خطبة عن (حرمة وخطورة الاعتراض على شرع الله وأحكامه)
فبراير 10, 2018خطبة عن الصحابي: ( رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ )
فبراير 10, 2018الخطبة الأولى ( وقفات وتأملات في سورة البروج )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] ،ويقول سبحانه: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، وقال تعالى : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) البروج
إخوة الإسلام
لقد أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ وتعالى أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، وأن نفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، فالمتدبر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله ، وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر، وكان لها أثر في سلوك الإنسان، ولهذا لمَّا سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد (قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) ، فكان صلى الله عليه وسلم يتمثل القرآن منهجاً لحياته قراءةً وتدبراً وتطبيقاً، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة”. وقال الامام علي بن أبي طالب: “لا خير في قراءة لا تدبر معها”.وقال ابن مسعود: “إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط حرفاً وقد أسقط العمل به”
أيها السلمون
وموعدنا اليوم -إن شاء الله- مع وقفات وتأملات مع (سورة البروج ) ، فقد أنزل الله القرآن شفاء لما في الصدورِ، وتسليةً للمؤمنين، وتهديداً ووعيداً للكافرين، ومن وقفَ مع آياتِهِ وسورِهِ تبينَ لهُ كيفَ واسى اللهُ -عزَّ وجلَّ- نبيَهُ محمداً – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – فيما مرَّ بهِ من الشدةِ والبلاءِ، وكيفَ كانَ ينزلُ هذا القرآنُ العظيمُ تسليةً وتثبيتاً لقلبِهِ ولقلوبِ المؤمنين ، قال الله تعالى : (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) الفرقان(32) ، وعندما يكونُ النبيُّ – صلى اللهُ عليهِ وسلمَ – في الشدةِ والضيقِ والحصارِ الشديدِ، يأتيهِ جبريلُ –عليهِ السلامُ- بتلكَ الآياتِ من ربِّ الأرضِ والسموات، فتكونُ بلسماً لجروحِهِ، وماءً زلالاً يروي عطشَهُ ،وبشارةً في وقتِ شدتِهِ وعسرِهِ. يأتيهِ هذا القرآنُ في مواقفٍ يشتدُ فيها ضيقُهُ وحزنُهُ، ويضيقُ فيها صدره وصدورُ أصحابِهِ وحزبِهِ، فيأتيهمُ القرآنُ شفاءً ورحمةً وبشارةً وتسليةً، فيهِ الوعدُ لهم ،وفيهِ الوعيدُ لأعدائهم، وفيهِ التذكيرُ بحالِ من سبقهم، ليزولَ بهِ الألمُ، ويذهبَ بهِ الهمُ والغمُ، ويتفاءلَ المؤمنونَ بنصرِ اللهِ القريب.
واليوم إن شاء الله نقفُ مع سورةٍ من سورهِ العظامِ ،التي صورَّ اللهُ فيها حالَ الظالمينَ مع عبادِهِ المؤمنينَ، وما حدث لعبادِهِ من البلاءِ العظيمِ، وما وعدَهم من النصرِ، وتوعدَ أعداءَهم بالهلاكِ المبين، وذلك ما جاء في سورةِ البروجِ ، فسورةُ البروج هي سورة مكيةٌ نزلتْ على النبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وهو في مكةَ ، وقبلَ هجرتِهِ إلى المدينةِ، وفي تلكَ الظروفِ القاسيةِ، والأحوالِ العصيبةِ، والشدةِ المؤلمةِ، نزلت هذه السورة في وقتٍ كان فيه أعداءُ الدينِ من كفار قريش ومن حولهم يكيلونَ للنبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وأصحابه العذابَ كيلاً، ويذيقونهم من الشدةِ والبلاءِ ألواناً، ويتلذذونَ بتعذيبِ المؤمنينَ الصابرين ، ويفتخرونَ بتفننهم في السخرية بالنبيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلم- وأصحابه من المسلمينَ المستضعفين . فتنزلُ سورةُ البروج لترويَ لهم قصةً حدثت لعبادِ اللهِ الموحدينَ من قبلهم ، والذينَ كانوا بدينِ ربهم مستمسكينَ، وعلى هديهِ وصراطهِ سائرينَ، فيقفُ لهم أعداؤُهم بالمرصادِ، يكيلونَ لهم العذابَ، ويضرمونَ لهم النيرانَ ، ويقذفون بهم في الأخدود . فدعونا نبحرُ مع هذهِ السورةِ العظيمةِ المسليةِ للمسلمين المعذبين في كل زمان ومكان ، والمبشرةِ لهم بنصرٍ قادمٍ، ووعيدٍ للكفارِ بعذاب مؤلمٍ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة. يقول الله تعالى : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)) من سورة البروج ،فقد افتتحَ الله عزَّ وجلَّ هذهِ السورة بهذا القسمِ، وما يقولُهُ عزَّ وجلَّ حقٌ بلا قسمٍ، ولكنهُ تأكيدٌ وجزمٌ بما أقسمَ عليهِ — بأنهُ حاصلٌ لا محالةَ، وكائنٌ بلا هوادةَ ، فأقسمَ سبحانه وتعالى : (بالسماءِ ) وما لها من البروجِ، والتي تتنقلُ فيها الأفلاكُ والنجومُ، والمنازل المشتملة على منازل الشمس والقمر، والكواكب المنتظمة في سيرها، على أكمل ترتيب ونظام ، وهذا كله دال على كمال قدرة الله تعالى ورحمته، وسعة علمه وحكمته. وأقسمَ سبحانه وتعالى : (باليومِ الموعودِ) الذي ينتظرُ أولئك الكافرينَ، وينتظرُهُ أولئكَ المؤمنونَ، ذلك اليومُ الذي فيهِ الجزاءُ وفيهِ الحسابُ، اليومُ الذي يلقى فيه كلُّ كافرٍ وكلُّ ظالمٍ ما قدمت يداه ، ويجدُ فيهِ المؤمنونَ الصابرونَ جزاءَ صبرهم ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر 10 ، فويلٌ للكافرينَ من ذلكَ اليومِ وشدتِهِ، وانتظروا أيها المؤمنونَ المكافئةَ في ذلك اليومِ وفرحتَه. ثم أقسمَ اللهُ تعالى بكلِّ (شاهدٍ ومشهودٍ) في الدنيا وفي الآخرةِ، ومن ذلكَ شهادةُ أعضاءِ بني آدمَ عليهم بما جَنَتْهُ أيديهم، وكذا شهادة الأنبياء والصالحين ، . فكيفَ بكم -أيها الظالمونَ المعتدونَ الغاصبونَ- يومَ تشهدُ عليكم جوارحكم التي عذبتم بها المؤمنين، وقتلتم وحرقتم بها عباد الله الموحدين، وحاصرتم بها عباد الله الصادقين، وسجنتم واعتقلتم من المؤمنين من تمسك بدينه وأبى الركون إلى الظالمين . ثم يقول الله سبحانه: ( قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) من سورة البروج ،وقد قيل في تفسيرها : أن هذا هو جواب القسم ، وهو الدعاء عليهم بالقتل واللعن ،والطرد من رحمة أرحم الراحمين، والمعنى : أي : لُعن أولئك الذين حفروا الأخاديد، وأوقدوا فيها النيران، ثم قعدوا على شفيرها ، يتلذذون بتعذيب المؤمنين، ويتشفون بصراخ أولئك المعذبين، ويسخرون من أولئك المحاصرين بالنيران ، قد نُزعت من قلوبهم الرحمة، ومُلأت ظلمة وقسوة، فهم شاهدون مشاهدون لتلك الأفعال الإجرامية المؤلمة، التي لا تصدر إلا ممن مسخ الله قلبه، ونزع الرحمة من فؤاده، وتمكن الظلم والكبر والجبروت منه، فأين الإنسانية من هؤلاء وهم ينظرون إلى عباد الله يتعذبون في النار، ويحترقون في اللهب، ويصرخون من شدة الألم؟ وأين الرحمة؟ وأين الإنسانية عند أولئك الذي ينظرون إلى بشر مثلهم يتضورون جوعاً، ويبكون دماً، ويموتون عطشاً، وأين الرحمة؟ وأين الإنسانية، عند من يهدم البيوت على سكانها ، ويخطف الرجال من بين صغارهم ويزج بهم في غياهب المعتقلات والسجون ؟ فكم في هذه القصة من التسلية للمؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الزمن الذي نعيشه ، فهم قوم عادوا أولياء الله، وتسلطوا على عباد الله ،فأرادوا أن يصدوهم عن دين الله ، فأبوا إلا الثبات على هذا الدين ،والالتزام بهذا الطريق القويم ،ثم يقول سبحانه وتعالى : (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، فلم يكن لهم ذنب إلا الإيمان بالله ، ولم تكن لهم خطيئة إلا الالتزام بهذا الدين العظيم، وهكذا هو حال المؤمنين الموحدين منذ عهد نوح عليه السلام ، أن يَنْصِبَ لهم الكفارُ العداء، إذا رأوا منهم التوحيد الصادق، والثبات والتمسك بالدين ، فإن من سلك هذا الطريق المستقيم ، وجب عليه الصبر والثبات، فإنه لا بد أن يمتحن، ولا بد أن يختبر، ولا بد أن يلقى من أعداء الله ما يلقى، ولا بد أن يجد منهم ما يجد ،قال الله تعالى في محكم آياته : (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) العنكبوت (1) :(6) . فلما رأى الظالمون المؤمنين على هذا الإصرار والثبات على هذا الدين، حفروا لهم الأخاديد في الأرض، ثم أضرموا فيها النيران العظيمة، ليقذفوهم فيها بلا رحمة ،ولا هوادة ولا شفقة، يقذفونهم في تلك النار ،ليحترقوا أمامهم ،ويستمتعوا بصراخهم، ويتلذذوا بمنظر التهاب النار في أجسامهم ، كل ذلك لا لشيء ، إلا أنهم آمنوا بالله العظيم .
أيها المسلمون
وهكذا هم الظالمون والكافرون والمعتدون على مر السنين، فهم يتلذذون بتعذيب المؤمنين، فأولئك كفار قريش كانوا يكيلون للمؤمنين بمكة ألواناً من العذاب والسخرية والاستهزاء، وهم يتلذذون بذلك، ويستشفون به، ويستمتعون بصراخ المساكين، واحتراق الجلود والأبدان، ورأينا في هذا الزمان أيضا من هم أشد فظاظة وتعذيبا للمؤمنين منهم، فعجباً لمن نزع الله الرحمة من قلبه ، أنى تأتيه رحمة ربه، وعجباً لمن يتلذذ بعذاب المؤمنين ، كيف يكون حاله عندما يقف بين يدي العزيز الجبار المنتقم في يوم تشيب لهوله الولدان . ولم يكن السبب لمثل هذه الأفعال الشنيعة إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له العزة والمنعة والقوة، وهو المحمود على كل حال ، فهو قادر على منعهم وإبادتهم ، ولكنها سنن الله في خلقه ، وليتخذ من المؤمنين شهداء وسكانا في جنات النعيم ، ويتخذ من المفسدين وقودا لنار الجحيم ، قال الله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (140) آل عمران ، فالله سبحانه وتعالى هو الغالب على أمره ، وهو العزيز صاحب العزة ،وسيعز من يشاء ، ويذل من يشاء، وهو المحمود على كل حال ، محمود في السراء، ومحمود في الضراء، والمنع والعطاء ، فالمؤمن إذا أصابه البلاء قال: الحمد لله على كل حال، وإذا أصابته السراء قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. فهو محمود على كل حال، وفي كل مقام، فله الحمد على السراء، وله الحمد على الضراء، وله الحمد على البلاء، وله الحمد في المنع والعطاء. ثم قال الله سبحانه وتعالى واصفاً ملكه وعظمته : ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ،أي : هو سبحانه له الملك التام، والسلطان الكامل، فكل ما في السموات وما في الأرض ملك له ، وهو شهيد على كل ما يحصل في ملكه، وما يكون في سلطانه، ومن جملة ذلك ما يفعل هؤلاء الكفار بعباده المؤمنين من العذاب والقتل والتدمير والترويع والإذلال، كل ذلك يشاهده ويعلمه، وسيجازي الصابرين أحسن الجزاء، وسيعذب المجرمين الظالمين أشد العذاب. وكم في هذا من تسلية للمؤمنين الموحدين، أن ربهم وخالقهم ومليكهم الذي من أجل دينه يعذبون، ومن أجل توحيدهم إياه يسامون، ينظر إليهم ويراهم ولا يخفى عليه حالهم، فماذا ينتظرك من الجزاء إن كان من تُعذب فيه يراك وأنت تعذب! وكم في ذلك من التسلية والتصبير أن من تناضل من أجل دينه ، وهو يراك ويرى ما يحل بك! ثم قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ) ،ها هو الوعيد الشديد، وهذا هو التهديد العظيم، لأولئك الكفار المعتدين الظالمين، الذين فتنوا المؤمنين في دينهم، وآذوهم في توحيدهم، وحرقوهم وعذبوهم بسبب تمسكهم بعقيدتهم ، وكالوا لهم ألوانَا من العذاب ، ومع هذا فهو الرحيم بعباده يدعوهم إلى التوبة، ويعرض عليهم العودة، وهذا من حلمه وسعة رحمته، ولهذا يقول الحسن البصري : انظر إلى حلم الله : يحرقون أولياءه ، ثم يدعوهم إلى التوبة. ثم توعدهم الله بالعذاب الحق، الذي لا يساوي مع ما صنعوا بالمؤمنين في الدنيا شيئاً، ولا يعادله في شيء، إنه عذاب جنهم التي فضلت على تلك النار التي أوقدتموها للمؤمنين في الدنيا ،فضلت عليها بتسعة وستين جزاء، فانتظروا ذلك العذاب الذي يوافق ما فعلتم بالمؤمنين، قال تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا) (21) :(26) النبأ. فهو العذاب الذي ليس بعده عذاب، ولا أشد منه عذاب، ذلك العذاب وذلك الحريق الذي ينتظركم جزاء وفاقا لما صنعتم بأوليائه وما فعلتم بعباده. قال الشيخ محمد العثيمين : في هذه الآيات من العبر: أن الله قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم، وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة، فالمصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وقفات وتأملات في سورة البروج )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ثم بشر الله سبحانه وتعالى المؤمنين الموحدين بما ينسيهم ذلك الهوان، وذلك الذل وذلك العذاب، الذي لاقوه في سبيله، والذي صبروا عليه من أجله، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) ، فما أعظمه من جزاء ، وما أجمله من نعيم ، فهذا النعيم ينسى به المؤمنون كل شدة وتعذيب وقتل وتشريد واعتقال وسجون ، فقد روى مسلم في صحيحه (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ». فهنيئاً لكم أيها المؤمنون الصابرون المحتسبون تلك الجنان، وهنئاً لكم ذلك الفوز الكبير في تلك الدار، التي لا تزول ولا تتحول ولا تتغير، أنتم في نعيم مقيم، وفوز كبير، ستنسون ذلك العذاب، وستنسون تلك المرارة، وستبقون في هذا النعيم بقاء لا زوال بعده ولا تحول عنه. قال الله تعالى : (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (55) :(58) يس ، ثم جاء بعده بالوعيد الشديد، والتخويف الرهيب، للكفار والظالمين، والبشارة للمؤمنين بالركن الشديد، والناصر الحق المبين، فقال تعالى ذاكراً بعضاً من صفاته العليا وأسمائه الحسنى ، فقال تعالى : ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) من سورة البروج ، فهو سبحانه إذا أخذ الظالم لم يفلته ، فقد روى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِى لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ». ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود 102، فمهما اعتدى وظلم وتجبر الظالمون، ومهما كاد الكافرون، ومهما مكر الماكرون، فإن الله وراءهم بالمرصاد، وهو ذو البطش الشديد، وهو الذي يبدئ كل شيء ثم يعيده، وكل شيء منه وإليه، فهو الذي خلق الخلق وإليه سيعودون، وسيجازي الله المحسنين بالحسنى ، والكافرين بالعذاب الشديد. ثم بين سبحانه وتعالى لأولئك المضطهدين المظلومين أنه هو الغفور لجميع الذنوب، الساتر للعيوب، والمتجاوز عن السيئات، وهو الودود الذي يتودد إلى عباده المؤمنين ، وهو الذي يُـحِب ويُحَب، فهو يُحب الصالح من الأعمال، ويحب الصالح من الأشخاص، ويحب الأماكن، وكذلك يحبه عباده المؤمنون. فهنيئاً لمن نال محبته، وتقرب إليه بحبه، ومن كانت محبة الله في قلبه متمكنة، فقد هان عليه كل عذاب، وهانت عليه حتى نفسه، التي يقدمها في سبيل نيل محبته سبحانه ورضاه والثبات على دينه.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أعظم مخلوقاته وأعلاها شأنا، وهو عرشه الذي وسع السموات والأرض والكرسي، ففي صحيح ابن حبان قال صلى الله عليه وسلم (ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقا بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة )، فهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد ، فلا يعجزه شيء ،ولا يخشى شيئاً ،يفعل ما يشاء ،ويصنع ما يريد ، فإن شاء أهلك هؤلاء ، فلا راد لحكمه بل وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ،فلا يعجزه فعل شيء ،ولا يمنعه مما يشاء فعله شيء. ثم قال سبحانه وتعالى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) من سورة البروج ،وهكذا ذكّر الله سبحانه وتعالى عباده بحال أولئك الكفار الأوائل، الذي عتوا في الأرض وبغوا، وأفسدوا وتمادوا أين هم؟ وماذا حل بهم؟ لقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فها هو فرعون الذي ظلم عباد الله، وبغى في أرض الله، وتكبر وتجبر، كيف ،أهلكه الله بماء البحر؟ ثم نجّى الله بدنه ليكون عبرة لمن يعتبر، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ثم بيّن سبحانه وتعالى: أن هؤلاء الكافرين لا يزالون في تكذيبهم، وفي غيهم، وفي ظلمهم، ومن ظن أنهم تاركوا ذلك فقد ساء ظنه، فإن أهل الفساد مهما تعاقبت الأزمنة، وتتابعت العصور، لا يزالون في ظلمهم، وفي غيهم، وفي كفرهم، وفي حقدهم، وهذا هو حالهم وحال من كان على شاكلتهم ومثلهم. ثم بيّن سبحانه إحاطته بهم، وكونهم تحت تصرفه، وتحت تدبيره، فأين المهرب، والله من ورائهم محيط؟ وأين المفر؟ والله بما يعملون خبير؟ وأين النجاة والله على ما يفعلون شهيد؟ ثم يختم الله هذه السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وما حواه من الآيات البينات والذكر الحكيم ، والوعد المحقق، لمن ألقى السمع وهو شهيد، فقال تعالى :(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) من سورة البروج
الدعاء