خطبة عن قوله (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)
نوفمبر 23, 2019خطبة عن قوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)
نوفمبر 23, 2019الخطبة الأولى ( لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري في صحيحه : (قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : « لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ »
إخوة الإسلام
إن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله الكونية والقدرية ، ولا يستطيع أحد تحويلها أو تبديلها ، والمؤمن يقنع بما قسم الله له فيما يتعلق بأمور الدنيا ، ولكنه يحرص دائما على الزيادة من الأعمال الصالحة ،لتكون سببا في الفوز بالجنة ،والنجاة من النار ، قال الله تعالى : ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. وفي الحديث النبوي المتقدم ذكره ، يبين لنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مدى حرص ابن آدم على جمع المال وامتلاكه ، فالإنسان جبل على حب المال , والحرص على البقاء في الدنيا ، كما قال الله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) البقرة 96، وقال الله تعالى : (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (19) ،(20) الفجر ، وروى الترمذي في سننه بسند حسن صحيح : (عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ ». وقد قسم العلماء الحرص على المال إلى قسمين : القسم الأول : شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه المباحة , والمبالغة في طلبه ، والجدِ في تحصيله واكتسابه من وجوهه ، مع الجهد والمشقة ، وهذا ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم : « لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ » ، فقد أشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بهذا المثل إلى ذم الحرص على الدنيا ، والشره على الازدياد منها ؛ ولذلك آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا ، والقناعة والكفاف ، فرارًا من التعرض ، لما لا يعلم كيف النجاة من شر فتنته، كما استعاذ النبي ( صلى الله عليه وسلم) من شر فتنة الغنى ، وقد علم كل مؤمن أن الله تعالى قد أعاذه من شر كل فتنة ، وإنما دعاؤه بذلك ( صلى الله عليه وسلم ) تواضعًا لله ،وتعليمًا لأمته ، وحضًا لهم على إيثار الزهد في الدنيا ، فقد روى البخاري في صحيحه : (عَنْ عَائِشَةَ – رضى الله عنها – قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى ، .. )
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السالف الذكر : (وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ ) ، قال الكرماني: ليس المراد الحقيقة في عضو بعينه ، بقرينة عدم الانحصار في التراب ،إذ غيره يملؤه أيضا، بل هو كناية عن الموت ،لأنه مستلزم للامتلاء، فكأنه قال لا يشبع من الدنيا حتى يموت ، وقيل لبعض الحكماء : إن فلاناً جمع مالاً , فقال : فهل جمع أياماً ينفقه فيها ؟ ، قيل : لا ، قال : ما جمع شيئاً . وقال الإمام ابن القيم : فأين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة , إنما هي كأضغاث أحلام , أو كطيف تمتع به من زاره في المنام , على لذة هي من أعظم اللذات , وفرحة ومسرة هي من أعظم المسرات , دائمة لا تزول ولا تفنى ولا تنقطع , فباعها بهذه اللذة الفانية المضمحلة التي حُشيت بالآلام , وإنما حصلت بالآلام , وعاقبتها الآلام ؟ ، فلو قايس بين لذتها وألمها ومضرتها ومنفعتها , لاستحيا من نفسه وعقله , كيف يسعى في طلبها ،ويضيع زمانه في اشتغاله بها ، وقد روى البخاري في صحيحه : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – : « قَالَ اللَّهُ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنَ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ..) وقوله : (وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ ) : فالمال جعله الله للإنسان ، ليستعان به على إقامة حقه بالصلاة ، وإقامة حق عباده بالزكاة ، لا للاستمتاع والتلذذ كما تأكل الأنعام ، فإذا زاد المال عن ذلك ، أو خرج عن هذين المقصودين، فإن الغرض والحكمة التي أنزل لها ، كان التراب أولى به ، فرجع هو والجوف الذى امتلأ به بما خلق له من الإيمان والعلم والحكمة ، فإنه خلق لأن يكون وعاء لمعرفة ربه وخالقه ، والإيمان به ،ومحبته وذكره ، وأنزل عليه من المال ، ما يستعين به على ذلك ، فعطل جوفه عما خلق له ، وملأه بمحبة المال ,وجمعه ، والاستكثار منه ، ومع ذلك فلم يمتلئ ، بل ازداد فقراً ،وحرصاً ،إلى أن امتلأ جوفه بالتراب ،الذى خلق منه ، فرجع إلى مادته الترابية ، التي خلق منها ،هو وماله ،ولم تتكمل مادته بامتلاء جوفه من العلم والإيمان ،الذى بهما كماله وفلاحه وسعادته في معاشه ومعاده. فالمال إن لم ينفع صاحبه ضره ولا بد ، روى الإمام مسلم في صحيحه : ( عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَقْرَأُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قَالَ « يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي – قَالَ – :وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ». وروى البخاري ( عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ :« تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ ،..)
أما القسم الثاني من أقسام الحرص على جمع المال : إن يزيد على ما سبق ذكره في القسم الأول , حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة ،ويمنع الحقوق ، يقول ابن الجوزي : وقد لبس إبليس على أصحاب الأموال من أربعة أوجه : أحدها : من جهة كسبها ، فلا يبالون كيف حُصلت ، ففي صحيح البخاري : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ :« لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ » ، والثاني : من جهة البخل بها : فمنهم من لا يخرج الزكاة ، ومنهم من يخرج بعضا ثم يغلبه البخل ،فينظر أن المخرج ، ومنهم من يحتال لإسقاطها . والثالث : من حيث التكثير بالأموال : فإن الغني يرى نفسه خيرا من الفقير ،وهذا جهل منه، والرابع : في إنفاقها : فمنهم من ينفقها على وجه التبذير والإسراف ،تارة في البنيان الزائد على مقدار الحاجة ،وتزويق الحيطان ،وزخرفة البيوت ، وتارة في اللباس الخارج بصاحبه إلى الكبر والخيلاء ، وتارة في المطاعم . روى الإمام مسلم في صحيحه : (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ ».
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
أما قوله صلى الله عليه وسلم : (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) ، فيقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله : في هذا بيان أن من تاب تاب الله عليه ،مهما عظم ذنبه ،لأن الله تعالى قال في كتابه :(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (68) :(70) الفرقان ، ويقول العلامة ملا علي القاري رحمه الله : ( فمن لم يتداركه التوفيق ،وتركه وحرصه ،لم يزدد إلا حرصا وتهالكا على جمع المال ،وموقع قوله :(وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ ) موقع ركوز الجبلة ،ونيط به حكم أشمل وأعم ،كأنه قيل : ولا يشبع من خلق من التراب إلا بالتراب، وموقع ويتوب الله على من تاب : موقع الرجوع : يعني إن ذلك لعسير صعب ،ولكن يسير على من يسره الله تعالى عليه ).
أيها المسلمون
ومن كلام السلف في ذم الحرص على المال : فعن عمر بن الخطاب، أنه قال: ” ما من امرئ إلا وله أثر هو واطئه، ورزق هو آكله، وأجل هو بالغه، وحنق هو قاتله ، حتى لو أن رجلا هرب من رزقه ، لاتبعه حتى يدركه ،كما أن الموت يدرك من هرب منه، ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ” .وقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمال في ولايته ، فجعل يتصفحه ،وينظر إليه، فهملت عيناه دموعا فبكى ،فقال له عبد الرحمن بن عوف : ما يبكيك يا أمير المؤمنين ؟ فوالله إن هذا لمن مواطن الشكر ،فقال عمر : (إن هذا المال والله ما أعطيه قوم إلا ألقي بينهم العداوة والبغضاء) . وقال الفضيل رحمه الله : ” لا يعطى أحد من الدنيا إلا ويقال له : هاك مثليه من الحرص ،مثليه من الشغل ، ومثليه من الهم، ولا يعطى شيئا من الدنيا إلا ونقص من آخرته، فإن شئت فأقلل، وإن شئت فأكثر”. وكان الإمام سفيان الثوري يقول لعلي ابن الحسن السليمي : إياك وما يفسد عليك عملك وقلبك ،فإنما يفسد عليك قلبك مجالسة أهل الدنيا ،وأهل الحرص، وإخوان الشياطين الذين ينفقون أموالهم في غير طاعة الله . وقال الإمام الزاهد إبراهيم بن أدهم : ” ذم مولانا الدنيا فمدحناها ،وأبغضها فأحببناها ،وزهدنا فيها فآثرناها ،ورغبنا في طلبها، وعدكم خراب الدنيا فحصنتموها ،ونهيتم عن طلبها فطلبتموها ،وأُنذرتم الكنوز فكنزتموها, تنبشون بمخالب الحرص عن خزائنها ،وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها ،وتبنون بالغفلة في أماكنها ،وتحصنون بالجهل في مساكنها ،تريدون أن تجاوروا الله في داره ،وتحطوا رحالكم بقربه بين أوليائه وأصفيائه وأهل ولايته ،وأنتم غرقى في بحار الدنيا ” .ويقول رحمه الله : “قلة الحرص والطمع : تورث الصدق والورع, وكثرة الحرص والطمع : تورث كثرة الغم والجزع” .
الدعاء