالجواب بين يدَي معلِّمه؛ اقتداءً بصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
الدعاء