خطبة عن (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)
فبراير 9, 2025خطبة عن (الْمُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ)
فبراير 11, 2025الخطبة الأولى (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى) (34)، (35) النازعات، وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (23)، (24) الفجر، وقال تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (39): (41) النجم، وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (6): (8) الزلزلة.
إخوة الإسلام
قوله تعالى: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى)، أي: يوم القيامة هو يوم تذكر الأعمال، فيتذكر ابن آدم جميع أعماله، خيرها وشرها، وحين تعرض عليه يتمنى الانسان الزيادة في الخير، ولو مثقال ذرة في حسناته، ويُغمه ويُحزنه زيادة مثقال ذرة في سيئاته، فمادة ربحه وخسارته هو سعيه في حياته الدنيا، وينقطع عنه كل سبب في الدنيا سوى الأعمال، ويوم القيامة يطلع الانسان على أعماله التي نسيها، ويراها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال تعالى: (وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف (49).
وقوله تعالى: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى)، يتذكر الانسان ويقرأ كتاب أعماله مكتوباً، ويقرأه هو بنفسه، قال الله تعالى : (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (13)، (14) الاسراء، فنحن اليوم قد نسينا ما عملنا، فقد عملنا أعمالاً كثيرة: منها الصالح، ومنها اللغو، ومنها السيئ، وعندما تعرض علينا صحف أعمالنا، فالمؤمن يستبشر ويفرح، وغير المؤمن يحزن ويغتم، قال تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (71) الاسراء، وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (18): (34) الحاقة، وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا) (7): (12) الانشقاق،
وفي سنن الترمذي: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا قَالَ «نَعَمْ قَالَ هَلْ تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ». قُلْنَا لاَ. قَالَ «كَذَلِكَ لاَ تَتَمَارَوْنَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ وَلاَ يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ رَجُلٌ إِلاَّ حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً حَتَّى يَقُولَ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ يَا فُلاَنُ ابْنَ فُلاَنٍ أَتَذْكُرُ يَوْمَ قُلْتَ كَذَا وَكَذَا فَيُذَكِّرُهُ بِبَعْضِ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَفَلَمْ تَغْفِرْ لِي فَيَقُولُ بَلَى فَبِسِعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ). وفي صحيح ابن حبان: (فيلقى العبد فيقول أي فل ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع قال فيقول بلى يا رب قال فظننت أنك ملاقي قال لا يا رب قال فاليوم انساك كما نسيتني قال ثم يلقى الثاني فيقول ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع قال فيقول بلى يا رب قال فظننت أنك ملاقي قال لا يا رب قال فاليوم أنساك كما نسيتني)
وأما قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} الفجر:23، فإن هول موقف الحساب وعظمته، يبعث في كل عامل ذكرى ما عمل، فيمر في خاطره شريط أعماله سريعا ،فيرجو أن يثيبه الله على الحسنات، ويتجاوز عن السيئات والزلات، فيتذكر الإنسان سعيه وعمله، ويندم أشد الندم، على ما مضى وما فرط فيه، يتذكر تقصيره في طاعة الله، ويندم على ما فرط في جنب الله، ويتمنى الرجوع، لعله يحسن ويتدارك ما فات، ويعمل صالحا فيما ترك، ويقدم لحياته الحقيقية الباقية، ولكن هيهات، وأنى له الرجوع، وأنى له الذكرى، فقد فات الأوان، وذهب الزمان، وانقضى الأجل، وختم العمل، وحانت ساعة الحساب، فكم أتاه النذير، وكم بلغته الحجج، وكم عُمر زمانا، يتذكر فيه من يتذكر، فغرته الأماني، وأهلكه التسويف، قال تعالى: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) الفجر (23)، (24).
أيها المسلمون
يُروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه كان يقول: (الناس في نوم فإذا ماتوا انتبهوا)؛ أي إذا خرجوا من هذه الدنيا، رأوا أهوالًا عظيمة، فكيف إذا جمعهم الله في ذلك اليوم العظيم، وقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (39): (41) النجم، فهذه الآيات تذكرنا بأهمية العمل والكفاح من أجل خير الدنيا، لتحصيل الرزق، وخير الآخرة بدخول الجنة، لذا، فما علينا إلا الكفاح، وعلى الله الفلاح والنجاح، فإنه ليس للإنسان إلا ما سعى في الحياة، لاشك في ذلك، لكن هل معنى ذلك أن نجلس في بيوتنا، ننتظر أن يأتينا الرزق ونحن جلوسًا؟، أم أنه علينا التحرك والسعي، لكسب القوت وتحقيق هدف الله في هذا الكون في إعمار الأرض؟، بالطبع ومن دون شك فالإنسان ملزم بالتحرك والعمل، فهو خلق ليسعي، قال تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) (39): (41) النجم، وقال تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (19) الاسراء، وقال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (205) البقرة،
ويوم القيامة يري الانسان نتيجة عمله، كما قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (105) التوبة، فسعيُ الإنسان في الدنيا معروض على ربه يوم القيامة, ليجازي كل محسن بإحسانه، وكل مسيء بما قدمت يداه, وإليه سبحانه ترجع الخلائق بأعمالهم, وتنتهي إليه كل الأحداث، فيجازى كل انسان على ما قدم، فإذا أيقن العبد بذلك، فعليه من الآن أن يعد العدة، ويستعد لهذا اليوم العظيم، قال الفضيلُ بنُ عياض لرجلٍ: (كم أتت عليك؟، قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك، يُوشِكُ أنْ تَبلُغَ، فقال الرجل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فقال الفضيلُ: أتعرف تفسيرَه، تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد ،وأنَّه إليه راجع، فليعلم أنَّه موقوفٌ، ومن علم أنَّه موقوف، فليعلم أنَّه مسؤول، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلةُ؟، قال: يسيرة، قال: ما هي؟، قال :تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى، فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي).
فهيا أُخي: أقِبلْ على قِبْلَةِ التوجُّه إلى مولاك، وأعرِض عَنْ مواصلة غِيِّك وهواك، وواصل بقيَّة العمر بوظائف الطَّاعات، واصبِر على ترك عاجلِ الشَّهوات، فالفرارَ أيها المكلَّفُ كلَّ الفرارِ، من مواصلة الجرائم والأوزارِ، فالصَّبرُ على الطَّاعة في الدنيا، أيسرُ مِنَ الصَّبرِ على النَّار، قال بعض الحكماء: من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإن لم يسر، فيا من كلما طال عمره زاد ذنبه، ويا من كلما أبيض شعره بمرور الأيام، أسود بالآثام قلبه، ويا من تمر عليه سنة بعد سنة، وهو مستثقل في نوم الغفلة والسنة، ويا من يأتي عليه عام بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا فعام، ويا من يشهد الآيات والعبر، كلما توالت عليه الأعوام والشهور، ويسمع الآيات والسور، ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور، فك عنك قيود الغفلة، واكسر حواجز الشهوات، وانتبه لما هو آت، قبل أن يفاجئك الرحيل، وهناك، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والمسلم لا بد له من أن يحاسب نفسه على أقواله وأفعاله، في سفرة وحضره، ويحاسبها على العمل، سواء كان الأمر يتعلق بالدين أو الدنيا، أو كان يتعلق به في خاصته، أو يتعلق بغيرة من إخوانه، فإن ذلك هو أسلم الطرق للنجاة من النار، ومن شدة المحاسبة في الآخرة ،والمحاسبة: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعاله نهاره، فإن كان محمودا أمضاه ،وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموما استدراكه إن أمكن، وإن لم يمكن فيتبعها بالحسنات لتكفيرها، وينتهي عن مثلها في المستقبل، فلا نجاة للعبد إلا بالمحاسبة، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة:6]، والمحاسبة تصدر من التأمل في هذه النصوص: قال الله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ (6): (8) الزلزلة.
والمحاسبة انطلاقا من آثار قوله تعالى: ﴿يوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران:30]. والمحاسبة تنطلق من الإيمان باليوم الآخر، وأن الله يحاسب فيه الخلائق، وقد حذرنا الله من ذلك اليوم، فقال سبحانه وتعالي: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281].
ومحاسبة النفس: طريقة المؤمنين، وسمة الموحدين، وعنوان الخاشعين، فالمؤمن متق لربه، محاسب لنفسه مستغفر لذنبه، يعلم أن النفس خطرها عظيم، وداؤها وخيم، ومكرها كبير، وشرها مستطير، فهي أمارة بالسوء، ميالة إلى الهوى، داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك، تواقة إلى اللهو إلا من رحم الله، فلا تُترك لهواها، لأنها داعية إلى الطغيان، من أطاعها قادته إلى القبائح ،ودعته إلى الرذائل، وخاضت به المكاره… وغوائلها عجيبة، ونزعاتها مخيفة وشرورها كثيرة، فمن ترك سلطان النفس حتى طغى، فإن له يوم القيامة مأوي من جحيم، قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات 37: 39] (وعلى النقيض من ذلك)، قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات40،41]، وقد أمرنا الله تعالى بالمحاسبة ،كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر18]، تنظر: أي تفكر و تتفكر، يقول السعدي (هذه الآية الكريمة: هي أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى ذنبا، تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح منه ،والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر الله، بذل جهده، واستعان بربه في تتميمه وتكميله وإتقانه،
الدعاء