خطبة عن: شؤم المعصية (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)
ديسمبر 22, 2018خطبة عن: خطورة الكلمة (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِى بِهَا فِي النَّارِ)
ديسمبر 22, 2018الخطبة الأولى : وقفات مع حديث ( الملك والساحر ، والغلام والراهب )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى مسلم في صحيحه :(عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ …. ) الحديث .
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم -إن شاء الله- مع قصة هذا الحديث النبوي الشريف ، وهدفنا أن نستنبط منه الكثير من الدروس والعبر ، ونستخلص منه الفوائد والدرر ،وقصة هذا الحديث حدثت فيمن كان قبلنا ، ومن وسائل التعليم والتربية، والدعوة إلى الله -عز وجل- والتي مارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أخبار وقصص السابقين ، ولا شك أن النفوس تتطلع إلى ذكر الأخبار، وتتشوق إلى معرفتها، وهذا أمر قد جبلت عليه النفوس، وهذا الحديث العظيم في أخبار من قبلنا يخبر به النبي عليه الصلاة والسلام للعبرة والعظة وأن المؤمن لا بدّ أن يبتلى في هذه الدار ،والواجب عليه أن يصبر، ويحتسب عند الله صبره ، لينال الجزاء الأوفى ، والدرجات العلى ،فقد روى مسلم في صحيحه :(عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ) . فهذا الملك لم يكن ملكا صالحا ، وإنما كان كافرًا، والدليل على ذلك أنه كان يستخدم السحرة في استعباد الناس، ويستخدم السحر والشعوذة والتضليل والخرافات للسيطرة على عقولهم ، وهذا الساحر واحد من أعوان الباطل الذين كانوا يساعدون هذا الملك الظالم في استعباد من تحته من الرعية، والسحر دائمًا في كل زمان ومكان ضد الدين والعقل؛ لأن السحر قائم على الخرافة والشعوذة، والدين قائم على الحق والوضوح والصفاء ، فلما كبر سن هذا الساحر ، وخاف أن يضيع علمه ، ولا يخلفه فيه أحد ، قال للملك :إني قد كبرت فابعث إليّ غلامًا أعلمه السحر ،وفي رواية الترمذي وصححه الألباني ،يقول الساحر: (انظروا لي غلامًا فطنًا لقنًا، فأعلمه علمي، فأني أخاف أن أموت، فينقطع منكم هذا العلم ) ،وفي قول الساحر : (فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ ) ، فقد اختار الغلام ،ولم يختر رجلا كبيرا ، لأن الغلام أقبل للتعليم، ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقى، ولا ينسى، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرا بكثير من التعلم في الكبر، وفي كل خير، :( فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ) . وهكذا استجاب الملك لطلب الساحر ، وأرسل إليه غلاما نجيبا ليعلمه السحر ، ويكون من أعوان الملك ، ليستمر في حكمه وفساده وكفره ،ولما أراد الله تعالى وقدر أن يحق الحق ويبطل الباطل جعل هذا الغلام يمر يوما من الأيام براهب، فسمع منه كلاما في توحيد الله وعبادته فأعجبه كلامه، لأن الفطرة السليمة تستجيب لنداء الايمان ، والحق واضح جلي ،فآمن الغلام بالله، وصار كلما خرج من أهله جلس عند الراهب ليتعلم منه ويتعبد معه ، فيتأخر على الساحر، فجعل الساحر يضربه بسبب تأخره ، فشكا الغلام إلى الراهب ما يجده من الساحر من الضرب إذا تأخر، فلقَّنَه الراهب أمرا يتخلص به من عقابه ، (فَقَالَ : إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ)، وقد يقول قائل : هذا كذب ، فنقول : إن مصلحة الدين عند الراهب وعند الغلام تقتضي أن يكذب الغلام على الساحر الكافر، والكذب على الكفار وأعداء الدين من الكذب المباح إذا كان فيه مصلحة للدين ، وإنقاذ المسلمين من فسادهم وكفرهم ، ففي صحيح مسلم : أن (رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-يَقُولُ « لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِى خَيْرًا » . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ : الْحَرْبُ وَالإِصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ ، وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: ( فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَيْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ ) . أي في يوم من الأيام مرَّ الغلام المؤمن بدابَّةٍ عظيمة ، ولم يعيِّن في الحديث ما هذه الدابة، وقد حبست الدابة الناس عن التجاوز، فلا يستطيعون أن يتجاوزها، فأراد هذا الغلام أن يختبر ويتأكد : هل الراهب خير له ، أم الساحر، فأخذ حجرًا، ودعا الله سبحانه وتعالى ، وهو القادر على كل شيء ، فَقَالَ الغلام :(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ ) فرمى بالحجر، فقتل الحجر الدابة بإذن الله تعالى ، فمشى الناس في طريقهم آمنين . وهنا أيقن الغلام أن أمر الراهب خير من أمر الساحر، وهذا أمر لا شك فيه؛ لأن الساحر إما معتدٍ ظالم، وإما كافر مشرك، فإن كان يستعين على سحره بالشياطين يتقرَّب إليهم ويعبدهم ويدعوهم ويستغيث بهم فهو كافر مشرك. وإن كان لا يفعل هذا لكن يعتدي على الناس بأدْوية فيها سحر فهذا ظالم معتد. أما الراهب، فإن كان يعبد الله على بصيرة فهو مهتد، ثم يقول صلى الله عليه وسلم : ( وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ) ، فكان من كرامات هذا الغلام أن الله يبرئ على يديه وبدعائه المرضى ، وكان للملك جليس أعمى-لا يبصر- فأتى بهدايا كثيرة لهذا الغلام حينما سمع عنه ما سمع وقال له: لك هذا كله-إن أنت شفيتني، فقال، إنما يشفيك الله، (فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ ) ، انظروا إلى الإيمان! فلم يغترَّ الغلام بنفسه ، ولم يدع أنه هو الذي يشفي المرضى، بل قال: إنما يشفيك الله عز وجل، فهو لا يريد أن يكون له فضل، بل الفضل لله عز وجل أولًا وآخرا. فأهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم، وإنما ينسبونها إلى الله موليها عز وجل ، وقال له : (فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ ) فآمن الرجل، فدعا الغلام ربه أن يشفيه، فشفاه الله، فأصبح مبصرًا.
فيقول صلى الله عليه وسلم : (فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ . فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ) ، وهكذا جاء هذا الجليس إلى الملك وجلس عنده على العادة، فسأله الملك: من ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وأتى بالغلام وأخبره بالخبر وعذَّبه تعذيبا شديدا، قال من الذي علَّمك بهذا الشيء؟ وكان الراهب قد قال له: إنك ستُبتلى، فإن ابتُليت فلا تخبر عني. ولكن لعله عجز عن الصبر، فأخبر عن الراهب. وكان هذا الملك الجبار-والعياذ بالله-لما دلوا على الراهب، جيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك ولكنه أبى أن يرجع عن دينه. فأتوا بالمنشار فشذبوه من مفرق رأسه-من نصف الجسم-فبدأوا بالرأس، ثم الرقبة، ثم الظهر حتى انقسم قسمين -شقَّين: سقط شق هنا وشق هنا-ولكنه لم يُثنه ذلك عن دينه. أبى أن يرجع، ورضِيَ أن يقتل هذه القتلة ولا يرجع عن دينه ،ثم جيء بالرجل الذي كان جليسًا عند الملك وآمن بالله، وكفر بالملك، فدُعي أن يرجع عن دينه فأبى، ففُعلَ به كما فعل بالراهب، ولم يردَّه ذلك عن دينه، وهذا يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يصبر. ولكن هل يجب على الإنسان أن يصبر على القتل، أو يجوز أن يقول كلمة الكفر ولا تضره إذا كان مكرها؟ هذا فيه تفصيل: فإن كانت المسألة تتعلق بنفسه فله الخيار: إن شاء قال كلمة الكفر دفعا للإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان وإن شاء أصر وأبى ولو قُتل، هذا إذا كان الأمر عائدًا إلى الإنسان بنفسه يعني مثلًا قيل له: اسجد للصنم، فلم يسجد، فقتل، أو سجد دفعًا للإكراه ولم يقتل. أما إذا كان الأمر يتعلق بالدين، بمعنى أنه لو كفر ولو ظاهرا أمام الناس لكفر الناس معه، فإنه لا يجوز له أن يقول كلمة الكفر، بل يجب أن يصبر ولو قُتل، كالجهاد في سبيل الله. فالمجاهد يقدمُ على القتل ولو قتل، لأنه يريد أن تكون كلمة الله هي العليا، وكذلك إذا كان إمامًا للناس وأُجبر على أن يقول كلمة الكفر فإنه لا يجوز أن يقول كلمة الكفر، لا سّيما في زمن الفتنة، بل عليه أن يصبر ولو قُتل.
يقول صلى الله عليه وسلم : ( ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فلما قتل الملك الراهب، وقتل جليسه، جيء بالغلام فطُلب منه أن يرجع عن دينه إلى دين الملك، ودين الملك دين شرك؛ فهو يدعو الناس إلى عبادته وتأليهه. فأبى الغلام أن يرجع عن دينه، فدفعه الملك إلى نفر من أصحابه-أي جماعة من الناس- وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، جبل معروف عندهم شاهق رفيع، وقال لهم إذا بلغوا ذروته: فاطرحوه، يعني على الأرض، ليقع من رأس الجبل فيموت، بعد أن تَعرِضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن رجع وإلا فاطرحوه. فلما بلغوا به قمة الجبل طلبوا منه ان يرجع عن دينه فأبى؛ لأن الإيمان قد وقَر في قلبه، ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح، فلما همُّوا أن يطرحوه قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت). دعوة مضطر مؤمن: (اللهم اكفنيهم بما شئت) أي: بالذي تشاء، ولم يُعيِّن. فرجف الله بهم الجبل فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلى الملك فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم الله عز وجل. ثم دفعه إلى جماعة آخرين، وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور-أي سفينة-فإذا بلغوا لـجَّةَ البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن لم يفعل رَمَوه في البحر. فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه -وهو الإيمان بالله-عز وجل- فقال: لا! أبى، ثم قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه الله. ثم جاء إلى الملك فقال له: أين أصحابك؟ فأخبره بالخبر.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية : وقفات مع حديث ( الملك والساحر ، والغلام والراهب )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
( فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ ). وهكذا حقق الغلام مقصده ، وهدفه ،فكان مقصده الأول والأخير أن يعلم الناس أن هذا الملك ليس إلها ، ولكن ربهم وخالقهم ومدبر أمرهم ، ومن له الطاعة والعبادة والاستسلام هو الله ، وأن يؤمنوا بالله رب العلمين : ( فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ ». فهذا الملك الكافر والذي يدعو الناس إلى عبادته، لما آمن الناس ،وقالوا آمنا بالله رب الغلام، جاءه أهل الشر وأهل الحقد على الإيمان وأهله، وقالوا له: أيها الملك إنه وقع ما كنت تحذر منه، وهو الإيمان بالله، وكان يحذر ذلك؛ لأنه – والعياذ بالله – قد جعل نفسه إلها كما فعل فرعون، وكان ملكا طاغيًا ظالمًا، فأمر بالأخدود على أفواه السكك فخدت، الأخدود يعني حفر عميق مثل السواقي على أفواه السكك، يعني على أطراف الأزقَّة والشوارع، وقال لجنوده: من جاء ولم يرجع عن دينه فأقحموه فيها؛ وقد أضرم فيها النيران ، فكان الناس يأتون ولكنهم لا يرتدون عن دينهم وإيمانهم، فيقحمونهم في النار، فكل من لم يرجع عن دينه الحقيقي- وهو الإيمان بالله- قذفوه في النار، ولكنهم إذا قذفوهم في النار واحترقوا بها فإنهم ينتقلون من دار الغرور والبوار إلى دار النعيم والاستقرار، لأن الملائكة تتوفاهم طيبين يقولون: ﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ النحل: 32 ،ولا أعظم من هذا الصبر، أن يرى الإنسان النار تتأجج فيقتحم فيها خوفا على إيمانٍ وصبرًا عليه. فجاءت امرأة ومعها صبي رضيع، فلما رأت النيران كأنها تقاعست أن تقتحم النار هي وطفلها، فقال لها الطفل: يا أماه اصبري فإنك على الحق، يقوله وهو صغير لا يتكلم، لكن أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، وهو كرامة لهذه الأم، أن الله أنطق ابنها من أجل أن تقوى على أن تقتحم النار وتبقى على إيمانها، لأن تكلم هذا الصبي في المهد آية عظيمة، وقد شهد هذا الصبي بأن أمه على الحق، فصبرت واقتحمت النار، وهذا من آيات الله، وهو دليل على أن الله تعالى: ﴿ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ الزمر: 61
إخوة الإسلام
ومن أهم الدروس والعبر التي نستخلصها ونستلهمها من قصة هذا الحديث : أولا: قوة إيمان هذا الغلام، وأنه لم يتزحزح عن إيمانه ولم يتحوَّل. ثانيًا: في الحديث آية من آيات الله وقدرته ، وكرامة من كراماته لأوليائه الصالحين ثالثًا: أن الله عز وجل يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، رابعًا: أن الإنسان يجوز أن يغرِّرَ بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه، خامسا : بطل هذه القصة المثيرة هو غلام ،وهذا يجعلنا ، بل يثير انتباهنا كي نهتم بالأطفال أبلغ اهتمام ، سادسا : في قول الراهب ” أي بني أنت اليوم أفضل مني ” يظهر تواضع العالم ، سابعا : صدق الالتجاء إلى الله تعالى وطريقة الدعاء وحسن الثقة بالله سبحانه والثقة بالإجابة و ذلك عندما قال الغلام : (( اللهم اكفنيهم بما شئت )) . ثامنا : الإصرار على نشر الدعوة فالغلام: ” جاء يمشي للملك ” فيه الإصرار على الدعوة وعلى إظهار الحق و تحديه للباطل ، تاسعا : تبني عامة الناس للمبدأ الصحيح . حيث طلب هذا الغلام من الملك أن يجمع له الناس على صعيد واحد . عاشرا : تحديد مفهوم النصر : وليس مفهوم النصر أن ينتصر الغلام ، وإنما المفهوم الحقيقي للنصر هو انتصار المبدأ السليم والفكر الصحيح . الحادي عشر: الثبات على المبدأ الحق :(( يا أماه اصبري فإنك على حق )) . الثاني عشر : بيان مراحل الدعوة (ابتداءً من مرحلة الاستضعاف، مروراً بالمرحلة السرية ، ثم المرحلة العلنية ، وحتى مرحلة التمكين وإيمان الناس كلهم، الثالث عشر : خطورة السحر والسحرة ودورهم في اضلال الناس ، وتمكين الظالمين واللجوء إلى الشعوذة والتضليل والخرافات للسيطرة على عقول الناس، الرابع عشر: كفاية الله لعبده المؤمن، وحفظه لمن حفظه. الخامس عشر: بقاء الحق وظهوره ما بقي له بصيص أمل، ويتمثل ذلك في وجود راهب واحد. السادس عشر: عدم المساومة على قضية الإيمان، ولو كان الثمن هو النفس والنفيس، فالراهب وجليس الملك لم يرجعا عن دينهما ولو شُق كل واحد منهما إلى شقين.
الدعاء