خطبة عن اسم الله ( الْمُقْسِط )
مارس 24, 2018خطبة عن (اشهد ولا تقض وتحكم) وحديث (وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ)
مارس 24, 2018الخطبة الأولى ( وقفات مع سورة الحجرات )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] ، ويقول سبحانه: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وقال الله تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) الحجرات
إخوة الإسلام
لقد أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ وتعالى أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، وأن نفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، فالمتدبر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله ، وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر، وكان لها أثر في سلوك الإنسان، ولهذا لمَّا سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد (قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) ، فكان صلى الله عليه وسلم يتمثل القرآن منهجاً لحياته قراءةً وتدبراً وتطبيقاً، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة”. وقال الامام علي بن أبي طالب: “لا خير في قراءة لا تدبر معها”. وقال ابن مسعود: “إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط حرفاً وقد أسقط العمل به”
أيها السلمون
وموعدنا اليوم -إن شاء الله- مع (وقفات مع سورة الحجرات) ، فالقرآن الكريم هو الدستور الذي لا يتغير ولا يتبدل ، وهو الذي يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك كان من الواجب علينا أن نعمل به، وأن نتحاكم إليه، وأن نتدبره، وأن نقف عنده حدوده، وأن نمتثل أوامره، وأن نجتنب زواجره ، وما أجملَ أن نعيشَ أفضلَ لحظاتٍ في عصر التحديات، في رِحابِ آياتٍ بيِّنات، نستلهِمُ منها النفحَات والعِظات، ونجنِي منها أطايِبَ الثمرات ، وسورة الحجرات هي سورة مدنية ، وأغلب أقوال المفسرين أنها نزلت في قصة نداء بني تميم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته فعرفت بهذه الإضافة، وقد نزلت في العام التاسع الهجري ، وعدد آياتها: ثمانية عشر آية، وهي سورة مع قصرها، وقلة عدد آياتها ، إلا أنها جاءت شاملة لأحكام وآداب وأوامر ونواه ، لا تجدها مجتمعة في سورة سواها ، ولهذا فهي تسمى سورة الأخلاق؛ لاشتمالها على جملة من الآداب؛ الأدب مع الله، والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأدب مع عباد الله المؤمنين. كما تشتمل السورة على كثير من حقائق العقيدة والتشريع والأخلاق، وقد جاءت آياتها كمنهج متكامل لمجتمع إسلامي، سليم العقيدة، نقي القلب، عف اللسان، مهذب الأخلاق، نقي السريرة مع الله ، مجتمع تصان فيه الحرمات ،ولا تتبع فيه العورات ، مجتمع رباه القرآن على يد من كان خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم ، وأمتنا الاسلامية اليومَ هي أحوج ما تكون إلى منقِذ لها مما هي فيه، ولن يَصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما صلح أولها إلا بالكتاب والسنة، قال صلى الله عليه وسلم : « خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ » رواه الدارقطني. ولذلك جاءت هذه السورة تعالج قضايا وأمورًا مهمّة تسهم في حلّ كثير من المعضلات المعاصرة.
أيها المسلمون
وفي ثنايا هذه السورة المباركة جاءت ستة نداءات: خمسة منها جاء المنادَى فيها موصوفًا بوصف الإيمان، أما النداء السّادس فقد جاء عامًّا للناس كلّهم ، ويقول عبد الله بن مسعود : “إذا سمعتَ الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك، فإنما هو أمر تؤَمر به، أو نهي تُنهَى عنه، أو خبر تخبَر به”. فهذه النداءات المتكرِّرة لم تسَق عبثًا في هذه السورة على هذا النسق المتوالي، ولكن جاءت لحِكَم عظيمة وفوائد جليلة، وأول هذه النداءات : هو قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات : 1] . فهذا نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب، وفيه استجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به، وتشعرهم بأنهم عبيده وجنوده، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه ، يفعل ما يؤمر ،ويرضى ويستسلم . وقال حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) : أي : “لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة”، وقال مجاهد: “لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتى يقضيَه الله على لسانه” ، وقال الضحاك: “لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله من شرائع دينكم”. فقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، فهذا أدب أخلاقي نفسيّ عظيم مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقّي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع ،والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله وراجع إليها. فالمؤمن مطالب بعدم تقديم رأيه على أوامر الله ورسوله في الكتاب والسنة، فلا يقول ولا يقضي في الدين ،بخلاف ما تنص عليه الشريعة، ولا يجعل لنفسه تقدما على الله ورسوله في المحبة والولاء، بل يكون رأيه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون محبته وولاؤه لله ورسوله أقوى وأشد من محبته وولائه لنفسه وأهوائه ومصالحه، والمؤمن لا يفتات على الله شيئاً أو يقطع أمراً حتى يحكم الله فيه، ويأذن به على لسان رسوله – عليه الصلاة والسلام ، وقد روى أبو داود وغيره (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ « كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ». قَالَ أَقْضِى بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. قَالَ « فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَدْرَهُ وَقَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ ». وحين نتأمل حال الصحابة الذين شهدوا التنزيلَ نرى العجب من أدبهم في هذا الأمر مع الله ورسوله، وهذا مقتضى العبودية لله تعالى، فلا يُقَدِّمَ هوَى نفسه أو غيره على أمر الله تعالى وحكمه، قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب:36]. وقال تعالى : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
أما عن النداء الثاني : فقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (2) الحجرات ، فقد نهى الله – تعالى -في هذه الآية عن أمور منها: ألا يرفع الصوت بحضرته ، وكذا الجفاء في مخاطبته ومحاورته ، وفي ذلك أمر بتعظيمه – صلى الله عليه وسلم -، وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، والتزام توجيهاته وأوامره. وبما أن حرمة النبي – صلى الله عليه وسلم – حيا كحرمته ميتا، وكلامه المسموع منه مباشرة ككلامه المروي عنه بعد موته في الرفعة والإلزام، فقد وجب على كل من يسمع حديثه وسنته وهديه ألا يرفع صوته عليه أو يعرض عنه لأن رفع الصوت والجهر به في حضرته – صلى الله عليه وسلم – أو عند تلاوة سنته دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، وفي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (3) ،(4) الحجرات ،فقد حكم الله بالإخلاص والإيمان والتقوى للمؤمنين الذين يتصفون بالمحبة لله ورسوله والولاء لهما، وتقديم أحكام الشرع على آرائهم وأهوائهم ومصالحهم، والاحترام لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيا وميتا وغض الصوت بحضرته أو عند سماع سنته ،وقد استنبط الفقهاء بالقياس من هذا التوجيه القرآني، وجوب احترام الوالدين ،والعلماء وذوي السابقة في الدعوة والجهاد ،وكبار السن، والرفق بهم ،وعدم رفع الصوت بين أيديهم، والاستحياء بحضرتهم، مما تؤكده نصوص كثيرة لا يتسع لها المجال.
وفي قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (6) الحجرات ، فإن همّ الشيطان وأوليائه دائما هو إيقاع الفتنة بين المؤمنين، وتمزيق صفهم بنقل الأخبار الكاذبة والملفقة، والأضاليل المخترعة، فإذا كان الناقل فاسقا ،وجب التثبت والتبين والبحث عن الحقيقة في الأمر ،وينطبق هذا التوجيه الرباني أيضا على الأنباء والتحاليل السياسية والاقتصادية ، والاجتماعية التي تنشرها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة التي يشرف عليها فساق الأمة أو أعداؤها ، لأن غاية هؤلاء في الأصل فتنة الأمة وإضعافها وإفساد أحوالها. ولما كانت نتيجة الثقة في الفساق ونقولهم وأخبارهم غالبا ما تكون الفتنة ،والتقاتل بين المؤمنين، فقد عقب – سبحانه – على ذلك بالإرشاد إلى كيفية التغلب على هذه الفتنة بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (7) الحجرات ، وفي ذلك تذكير بأن النجاة من الفتن في اتباع سنته وهديه وعدم عصيان أوامره ونواهيه – صلى الله عليه وسلم – حيا وميتا، ومرد ذلك إلى تمسك القلب بالإيمان الذي هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، ونفوره وكراهيته للكفر والفسوق والعصيان، وكل ذلك نعمة من الله وفضل، ولذلك كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسأل ربه أن يثبته على الدين، وأن يجدد الإيمان في قلبه. وقد اختار الله عن علم وحكمة فريقا من عباده، ليشرح صدورهم للإيمان، ويحرك قلوبهم إليه، ويزينه لهم فتهفو إليه أرواحهم، وتدرك ما فيه من جمال وخير.. وهذا الاختيار فضل من الله ونعمة، دونها كل فضل وكل نعمة. ثم ضرب الله سبحانه وتعالى – لهذه الفتن مثلا فيما يقع بين المؤمنين من تخاصم وتقاتل، فقال تعالى : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (9) ،(10) الحجرات ، فقد أكدت الآية القاعدة الأصل ، والوشيجة المتينة في الصف المؤمن، وهي الأخوة في الله فقال تعالى :(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) الحجرات 10، وهو ما بينته السنة النبوية في أحاديث كثيرة منها قوله – صلى الله عليه وسلم – « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ ، وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ » رواه البخاري ، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى » رواه مسلم . وفي الصحيحين (عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا » . وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) ، وفي سنن أبي داود (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلاَّ خَذَلَهُ اللَّهُ فِى مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلاَّ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ » ، وقد قرن الله تعالى في الآية الصلح بين المؤمنين المتخاصمين بالتقوى ، وجعله مدعاة لنـزول الرحمة عليهم بقوله تعالى -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الحجرات 10، لأن الميل للصلح وإيثاره، انبثاق فطري من التقوى، والتقوى هي القناة الغيبية التي تنـزل منها الرحمة.
ثم تحدثت السورة عن علاقة المؤمن مع عموم بني جنسه، وخصوصا إخوته من المؤمنين في حال حضورهم ، والتعامل المباشر معهم ، فقال تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (11) الحجرات ،فقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير، أو الرجل القوي من الرجل الضعيف، والرجل السوي من الرجل المعاق، وقد يسخر الذكي الماهر من الشخص الساذج الخام، وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم. وذو العصبية من اليتيم، وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة، ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين! فميزان الله هو ميزان التقوى ، فالسخرية : هي أن ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الاحتقار والاستصغار، ولعل من سخرت منه أو احتقرته هو أعلى وأجل منك، والقرآن الكريم لا يكتفي بهذا الإيحاء، بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية، ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها فقد لمزها: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ). واللمز: هو العيب ، فبين أن المعاملة التي ينبغي أن تكون بين الأقوام رجالا ونساء، شعوبا وقبائل بكافة ألوانهم وعقائدهم ومراتبهم الاجتماعية ، هي معاملة الأخوة الإيمانية، أما النبز: فهو مناداة الإنسان أخاه بألقاب يكرهها أو يعدها محقرة، أو مثيرة للسخرية. وسواء أكانت السخرية واللمز والنبز بين الأفراد أو بين الأقوام والجماعات فإن ذلك محرم يجب الإقلاع عنه، والمؤمن أحق من يلتزم بذلك لأنه داعية إلى الإسلام وقدوة فيه
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وقفات مع سورة الحجرات )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وما يزال حديثنا موصولا عن : ( وقفات مع سورة الحجرات ) ، فيقول سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الحجرات (12) ، فتنهى الآيات عن إساءة الظن بالمؤمنين وعن التجسس عليهم، ومحاولة الاطلاع على أسرارهم أو نقلها إلى أعدائهم، وعن اغتيابهم، وانتهاك أعراضهم في غيبتهم، وفي الصحيحين (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ». والغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله – تعالى -: الغيبة، والإفك، والبهتان. فالغيبة : أن تقول ما في أخيك، … وأما الإفك : أن تقول فيه ما بلغك عنه، وأما البهتان : أن تقول ما ليس فيه. وقد عد – سبحانه وتعالى – هذه الموبقات بمثابة أكل لحم المؤمن ميتا، فقال تعالى: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ))، وهذا غاية البشاعة واللؤم والانحطاط. وكما أن الميت لا يحس بأكل الآكلين، كذلك الغائب لا يسمع ما يقوله فيه المغتاب. والفعلان معا (الغيبة وأكل لحم الميت) في التحريم سواء ، وفي الصحيحين : قال صلى الله عليه وسلم : (فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا » ، وفي صحيح الأدب المفرد للبخاري (عن المستورد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من أكل بمسلم أكلة ؛ فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومن كُسِيَ برجل مسلم، فإن الله عز وجل يكسوه من جهنم، ومن قام برجل مقام رياء وسمعة؛ فإن الله يقوم به مقام رياء وسمعة يوم القيامة”. وروى مسلم في صحيحه : (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ». قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ « إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ». وروى أبو داود بإسناده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ ». والتعفف عن دماء المؤمنين وأعراضهم وأموالهم طريق للتقوى ،ومدعاة للتوبة والرحمة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى :(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) الحجرات (12) ، ثم تتوجه الآيات بنداء إلى البشرية كافة ، فقال الله تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (13) الحجرات ، فالنداء بقوله تعالى ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) خطاب يعم المؤمن والكافر ،مما ترتب على كونهم من أصل واحد ،هو آدم وحواء، وفي ذلك تذكير لهم بحقيقة كونية، وهي أنهم خلقوا من نفس واحدة ، وكما في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) النساء 1، فيا أيها الناس تعني : يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، والمتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد، فلا تختلفوا ،ولا تتفرقوا ،ولا تتخاصموا ،ولا تذهبوا بددا. و(يا أيها الناس) تعني ، أن الذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم.. من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل، إنها ليست للتناحر والخصام، إنما هي التعارف والوئام، فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات، وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله، إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهكذا تسقط جميع الفوارق ، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان. وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله.. لا راية الوطنية، ولا راية القومية ،ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام ، وفي سنن الترمذي (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ :« قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ »
الدعاء