خطبة عن (سورة الفاتحة: وقفات وتأملات)
أبريل 21, 2018خطبة عن (التنوع والتوازن والشمول في شخصية الرسول)
أبريل 21, 2018الخطبة الأولى ( وقفات وتأملات في سورة الفاتحة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته :﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] ،ويقول سبحانه: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]
إخوة الإسلام
لقد أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ وتعالى أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، وأن نفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، فالمتدبر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله ، وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر، وكان لها أثر في سلوك الإنسان، ومن سور القرآن الكريم ، والتي تتكرر على أسماعنا سبع عشرة مرة كل يوم في صلاتنا ، ونحن بحاجة ماسة إلى تدبرها ، ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة ، سورة الفاتحة، قَالَ الله تَعَالَى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (1) :(7) الفاتحة ، فسورةَ الفاتحة يقرؤها المسلم في صلاته بعدد ركعات الصَّلوات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: « لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ » ، وهذا إن دل فإنما يدلُّ على عظيم شأنها ، وجليل قدرها، وأنَّه ينبغي للمسلم أن يتأمَّل معانيها ، فلحكمةٍ بالغةٍ شرع الله تكرارها في الصَّلوات ،من بين سور القرآن ،وقد سمَّاها النَّبي صلَّى الله عليه وسَّلم: « فاتحة الكتاب » ؛ وذلك لأنَّها أوَّل ما يقرأ من القرآن الكريم ، ومن أسمائها أيضا ( أم القرآن) : لأنَّ معاني القرآن الكريم ترجع إلى هذه السُّورة ،فهي تشمل المعاني الكلِّية ،والمباني الأساسَّية ،التي يتكلَّم عنها القرآن. وهي :(السبع المثاني): وذلك لأنَّها سبع آيات تقرأ مرَّة بعد مرَّة. وهي (القرآن العظيم): ففي صحيح البخاري ، أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِى أُوتِيتُهُ » ، وهي سورة الحمد: لأنَّها بدأت بحمد الله عزَّ وجلَّ، وهي :الصلاة : كما سمَّاها الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي الذي رواه مسلم « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِى مَا سَأَلَ..) ، وفي هذه السُّورة ذكر الله عزَّ وجلَّ خمسةً من أسمائه الحسنى: الله – الربَّ – الرحمن – الرَّحيم – المالك. فحُق لمن قرأ هذه السورة المباركة بفهم ،وتدبر ،وامتثال، أن يمتلئ قلبه يقيناً وإيماناً ، وأن يكون عالماً راسخاً ، قد أكرمه الله بنور العلم واليقين، فهيا بنا نقرأ ونتدبر آيات هذه السورة ، ونستخرج منها اللآلئ والدرر ، ونتوقف قليلا عندها ،
فيبدأ قارئ هذه السورة بالِاسْتِعَاذَة : (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ،قال الله تعالى :{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } النحل : 98. والاستعاذة ليست من القرآن بالإجماع ، وإنما نذكرها طاعة لله تعالى ، واعتصاماً به ولجوء إليه ،أن يمنعنا من الشيطان الرجيم ،الذي يصرفنا عن تدبر ما نقرأ من كتاب الله الكريم ، فإن أعظم غاية المؤمن في هذه الحياة أن يستقيم على أمر الله ، ولا يمكن أن يستقيم على أمر الله ،إلا أن يكون متحرزاً من شرور الشيطان وجنوده من الإنس والجن ، فحين تقول الاستعاذة استشعر أنك تطلب التحرز من الله جل وعلا ، فإذا لجأت إلى الله أن يعيذك من الشيطان الرجيم ، ويعصمك منه ، كان هذا سبباً في حضور قلبك ، واستعداد نفسك ، فاعرف معنى هذه الكلمة ، واستشعر معناها .أما قوله تعالى : { بسم الله الرحمن الرحيم } فافتتاح القرآن بهذه الكلمة العظيمة التي هي من أعظم ما أنعم الله جل وعلا على عباده المؤمنين ، وهذا إقرار منك بأن الله عز وجل هو المعين لك في كل أمورك ، وأعظمها قراءة القرآن . وقولك { بِسْمِ اللَّهِ } تعني :أنا أتلو القرآن مستعيناً بكل اسم من أسماء الله الحسنى ، لأن أسماء الله جل وعلا كلها لمسمى واحد ، وهو الله سبحانه وتعالى ، ولكن لكل اسم منها يدل على صفة من صفاته ، تنـزهه وتقدسه ، فاسم الله هو أصل الأسماء ، والدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وحين تستحضر عند قولك :{ بسم الله } بعض الأسماء ، يفتح الله على قلبك أنواعاً من العبودية ،كلٌ مما يناسب حالك ومقصودك ، فإذا قلت :{ بسم الله } وأنت في كرب استحضرت أسماء الله التي فيها تفريج الكروب ، وإذا قلت :{ بسم الله } وأنت مغلوب استحضرت أسماء الله التي فيها النصر والتأييد، وإذا قلت :{ بسم الله } وأنت مذنب استحضرت أسماء الله التي فيها التوبة والعفو والغفران ، وإذا قلت : { بسم الله } وأنت محتاج استحضرت أسماء الله التي فيها الرزق والغنى .. وهكذا.. أما قوله تعالى : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ففيه دلالة على سعة رحمته ،وتقوية الرجاء في قلوب عباده ، وقد اختار الله سبحانه هذين الوصفين في البسملة التي يرددها المسلم في مختلف شؤونه وحالاته ، فالإنسان في سير حياته تشمله العناية الإلهية بالرحمة الشاملة ، ومن حكمة تكرار هذه الكلمة أننا نحتاج هذه الرحمة في كل طرفة عين ، وفي كل حال ومجال ، فمن خلال الرحمة يصدر ذلك كله عنه سبحانه ، فيرزق ، ويشفي ، ويدبر ، ويتوب ، ويغفر .. فالدخول من باب الرحمة ، يوصلك إلى مضمون سائر الصفات ، فهو يشفيك لأنه الرحيم ، ويعطيك لأنه الرحيم ، ويتوب عليك لأنه الرحيم ، ويرزقك لأنه الرحيم ، وينصرك لأنه الرحيم ، والبسملة آية من القرآن ولكنها منفصلة من السور ،ونزلت للفصل بين السور أيها المسلمون
أما قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى لعباده ، بالتوجه إليه بالحمد الكامل ،والثناء الشامل في كل صلاة ، فالحمد ثناء ،أثنى به الله تعالى على نفسه ، وقوله :{ لله } اللام للاختصاص والاستحقاق ، فالمستحق لهذا الحمد الخالص الشامل هو الله تعالى ، وفي الحديث :« اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ ) رواه أحمد وغيره واعلم أن القائل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } في هذا الموضع هو الله تبارك وتعالى ، ولا شيء من الكلام المجمل أكبر وأشمل وأعلى من هذه الكلمة ؛ فكل صفة عليا ،واسم حسن ،وثناء جميل، بل وكل حمد ،ومدح ،وتسبيح ،وتنزيه ،وتقديس ،وإجلال ،وإكرام ،فهو لله عز وجل ،على أكمل الوجوه وأتمها ، وأدومها، وجميع ما يوصف به سبحانه وتعالى ، ويذكر به، ويخبر عنه به ، فهو محامد له ،وثناء ،وتسبيح ، وتقديس ،وكلمة (الْحَمْدُ) معناها : الإخبار بمحاسن المحمود ، مع حبه وإجلاله وتعظيمه ، فهو الواحد الذي لا شريك له في ربوبيته ، ولا في إلهيته، ولا مثيل له في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله، وليس له من يشركه في ذرة من ذرات ملكه، أو يخلفه في تدبير خلقه، أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه، واعلم أن أعظم كلمة ترددها في حياتك ،وتهنأ بها نفسك ، هي كلمة : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، وهي أحق كلمة قالها العباد ، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة فهو المستحق له سبحانه ، وجميع أنواع الحمد هي له لا لغيره ، فسبحانه وبحمده، لا نحصي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه . وقول : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } هو الشعور الذي يجب أن يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله ، بل إن وجود هذا الشعور في قلب المؤمن هو من فيوض النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء ، فتفاصيل حمده سبحانه وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار ولا تحصيها الأقلام ، فهو المستحق للحمد كله في جميع الأوقات ، وبعدد اللحظات ، وكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض ، الأولين والآخرين ، إخبار عن ما يستحقه من الحمد ، لا عما يقوله العبد من الحمد . واستحضار المؤمن لمعنى كلمة { الْحَمْدُ لِلَّهِ } أثناء قراءتها في الصلاة أو خارجها ، يفتح للعبد أبواباً من محبة الله ،وتمجيده ،وتعظيمه ،وحسن الثناء عليه ، ويفيض على قلبه أنواعاً من العلم ، والمحبة ، وحسن الظن بالله ، والتوكل على الله عز وجل ، ويفتح له من العبادات القلبية التي لا يعلمها إلا الله ، ويحس بها من عاشها وعرفها ، فهو يستحضر حين يقرأ هذه الكلمة الأسماء العظيمة التي لله جل وعلا وآثارها على نفسه . وفي قوله تعالى :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } جاء تقديم وصفه بالألوهية على وصفه بالربوبية ، فلم يقل جل وعلا : الحمد لرب العالمين ، بل قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ } ، للتذكير بأعظم نعمة أنعمها عليك وهي نعمة العبودية ، فالله هو المألوه المعبود الذي تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً إليه في الحوائج والنوائب ، فإن من أعظم نعم الله عليك أن جعلك عبداً له خاصة ، ولم يجعلك منقسماً بين شركاء متشاكسين، ولم يجعلك عبداً لإله غيره ، لا يسمع صوتك ، ولا يبصر أفعالك، ولا يعلم أحوالك، ولا يملك لك ضراً ولا نفعاً ، ولا وموتاً ولا حياةً ، ولا نشوراً، ولا تُرفع إليه الأيدي ، ولا يصعد إليه الكلم الطيب، ولا يُرفع إليه العمل الصالح ، فله الحمد أعظم حمد وأتمه وأكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى .
وكلمة ( الحمد ) مفتاح المعارف الاعتقادية ، وتأتي كنتيجة قلبية بعد التعرف على الله من خلال تدبر الألفاظ التي نكررها ، فتكرار السورة في كل ركعة يجعل المتدبر قادراً على استشعار الحمد في مختلف الحالات والظروف التي تمر به في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في العز والذل ، فالمؤمن يعيش حالة دائمة من الحمد لله عز وجل مردها اليقين والرضا بأمر الله ، بل يصل إلى شكر الخالق على قضائه وقدره ليقينه أن كل ما يقضي به خالقه هو خير له . وفي سنن ابن ماجة : (عَنْ أَنَسٍ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ . إِلاَّ كَانَ الَّذِى أَعْطَاهُ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ ». ولا يكون حامداً لله من جهل صفات المحمود ، ولا يمكن أن يكون حامداً لله كل الحمد إذا لم يعرف نعم الله عليه ويعترف بها ، وإن قال ذلك بلسانه ، فلفظ الحمد يلفظه كل أحد ، ولكن لفظ القلب لا يتأتى إلا للقلب المعمور بحبه ومعرفته ، فمجرد الادعاء لا يعبّر عن الحقيقة ، فالحمد كلمة يقولها القلب قبل اللسان ،لتنعكس على الجوارح ، فتخضع لله شكراً وسلوكاً وعملاً . أما قوله تعالى : { رَبِّ العَالَمِينَ } فهذا تأكيد لاستحقاقه سبحانه وتعالى كل الحمد ، فكل خير ونعمة في العالمين فهي من عنده سبحانه وتعالى ؛ وكل خلق وإبداع فهو راجع إليه سبحانه وتعالى ، فهو رب كل شيء وخالقه ، ولا يخرج شيء عن ربوبيته ، وهو المالك المتصرف في هذا الكون بأجمعه ، وكل من في السموات والأرض عبدٌ له ، وفي قبضته ، وهو سبحانه وتعالى مربي جميع العالمين بخلقه إياهم ، وإنعامه عليهم ، وتدبير أمورهم ، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم ، وقد جاء وصفه بالربوبية بعد وصفه بالألوهية ، وذلك إقرار باستحقاقه جل وعلا كل أنواع وأجناس الحمد والثناء والمدح . أما قوله تعالى : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فهو الذي وسعت رحمته جميع الخلق ، وهو الموصوف بالرحمة مع كمال قوته وقهره ،وكمال غناه وعزته ، فهو أرحم بعباده من الأم بولدها ، فرحمة والديك بك مهما بلغت فهي جزءٌ من المائة جزءٍ التي خلقها اللَّه ، فكيف برحمته الواسعة جل جلاله وتقدست أسماؤه ؟! فلو جُمعت رحمة الخلق كلهم لكانت رحمة الله أشد وأعظم وأبقى وأجل ، ففي الصحيحين واللفظ لمسلم (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْي تَبْتَغِى إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْى أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ». قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ». وفي مجيء { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } بعد { رَبِّ العَالَمِينَ } بيان أن شمول الربوبية لا يخرج شيء منها عن شمول الرحمة وسعتها ، فاستحضر وأنت تردد { رَبِّ العَالَمِينَ } معاني ربوبيته وآثارها في الخلق ، فإن استحضارها يجعل القلب يلين تعظيماً لله , وثناءً عليه وإجلالاً له ومحبة ، واستشعر وأنت تقرأ { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } أن الله أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك ، وأن الرحمة الحقيقية هي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد ، وإن كرهتها نفسه وكلما كنت أعرف بمعنى هذين الاسمين كنت أرضى بقضاء الرب سبحانه وتعالى، وعلمت أن قضاء الله عز وجل دائر بين العدل ، والحكمة والرحمة ، كما قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور : (اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ) رواه أحمد وصححه الألباني . ،فشهودك نعمة الله عليك في كل شيء حتى في المكروه ،يجعلك تتيقن أن كل ما في العالم من محنة وبلية ،وألم ومشقة، فهو وإن كان عذاباً وألماً في الظاهر ، إلا أنه لحكمة ورحمة في الحقيقة.
أيها المسلمون
إن شعور العبد بمعية الله وصحبته ، وهو يردد تلك الكلمات في كل صلاة ،بل في كل ركعة ،يجعله في أنس دائم ، ونعيم موصول بقربه ، ويحس دائماً بالنور يغمر قلبه ، ولو أنه في ظلمة الليل البهيم ، ويشعر بالأنس يملأ عليه حياته ،وإن كان في وحشة من الخلطاء والمعاشرين ، وكيف لا ،وهو يردد كلمة الحمد على من ربَّاه ،وأحسن إليه ، وصرَّف أحواله ، ودبر أموره ، فلا يقلق إذا تعسر أمر ، ولا يحزن إذا فاته شيء ، فهو أرحم الراحمين ، بيده الرحمة ،التي لا يستطيع أحدٌ من خلقه أن يحجبها عنه، فيقينك بهذه الآيات سبب فوزك بنعيم الدنيا ،الذي هو سكينة القلب واطمئنان النفس ، فالعبد عندما يفوز بهذه المعرفة ،يسكن جنة الدنيا قبل جنة الآخرة ، لأنه لا يزال راضياً عن ربه ، والرضا ، كما قال أحد السلف جنة الدنيا ومستراح العارفين ، أما الجاهل برب العالمين ،الرحمن الرحيم ،فتراه جاحداً لنعمه ، منكراً لفضله ، ساخطاً من قضائه ، لأن من لم يعرف ربه ومعبوده ، لا يهنأ بعيش ، وكما قال ابن القيم : فقلب العبد لا يزال يهيم في أودية القلق وتعصف به رياح الاضطراب حتى يعرف ربه ومعبوده حق المعرفة ، كما أن { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } كلمة المؤمن يكررها في كل حال ومقال ، فإن الحمد يستمر مع المؤمن حتى بعد دخول الجنة ،كما قال تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يونس 10 .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وقفات وتأملات في سورة الفاتحة )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ثم نأتي إلى قوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ففيها تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر ، فكلمة { يَوْمِ الدِّينِ } تشير إلى يوم الجزاء ، ثواباً على الإحسان، وعقاباً على الإساءة ، فأنت تكرر في كل ركعة هذه الآية ،والتي تعني أن من أوصافه التي نثني عليه بها أنه مالك يوم الجزاء ،والذي يجازي فيه كل عامل بما عمل ، فيجازيك بحسب عملك ؛ فأنت السبب في كل ما يجري لك وعليك ، قال الله تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} الزلزلة (7) ،(8) . والاعتقاد بالحساب ، يجعلك تشعر بالمسؤولية عن التغيير في حياتك ، ولعل في تكرار هذه الآية في كل ركعة ،يجعل الإنسان يشعر بأنه مطالب ومحاسب ومسؤول عن كل ما يصدر عنه ، فإذا كان يعقل ما يقول ،فسيورثه ذلك خوفاً من ذلك اليوم الذي يحاسب الله عز وجل فيه الخلائق ، فهل استشعرنا أننا سنقف جميعاً في ذلك اليوم الذي يوفّي الله فيه كل نفس ما كسبت ؟! فكم نردد تلك الكلمات ولا نشعر بالرهبة . والله جل وعلا هو مالك كل الأيام ؛ وقد خص يوم الدين بإضافة الملك إليه لخطورته ، ولأنه ختام الأيام وثمرتها ولأنه يظهر فيه ملك الله كاملاً ، فكل الملكيات تزول وتتلاشى ، فلا يملك أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، ولا يملك أن يدفع عن نفسه ، ولا عن غيره ، ولن يكون قادراً على التصرف بماله، ولا بقوته ، ولا بمنصبه ، ولا بموقعه الاجتماعي ، أو السياسي ، ولا بلسانه ، ولا بيده ، ولا بغير ذلك ، فيوم الدين هو اليوم الذي يتجرد العباد من مناصبهم الدنيوية ومكانتهم الاجتماعية، فالكل سواء ، يحاسبون على ما قدموا من أعمال في حياتهم الدنيوية ، وقوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } من أعظم النعم المستوجبة للحمد فملكيته سبحانه ليوم الدين هي التي حمت الضعفاء والمظلومين والمحزونين ، فلمَ الهم ؟ ولم َ الحزن ؟ وأنت تعلم أن الله تعالى سيعوضك خيراً، وسيحاسب كل شخص على ظلمه وجبروته، ولا يظلم ربك أحداً. وبقوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } تُستكمل صفات العظمة والكمال ، فاستحقاق الحمد لصفاته جل وعلا كما هو لذاته ، فهو لأسمائه وصفاته ، فقد جاء الحمد والثناء له عز وجل في ذاته في كلمة : { لله} ثم جاء تأكيد الحمد له سبحانه في أوصاف عديدة له كقوله :{ رَبِّ العَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فبعد أن جاء الوصف برب العالمين ، عقَّب بصفتي الرحمن الرحيم للتعريف بعظمة رحمته ثم جاء وصف مالك يوم الدين للتنبيه على عموم التصرف في المخلوقات يوم الجزاء .
وفي هذه الآيات الثلاث مناجاة الله للعبد في الصلاة كما جاء في الحديث ، فإذا قرأ العبد : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } يقول الله : حمدني عبدي ، وإذا قرأ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يقول الله : أثنى علي عبدي ، وإذا قرأ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يقول الله : مجدني عبدي .. ، فهل نستشعر ذلك الحمد وذلك الثناء وذلك التمجيد حين نقرأ في صلواتنا ؟ وهل نستشعر ونستحضر جواب الله سبحانه لنا ؟ وفي هذه الآيات الثلاث ترغيب وترهيب : فالترغيب في قوله : { رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، والترهيب في قوله تعالى : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وهذا الذي يجب أن يسلكه كل طالب علم وكل داعية في الدعوة إلى الله ، وقد ظهر من كل ما تقدم ، ابتداءً من بسم الله ، وإلى قوله : يوم الدين : أن ربك تعرف إليك بأسمائه وصفاته، وتحبب إليك بنعمه وآلائه . قيل لابن عباس رضي الله عنهما : بم عرفت ربك ؟ فقال: عرفته بما عرَّف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه. فأنت تتعرف على الله كل يوم بل في كل صلاة ، بل في كل ركعة ، وقد بدأ سبحانه وتعالى في السورة بذكر ما يورث في العبد المحبة لله وهو ربوبيته جل وعلا وتربيته للعالمين في قوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ، وفي ذكر ما يبعث الرجاء في القلب في قوله : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، ثم ذكر ما يبعث الخوف في القلب بالتذكير بيوم الجزاء والحساب في قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } ، ليُعبد الله بهذه الثلاث : بمحبته ورجائه وخوفه ، وهذه الثلاث هي أركان العبادة . ونستكمل الحديث عن بقية الآيات في لقاء قادم إن شاء الله
الدعاء