خطبة عن (ما شاء الله كان. وما لم يشأ لم يكن) (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)
يناير 23, 2017خطبة عن ( جسور المحبة )
يناير 25, 2017الخطبة الأولى ( وقفات مع حديث : .. وَفِى يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى الامام أحمد في مسنده أن (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ » ، وفي رواية « إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِى يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا ».
إخوة الإسلام
الإسلام يقرر أن العمل الصالح تمتد آثاره ، وتأتي ثماره من كل جهة ولو بعد حين ، وفي هذا الحديث يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم دروساً عظيمة ، وعلينا أن نتعلمها ،ونعمل بما جاء فيها ،ومن أعظم الدروس التي نستلهما من هذا الحديث : الإيجابية في حياة المسلم، إذ لابد أن يكون المسلم إيجابياً مشاركا في هذه الحياة بكل ما يستطيع، وبقدر ما يمكنه، ولو كان ذلك في آخر لحظات حياته ، ومن هذا الحديث نعلم مكانة الزرع وقيمته في الإسلام، وأن الزارع مأجور إذا احتسب ما يفعله عند الله تعالى ، ففي الصحيحين (عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ ». وفي رواية لمسلم (عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةً وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ » . وفي ذلك بيان بأن الثواب موصول، ما دام الزرع مأكولا منه، حتى ولو انتقل إلى ملك غيره ، أولو مات الغارس أو الزارع. ولقد أخذ صاحب هذا العمل تلك المنزلة من الأجر والمثوبة، لأنه بهذا شارك في عمارة الحياة، فلم يعش لنفسه فقط، وإنما عمل لمصلحة مجتمعه، وقدم لنماء الخير ما استطاعه، وسواء حصل من زرعه على شيء أو لم يحصل، وسواء عاش ليأكل منه أم لا. وروى الإمام أحمد : ( عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَجُلاً مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْساً بِدِمَشْقَ فَقَالَ لَهُ أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ لاَ تَعْجَلْ عَلَىَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ غَرَسَ غَرْساً لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ آدَمِيٌّ وَلاَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةً ».
ولله در القائل: “غرس من قبلنا فأكلنا ونغرس ليأكل من بعدنا”. وفي هذا الحديث أيضا يرسل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسائل واضحة ، وتنبيهات مؤكدة ، في عدم اليأس والقنوط ، فأنت تزرع الفسيلة ولن تثمر إلا بعد سنوات، لكننا نزرع، ونبني الحياة ونعمرها، ولا نيأس من تأخر الثمرات والنتائج ، نحن نفعل الخير ، ولا نقنط إن قوبلنا بالشر، فلا يقل أحدنا قد اقتربت الساعة فلا نعمل ،ولا نعلم، ولا نقرأ ولا نكتب، ولماذا تكدح؟ ولماذا؟ وهذا هو كلام اليائسين. بل لابد أن يقدم المسلم كل ما يستطيعه حتى آخر لحظة من حياته ، ولا يحقر عمله أبداً، مهما كان صغيرا ، ولا يقل ستقوم الساعة، أو قامت الساعة، واغرس، ولا يقل: لمن أغرس؟ ومتى تثمر؟ ومن يأكل؟ قال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن:16). وإن مما يعلمنا هذا الحديث: العمل لهذا الدين، وتجاوز الأنانية ومفهوم الفردية في حياتنا هو الكفيل بإعادة ترتيب الحياة على وجه أفضل، وفي ديننا الحنيف نصوص تدعو إلى العمل، والمشاركة في هذه الحياة عموماً حتى تصل هذه المشاركة في آخر أيام الدنيا ، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:148)، وقال تعالى : {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:114). فكل هذه النصوص تدعو إلى الإيجابية، والمسارعة إلى أعمال الخير التي يحبها الله جل في علاه. فمن استطاع أن يميط شوكة من الطريق فليمطها، ومن استطاع أن يبذر حبة فليبذرها، ومن كان عنده علم دعا به، ومن كان عنده مال دعا به، والمسؤولية هي على الجميع، كل بحسبه ، وفي صحيح البخاري ( عَنْ أَبِى كَبْشَةَ السَّلُولِىِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو – رضى الله عنهما – يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ » . قَالَ حَسَّانُ فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً )
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ». رواه مسلم ،وجاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِى النَّاسَ ». ومن أجلِّ أعمال المسلم قيامه بالدعوة إلى الله ، بياناً باللسان، وجهاداً باليد، ونفقة من العلم والمال والوقت، فكل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام، أياً كان تخصصه ومستواه، فإن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، قال تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة:286).
لعمري لئن لم يدرك الأمر أهلـه شباب بسيف العصر دوماً مدججٌ
وشيب بمحراب الرسول قلوبهـم وألبـابهم في موكب العلم هودج
فإن الرحى لن يخطئ الحبّ طحنها ولله نـــاموس من العدل أبلج
ومما يستفاد من هذا الحديث العظيم : دوام العمل ،والاستمرارية والمواصلة، قال تعالى {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105)، وقال تعالى {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99)، وفي صحيح مسلم (وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ ». وقد تعوَّذ النبي صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل ، ففي الصحيحين (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضى الله عنه – قَالَ كَانَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ » ، يقول محمد قطب حفظه الله: “وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم، والأمة من ورائهم؛ إلى الدأب والمثابرة، ولو بدت الثمرة بعيدة المنال، …، وحثَّهم على مداومة العمل ولو بالقليل دون انقطاع، وكان دائم الاستعاذة من العجز والكسل” ،وجاء في فيض القدير: “والحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به؛ فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة،
أيها المسلمون
ولقد مرَّت على البشرية فترات طويلة في الماضي والحاضر كانت تحس فيها بالفُرقة بين الطريقين، كانت تعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا، والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة، وكانت هذه الفرقة بين الدنيا والآخرة عميقة الجذور في نفس البشرية، لا تقف عند هذا المظهر وحده؛ وإنما تتعداه إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري في مجموعه. وإن الأمة لن تنتصر إلا بالمعنويات العالية، والنفوس المتفائلة، والأرواح السامية فلا يأس مع الحياة، والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة، فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل؛ حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل، وعن التطلع للمستقبل، فلا شيء على الإطلاق يمكن أن يمنع من العمل! ، وكل المعوقات، وكل المستحيلات، كلها لا وزن لها ولا حساب، ولا تمنع عن العمل. وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقاً، وتشيد فيها المدنيات والحضارات…
وفي هذا المقصد العظيم من هذا الحديث درس خاص للقائمين بالدعوة إلى الله – تعالى – بألا ييأسوا، ولا يقنطوا، بل يرموا البذور والله يتولى الصالحين ، قد ييأس التاجر من الكسب، ولكن دفعة المال لا تلبث أن تدفعه مرة أخرى إلى السير في الطريق. قد ييأس السياسي من النصر، ولكن تقلبات السياسة لا تلبث أن تفتح له منفذاً فيستغله لصالحه.
قد ييأس العالم من الوصول إلى النتيجة ولكن المثابرة على البحث والتدقيق كفيلة أن توصله إلى النهاية. كل ألوان البشر المحترفين حرفة معرضون لليأس، وهم في حاجة إلى التشجيع الدائم، والحث الطويل، ولكنهم مع ذلك ليسوا كالدعاة في هذا الشأن، فأهدافهم غالباً ما تكون قريبة، وعوائقهم غالباً ما تكون قابلة للتذليل. وليس كذلك المصلحون. إنهم لا يتعاملون مع المادة ولكن مع (النفوس)، والنفوس أعصى من المادة، وأقدر على المقاومة وعلى الزيغ والانحراف . والسم الذي يأكل قلوب الدعاة هو انصراف الناس عن دعوتهم، وعدم الإيمان بما فيها من الحق، بل مقاومتها في كثير من الأحيان بقدر ما فيها من الحق، وعصيانها بقدر ما فيها من الصلاح! عندئذ ييأس الدعاة، ويتهاوون في الطريق. إلا من قبست روحه قبسة من الأفق الأعلى المشرق الطليق، إلا من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقين! الدعاة أحوج الناس إلى هذا الدرس، أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذا التوجيه العجيب الذي تتضمنه تلك الكلمات القليلة البسيطة الخالية من الزخرف والتنسيق. هم أحوج الناس أن يقتبسوا من قبسات الرسول صلى الله عليه وسلم هذه اللمحة المضيئة الكاشفة الدافعة الموحية، فتنير في قلوبهم ظلمة اليأس، وتغرس في نفوسهم نبتة الأمل، كما تغرس الفسيلة في الأرض لتثمر بعد حين.
إنه يقول لهم: ليس عليكم ثمرة الجهد، ولكن عليكم الجهد وحده، ابذلوه ولا تتطلعوا إلى نتائجه! ابذلوه بإيمان كامل أن هذا واجبكم وهذه مهمتكم، وأن واجبكم ومهمتكم ينتهيان بكم هناك عند غرس الفسيلة في الأرض، لا في التقاط الثمار”
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وقفات مع حديث : .. وَفِى يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
الإسلام يعتبر أن العمل الصالح هو جهد مبرور في سبيل الله، ففي سنن البيهقي (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ فَتَعَجَّبُوا مِنْ خُلُقِهِ فَقَالُوا : لَوْ كَانَ هَذَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأَتَوُا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : « إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْهِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدٍ صِغَارٍ فَهُوَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيُغْنِيَهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ». وفي رواية : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا شَابٌّ مِنَ الثَّنِيَّةِ فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ بِأَبْصَارِنَا قُلْنَا : لَوْ أَنَّ هَذَا الشَّابَ جَعَلَ شَبَابَهُ وَنَشَاطَهُ وَقُوَّتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ فَسَمِعَ مَقَالَتَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : « وَمَا سَبِيلُ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ قُتِلَ؟ مَنْ سَعَى عَلَى وَالِدَيْهِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ سَعَى عَلَى عِيَالِهِ فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ سَعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيُعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَنْ سَعَى عَلَى التَّكَاثُرِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ ». ونجد النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أمته أن عمل الإنسان بيده مما يشرفه، فهو أزكى الكسب وشأن الأنبياء ، وفي صحيح البخاري (عَنِ الْمِقْدَامِ – رضى الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » ، وفي صحيح البخاري : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ » . فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ فَقَالَ « نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ » ، وفي هذا إظهار لشرف العمل، وأنه سبيل أنبياء الله الكرام، ويؤكد التوجيه النبوي حرص الإسلام على كرامة العامل، ويربيه على أن يكون فعالا منتجا، لا مِنَّة للناس عليه ، وكما يؤكد صلى الله عليه وسلم هذا المعنى كما في صحيح البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً ، فَيَسْأَلَهُ ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ »
فإن هدف العمل في الإسلام ليس كسب المال فقط، ففضلا عن معانيه التعبدية، فإن من غاياته تحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وهذا يؤدي إلى التوازن النفسي على مستوى الفرد والجماعة، وكم من مجتمعات بلغت الغاية في الكسب المادي، ولكن أفرادها ظلت حياتهم مملوءة بالقلق والخوف والوحدة والشعور الحاد بالغربة القاتلة، وكأنها تعيش في غابة مملوءة بالوحوش الكاسرة، لذا نجد علاقات طردية بين العمل الصالح -والذي من ورائه بسط الرزق- والتوازن الاجتماعي، وهذا المفهوم يتضح من خلال الحديث الصحيح: « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ » رواه البخاري ، وكان أصحاب النبي عمال أنفسهم، وعندما كان بعض الصحابة يعرض على أخيه أن يشاطره نصف ماله، كان يدعو له بالبركة، ثم يقول: “دلوني على السوق”، فلا يرضى إلا أن يكون العمل الجاد المشرف هو المقابل للإيثار العظيم الذي بادره به أخوه، ولقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على مبدأ عظيم: “اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول”، حتى أنه كان يشجع صبيان المسلمين على العمل. ومن أهمية العمل في الإسلام أنه أحد معايير التقييم لدرجة أن عمر بن الخطاب كان “إذا رأى غلاما فأعجبه سأل: هل له حرفة؟ فإن قيل :لا، قال: سقط من عيني”، وبلغ من حرص الأصحاب رضي الله عنهم أن “(صنع القفاف ونحوها من الخوص وهو ورق النخيل) كانت حرفة سلمان الفارسي، حتى وهو أمير في المدائن، فيعيش بها، وكان يقول: أحب أن أعيش من عمل يدي، وسار على ذلك فقهاء الإسلام الكبار يحثون الأمة على العمل. ومن الواضح أن ضعف المسلمين اليوم ، هو نتيجة لكثرة لغطهم ،وضعف عملهم وإنتاجهم ولو أنهم اهتموا بالعمل والانتاج في جميع الميادين لما احتاجوا لمنتجات غيرهم ، بل لكانوا قدوة بعملهم وأعمالهم لغيرهم .
أيها المسلمون
والإسلام إذا كان قد حث على العمل ، فهو قد أعلن الحرب على التواكل والبطالة، وحث على طلب الحلال ورغب فيه , فالإسلام يرى تعمير الارض عبادة , وشغل المسلم فيه ثواب واستدرار الارزاق منها جهاد والدليل على ذلك آيات قرآنية كثيرة ، ومنها قول الله تبارك وتعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك 15، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية . اي فسافروا حيث شئتم من اقطارها وترددوا في اقاليمها وارجائها في انواع المكاسب والتجارة واعلموا ان سعيكم لا يجدي عليكم شيئا إلا أن ييسره الله لكم ،قال تعالى:(فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )15 الملك ، فالسعي في السبب لا ينافي التوكل ،ومن أهم أسباب إعمار الأرض أن يسعى المسلم للعمل مبكرا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا » رواه الترمذي وغيره
الدعاء