خطبة عن اسم الله ( العَفُوّ )
يناير 27, 2018خطبة عن ( الطريق إلى الله )
يناير 27, 2018الخطبة الأولى ( وقفات مع سورة الْكَوْثَر )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ(3)) سورة الكوثر
إخوة الإسلام
لقد أنزل الله تعالى القرآن ليُتدبر ويُتفكر فيه ويُعمل به، لا لمجرد تلاوته مع الإعراض عنه ، واليوم إن شاء الله موعدنا مع القرآن الكريم ، مع سورة الكوثر ، وهي سورة كريمة من كتاب العزيز القدير، ومع قلة آياتها ، إلا أنها عظيمة النفع، وغزيرة الفوائد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” ما أجلها من سورة وأغزر فوائدها على اختصارها “.وجاء في أسباب نزولها : ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش: أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا المُصَنْبر ،المنبتر من قومه ،يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة وأهل السقاية ؟ فقال: أنتم خير منه. قال: فنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) ، والمتأمل في هذه السورة الكريمة، يجد أنها تضع أمامنا منهجًا واضحَا، في حفظ النعم ، والتقرُّب بها إلى الله تعالى ، لأن هذا اللفظ: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، ومن هنا نفهم قوله تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ ، والذي جاء عقب التذكير بالنعمة، فإذا كان العبد شاكرًا لربِّه، ومُقِرًّا بنعم الله عليه، عن طريق الفعل والقول معًا، فإن النتيجة الحتمية هي حماية الله للعبد وحفظه ؛ والدفاع عنه :﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾، وهذا المعنى يؤيِّده قوله سبحانه: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾يونس: 62، 63 ، وقد روى أحمد في مسنده ( أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ أَغْفَى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- إِغْفَاءَةً فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّماً إِمَّا قَالَ لَهُمْ وَإِمَّا قَالُوا لَهُ لِمَ ضَحِكْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عَلَىَّ آنِفاً سُورَةٌ ». فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) حَتَّى خَتَمَهَا قَالَ « هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ». قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ « هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ فِى الْجَنَّةِ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ يَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آنِيَتُهُ عَدَدُ الْكَوَاكِبِ يُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُم فَأَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِى. فَيُقَالُ لِى إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ » ، والكوثر في اللغة العربية هو الخير الكثير، والنبي صلى اللهُ عليه وسلم قد أعطاه الله خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخرة، فقد روى البخاري في صحيحه عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: «الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ» كما روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَ أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ – شَكَّ هُدْبَةُ – مِسْكٌ أَذْفَرُ» .وروى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «الْكَوْثَرُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ» ،ومن صفات هذا النهر ،أنه يجري على وجه الأرض في الجنة ، من غير شق فيها ، وذلك لحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أُعْطِيتُ الْكَوْثَرَ فَإِذَا هُوَ نَهَرٌ يَجْرِي وَلَمْ يُشَقَّ شَقًّا فَإِذَا حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى تُرْبَتِهِ فَإِذَا هُوَ مِسْكَةٌ ذَفِرَةٌ وَإِذَا حَصَاهُ اللُّؤْلُؤُ) رواه أحمد
ونهر الكوثر يصب منه ميزابان في حوض النبي صلى اللهُ عليه وسلم الذي يشرب منه المؤمنون يوم القيامة، فقد روى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا أَلاَ فِى اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ آنِيَةُ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ». وجاء أَيضًا في بعض التفاسير؛ أَن الكوثر هو الإِسلام ، والنبوَّة، وجميع ما جاء في تفسير الكوثر فقد أُعطيه النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقد أُعطي النبوَّة، وإِظهار الدِّين الذي بُعث به على كلِّ دِين، والنصر على أَعدائه، والشفاعة لأُمَّته، وما لا يحصى من الخير، وقد أُعطي من الجنة على قدر فضله على أَهل الجنة، صلَّى الله عليه وسلَّم. وإعطاء الكوثر الذي هو الحوض ، أو نهر في الجنة ، أو كثرة النعم والفضائل والمنح، فكل ذلك – نعمة من الله تعالى – تُوجب الشكر، وأفضلُ الشكر هو أداء الفرائض؛ كما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم: إن الله تعالى قال: « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ ، ..))؛ رواه البخاري
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وقفات مع سورة الْكَوْثَر )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر ﴾ أي: كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة، ومن ذلك النهر الذي تقدم وصفه، فأخلص لربك صلاتك، فاجعل صلاتك كلها لربك خالصًا دون ما سواه من الأنداد والأضداد، وكذلك نحرك ، فانحر على اسمه وحده لا شريك له ، كما قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين ﴾ [الأنعام: 162-163]. فاجعل صلاتك ونحرك لله دون الأوثان ، وذلك شكرًا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفء له، وخصَّك به من إعطائه إياك الكوثر ، وأما قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر ﴾، أي: إن مبغضك يا محمد ومبغض ما جئت به من الهدى، والحق والبرهان الساطع، والنور المبين هو الأبتر، والأبتر من الرجال الذي لا ولد له ومن الدواب الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( فإنه سبحانه وتعالى بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته ومحبته والإيمان برسله ، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا، ويبتره من جميع القرب والأعمال الصالحة فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها،وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورده لأجل هواه أو متبوعه أو شيخه أو أميره أو كبيره،.. ) ، ويقول الشيخ السعدي رحمه الله : ” هذا وعد من الله لرسوله، أن لا يضره المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة ،وقد فعل تعالى ذلك ، فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ،وبما جاء به، إلا أهلكه الله ، وقتله شر قتلة”.
أيها المسلمون
وهكذا اشتملت هذه السورة على فوائد عظيمة ،ومعاني جليلة ،جدير بكل مسلم أن يقف عندها ، وينبغي عليه أيضا أن يعتني كذلك بالتلاوة والتدبر والعمل بكل ما جاء في كتاب العزيز الغفور ، والذي هو حياة للقلوب ، وسكينة للنفوس، وشفاء لما في الصدور، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر ،لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر ،حتى مر بآية وهو محتاجا إليها في شفاء قلبه كررها ، ولو مائة مرة ولو ليلة ، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب ،وأدعى إلى حصول الإيمان ، وذوق حلاوة القرآن ،وهذه كانت عادة السلف: يردد أحدهم الآية إلى الصباح ،وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ المائدة :118] فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب “.
الدعاء