خطبة عن (من بشريات الرسول لأصحابه)
ديسمبر 31, 2023خطبة عن (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)
يناير 3, 2024الخطبة الأولى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (139) آل عمران، وقال تعالى: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (35) محمد
إخوة الإسلام
موعدنا اليوم إن شاء الله تعالى مع هذه الآيات من كتاب الله العزيز، نتلوها، ونتدبرها، ونتفهم معانيها ومراميها، ونرتوي من نبعها الصافي ورحيقها المختوم، وبداية: فقد نال المشركون في معركة أحد من المسلمين، وأصابوا منهم جراحًا كثيرة، وقتلوا منهم عددًا تجاوز السبعين صحابيًا، وكسروا بعض أسنان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرحوا وجهه الكريم، وقد تأثر المسلمون بما أسفرت عنه نتائج تلك المعركة، وظنوا أن النصر لم يعد يعرف طريقهم، فبين لهم الله سبحانه وتعالى أن النصر والهزيمة، يخضعان لقوانين لا تتخلف، وسنن لا تتبدل، كما في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (آل عمران:137)، وقد كان نيل المشركين من المسلمين بسبب مخالفة بعض الرماة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليهم قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (139) آل عمران، وقد جاءت هذه الآية لتخفف عن المسلمين ما نزل بهم، وتطلب منهم أن لا يستسلموا للضعف والهزيمة، ولا ييأسوا من نصر الله، بل عليهم أن يواجهوا الموقف بقوة وصلابة، ورباطة جأش؛ وذلك لأن مكانتهم في الدنيا والآخرة أسمى وأرفع من مكانة أهل الكفر والضلال. وجاءت هذه الآية لتعزية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحثًا لهم على قتال عدوهم، ووعدًا لهم بالنصر والظفر عليهم. كما روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أقبل خالد بن الوليد – وكان ذلك قبل أن يسلم – يريد أن يعلو عليهم الجبل – جبل أحد – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا يعلون علينا)، فأنزل الله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (139) آل عمران. وقال الإمام القرطبي في تفسيره: “فلم يخرجوا بعد ذلك عسكرًا، إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كل عسكر كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيه واحد من الصحابة كان الظفر لهم، وهذه البلدان كلها إنما افتتحت على عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (139) آل عمران، فيه بيان لسنة الله تعالى في المدافعة بين الكفر والإيمان، والحق والباطل، وأن العاقبة للمتقين، والخزي والسوء نازل بالكافرين، وإن كان ظاهر الأمر في فترة من الفترات يدل على خلاف ذلك، فإنما هو من باب الاستدراج للكافرين، والابتلاء للمؤمنين، فإن للباطل جولة، ثم لا يلبث أن يندحر، وينهزم، ويبوء بالفشل والخذلان، وهذا ما تؤكده وقائع التاريخ الماضي والحديث. وعلى المسلمين اليوم أن يعوا الدرس من يوم أحد، وأن يتعلموا قوانين الله تعالى في خلقه، فهي جارية لا تتخلف، وباقية لا تتبدل، وأن الأمور لا تمضي جزافًا، وإنما تتبع قوانين محددة، وسننًا ثابتة، فإذا هم درسوها، وأدركوا معانيها، وعملوا بمقتضاها، كان النصر حليفهم، والتوفيق قائدهم؛ ومن أهم تلك السنن: أن النصر دائمًا يكون حليفًا لمن يقيم شرع الله، ويعمل بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (139) آل عمران، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور:54).
وقوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا) يدل على أن المؤمن لا يصح بحال من الأحوال أن يكون متصفًا بالهوان ولا بالذلة لعدوه، وأن أهل الإيمان لا يمكن أن يتفق حالهم وإيمانهم مع الذل والمهانة، فأهل الإيمان لا يصح لهم المهانة ولا الحزن، أيًّا كانوا، وفي أي مكان، أو في أي زمان، أو على أي حال، حتى في حال الهزيمة والانكسار والتراجع، فإنهم أعزة، والمتدبر لقوله تعالى: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) فهي قد جاءت مطلقة، أي: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) على أهل المِلل جميعًا، وعلى الكفار على اختلاف مذاهبهم وآرائهم وأديانهم ونِحلهم، وقوله تعالى: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين) فقد علق هذا العلو بالإيمان، قال ابن القيم: (يكون للعبد من العلو بحسب ما يكون معه من الإيمان)، وهذا العلو يشمل العلو في الدنيا، ويشمل العلو في الآخرة، ولا شك أن أهل الإيمان هم الأعلون فيما يُدافعون عنه، فهم على الحق، ويُدافعون عن الحق والفضيلة، وأولئك على الباطل، ويُدافعون عن الرذيلة والكفر والشر والمنكر والفساد، وهم حزب الشيطان، فأهل الإيمان أعلون فقتالهم لله، وفي الله، وأما هؤلاء الكفار فهم يقاتلون في سبيل الشيطان، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء:76]، فلا ينبغي لأهل الإيمان أن يوادعوا العدو، إذا كانوا أعزة وأقوياء،
وقوله تعالى: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين): فعلو هذه الأمة مشروط بالإيمان، وليست هِبة مجردة، وإنما إذا تحلت بالإيمان، فإذا تخلت عن حصونها الحقيقية، ومصدر قوتها الذي يحاول الأعداء أن يُفككوه من أجل أن تتخلى عنه الأمة، ثم بعد ذلك يكون الطريق مُشرعًا إلى أخذ ما بأيديهم، والاستحواذ عليهم وهزيمتهم، وأقوى هذه الحصون قبل السلاح والعتاد وكثرة العدد هو (الإيمان)، فإذا حافظت الأمة على إيمانها، الذي هو مصدر قوتها الحقيقية، فهذا أعظم الحصون الذي يكون لها به الحماية، ويحصل بسببه النصر والتمكين والتأييد الإلهي، قال الله تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ) [آل عمران:160]
وفي مثل هذه الأوقات التي نعيشها، والتي اجتمع على الأمة الأعداء من كل ناحية، فمهما كانت إخفاقاتها في جميع الميادين العسكرية، والاقتصادية، والحضارية، إلا أن المسلمين هم الأعلون، والعدو يعرف ذلك جيدًا؛ ولذلك انظروا إلى كثرة الحديث عن قضايا تتصل بارتباط هذه الأمة بدينها، تحت أسماء كثيرة، يحاربون الإسلام، ويحاولون تفكيك هذا الارتباط، من أجل أن تبقى الأمة أمة ضعيفة ضائعة، مُضيعة لأخلاقها ومبادئها ودينها، وتكون بحال لا تملك قوة مادية ولا قوة إيمانية،
وفي قوله تعالى: (وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين): فتحقيق الإيمان سبيل لتحقيق النصر والتمكين، قال الله سبحانه: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْـمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141]، وقال وتعالى: ﴿ إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحج: 38]، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 19]، فالله سبحانه مع المؤمنين بالنصر والتأييد، وقد وعدهم بالدفاع عنهم، وضمِن لهم إن حقَّقوا الإيمان اعتقادًا وقولًا وعملًا ألَّا يجعل للكافرين عليهم سبيلًا مستمرة في كل حين، قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]، وقوله سبحانه: ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 22، 23]. قال ابن تيمية رحمه الله: “سُنة الله وعادته في نصر عباده المؤمنين إذا قاموا بالواجب على الكافرين، وانتقامه وعقوبته للكافرين الذين بلغتهم الرسل بعذابٍ من عنده، أو بأيدي المؤمنين، هي سُنة الله التي لا توجد منتقضة قط”؛
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
فإذا حقق المؤمنون الإيمانَ والعمل الصالح في أي زمان ومكان، فتمسكوا بالقرآن والسنة، وأطاعوا الله ورسوله، فإنه يرحمهم، وينصرهم الله على أعدائهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]، وقال عز وجل: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132]، وفي سنن ابن ماجه: (عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».
وإن حصل للمسلمين انهزامٌ في بعض المواطن أو الأزمان فهو من عند أنفسهم، بذنوبهم ومخالفتهم ما أمرهم الله ورسوله؛ كما قال سبحانه للصحابة في غزوة أحد: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: 165]، فالله لا يجامل أحدًا، فمن وفَّى بما أمره الله وفَّاه الله ما وعده؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ (40) البقرة .
الدعاء