خطبة عن (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)
ديسمبر 21, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (36)، (37) النجم، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:١٢٠-١٢١]. وَفي صحيح مسلم: (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ»
إخوة الإسلام
نَقِفُ الْيَوْمَ- إن شاء الله تعالى- وقفة تأمل وتدبر، مَعَ مَدْرَسَةٍ إِيمَانِيَّةٍ كُبْرَى، وَشَخْصِيَّةٍ محورية عَظِيمَةٍ، جَعَلَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً، إِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو الْأَنْبِيَاءِ: إِبْرَاهِيمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ).
وَحِينَمَا نَقْرَأُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} النجم:37، فَإِنَّنَا أَمَامَ لَفْظٍ مُعْجِزٍ، يَخْتَصِرُ رِحْلَةَ حَيَاةٍ كَامِلَةٍ، بَيْنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِثَالِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ وَالتَّنْفِيذِ.
فتَأَمَّلُوا معي فِي هَذَا الِاتِّصَافِ الرَّبَّانِيِّ لِإِبْرَاهِيمَ: {الَّذِي وَفَّى}، لَقَدْ وَفَّى إِبْرَاهِيمُ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ، فَوَقَفَ صَامِداً أَمَامَ قَوْمِهِ، وَأَبِيهِ، وَمَلِكِ زَمَانِهِ، لَا يَخْشَى فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، ووَفَّى حِينَمَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَكَانَ لِسَانُ حَالِهِ وَمقَالِهِ: “حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ”، فَقَلَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ بَرْداً وَسَلَاماً، ووَفَّى حِينَمَا أُمِرَ أَنْ يَتْرُكَ ذُرِّيَّتَهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، عِنْدَ بَيْتِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، لَا زَادَ فِيهِ وَلَا مَاءَ، فحينما سُئل: (آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟) قَالَ بِيَقِينِ الْخَلِيلِ: نَعَمْ. فقَالت هاجر: (إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا). إِنَّ هَذَا التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ هُوَ جَوْهَرُ التَّوْفِيَةِ الَّتِي مَدَحَهُ اللَّهُ بِهَا.
﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾: هي آية واحدة، لخصت سيرة نبي، ومسيرة أمة، وطريق إيمان: فمن معاني (وفّى): أي أتمّ، وأكمل، وصدق، ولم ينقص، ولم يلتفت، ولم يتراجع، فنبي الله إبراهيم (عَلَيْهِ السَّلَامُ): وفّى مع الله في العقيدة، ووفّى مع الله في الطاعة، ووفّى مع الله في البلاء، ووفّى مع الله في العطاء والمنع.
(وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى): وإِنَّ أَعْظَمَ مَشَاهِدِ التَّوْفِيَةِ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ظَهَرَتْ فِي ذَلِكَ الِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ، الَّذِي تَهْتَزُّ لَهُ الْجِبَالُ؛ ابْتِلَاءُ ذَبْحِ ابْنِهِ وَثَمَرَةِ فُؤَادِهِ إِسْمَاعِيلَ، فلَمْ يَكُنْ أَمْراً مُبَاشِراً بِلِسَانِ الْوَحْيِ، بَلْ كَانَ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ، فَمَاذَا فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ؟، لَمْ يَبْحَثْ عَنْ أَعْذَارٍ، وَلَمْ يُؤَجِّلِ التَّنْفِيذَ، بَلْ عَرَضَ الْأَمْرَ عَلَى ابْنِهِ، لِيَكُونَ أَدْعَى لِلطَّاعَةِ، وَكَانَ الْجَوَابُ الرَّائِعُ مِنَ الِابْنِ الْبَارِّ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}. فَلَمَّا تَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَجَاءَ الِامْتِثَالُ الْقَلْبِيُّ قَبْلَ الْحَرَكِيِّ، نَادَاهُ رَبُّهُ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}. هُنَا تَجَلَّتْ صِفَةُ “الَّذِي وَفَّى” فِي أَبْهَى صُوَرِهَا؛ حِينَمَا قَدَّمَ حُبَّ اللَّهِ عَلَى حُبِّ الْوَلَدِ، وَإِرَادَةَ اللَّهِ عَلَى إِرَادَةِ النَّفْسِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
لَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) “أُمَّةً” بِفِعْلِهِ وَصَبْرِهِ وَتَوْفِيَتِهِ، كَانَ قَانِتاً لِلَّهِ، أَيْ دَائِمَ الطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ، وَمِنْ تَوْفِيَتِهِ أَنَّهُ كَانَ شَاكِراً لِأَنْعُمِ اللَّهِ، حَتَّى فِي أَحْلَكِ الظُّرُوفِ، فَالشُّكْرُ عِنْدَ الْخَلِيلِ لَمْ يَكُنْ بِاللِّسَانِ فَحَسْبُ، بَلْ بِاسْتِعْمَالِ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ، فقد وَفَّى الخليل إبراهيم فِي بِنَاءِ الْبَيْتِ الْمُحَرَّمِ، وَوَفَّى فِي دَعْوَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْحَجِّ، وَوَفَّى فِي نُصْحِ الْخَلْقِ، فمَنْ يَتَأَمَّلُ سِيرَتَهُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، يَجِدُ أَنَّهَا سِلْسِلَةٌ مُتَّصِلَةٌ ومتواصلة مِنَ “الْوَفَاءِ” لِلْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، فاستحق هذا الوصف الجامع من رب العالمين.
والسؤال: مَا هُوَ دَرْسُ “التَّوْفِيَةِ” لَنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ؟، والجواب: أَنْ نَفِيَ بِعُهُودِنَا مَعَ اللَّهِ، لَقَدْ عَاهَدْنَا اللَّهَ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَهَلْ وَفَّيْنَا حَقَّهُ؟، وَعَاهَدْنَاهُ عَلَى اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَهَلْ تَمَسَّكْنَا بِهَا؟، وَعَاهَدْنَاهُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، فَهَلْ كُنَّا مِمَّنْ “وَفَّى”؟ إِنَّ مَدْرَسَةَ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) تَقُولُ لَنَا: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّمَنِّي، وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ، (فالتَّوْفِيَةُ): هِيَ أَنْ نُتِمَّ الطَّاعَةَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، ولَا نَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئاً، وَلَا نَبْتَغِي بِهَا غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ تبارك وتعالى.
(وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى): إِنَّ اللَّهَ حِينَمَا ذَكَرَ إِبْرَاهِيمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، كَانَ يُقَارِنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ وَيُعْطُونَ قَلِيلاً ثُمَّ يُكْدُونَ، أَيْ يَبْخَلُونَ وَيَنْقَطِعُونَ، أَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ عَطَاؤُهُ، وَلَمْ يَفْتُرْ جُهْدُهُ، فكَانَ عَطَاؤُهُ مُسْتَمِرّاً، حَتَّى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنْ عُمْرِهِ، وهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ؛ نَفَسُهُ طَوِيلٌ فِي الطَّاعَةِ، وَثَبَاتُهُ رَاسِخٌ فِي الْفِتَنِ، فلَا تَقُلْ: “فَعَلْتُ كَثِيراً”، بَلْ قُلْ: “هَلْ وَفَّيْتُ مَا عَلَيَّ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؟”، فَاللَّهُ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّباً، وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِالتَّمَامِ وَالْإِخْلَاصِ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
وتَأَمَّلُوا فِي ثَمَرَةِ هَذِهِ (التَّوْفِيَةِ)؛ لَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ لِلنَّاسِ إِمَامَاً، وَاتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلَاً، وَتَرَكَ عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ثَنَاءً عَطِرَاً، فَمَا ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) فِي مَجْلِسٍ إِلَّا وَحَفَّتْهُ المَهَابَةُ وَالتَّقْدِيرُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ صَدَقَ مَعَ اللهِ، فَصَدَقَهُ اللهُ، فإِنَّنَا حِينَ نَقُولُ فِي صَلَاتِنَا: “كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ”، نَتَذَكَّرُ هَذَا المَقَامَ العَالِيَ، الَّذِي نَالَهُ بِالصِّدْقِ وَالوَفَاءِ، فَهَلْ نَحْنُ مُوَفُّونَ بِعُهُودِنَا؟ هَلْ نَحْنُ صَادِقُونَ فِي انْتِمَائِنَا لِهَذِهِ المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ؟.
إِنَّ أَحْوَجَ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ اليَوْمَ هُوَ: التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الخَلِيلِ فِي “الوَفَاءِ”. نَحْتَاجُ إِلَى الوَفَاءِ مَعَ الخَالِقِ سُبْحَانَهُ بِإِخْلَاصِ العِبَادَةِ، وَنَحْتَاجُ إِلَى الوَفَاءِ مَعَ الخَلْقِ بِأَدَاءِ الحُقُوقِ، لَقَدْ عَلَّمَنَا إِبْرَاهِيمُ أَنَّ الطَّاعَةَ لَيْسَتْ فِكْرَةً مُجَرَّدَةً، بَلْ هِيَ امْتِثَالٌ عَمَلِيٌّ. حِينَ أَمَرَهُ اللهُ بِالذَّبْحِ، لَمْ يَقُلْ: “لِمَاذَا؟”، وَحِينَ أَمَرَهُ بِتَرْكِ أَهْلِهِ فِي الصَّحْرَاءِ، لَمْ يَقُلْ: “كَيْفَ سَيَعِيشُونَ؟”، بَلْ وَفَّى بِالِاتِّبَاعِ وَتَسْلِيمِ القَلْبِ لِمُقَدِّرِ الأَسْبَابِ، فالَّذِي وَفَّى: هُوَ الَّذِي لَمْ يَنْشَغِلْ بِالنَّتَائِجِ قَدْرَ انْشِغَالِهِ
بِالوَاجِبِ،
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
ونَحْنُ اليوم فِي زَمَنٍ كَثُرَ فِيهِ التَّقْصِيرُ، وَقَلَّ فِيهِ الإِتْقَانُ، وَأَصْبَحَ الكَثِيرُ يَبْحَثُ عَنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الفِعْلِ لِيُسْقِطَ الوَاجِبَ عَنْ كَاهِلِهِ، أَمَّا مَنْهَجُ “الَّذِي وَفَّى”، فَهُوَ مَنْهَجُ الإِحْسَانِ؛ أَنْ تَبْذُلَ قُصَارَى جُهْدِكَ فِي بِرِّ وَالِدَيْكَ، وَفِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِكَ، وَفِي إِخْلَاصِكَ لِعَمَلِكَ، مُبْتَغِيَاً بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ الكَرِيمِ.
فلِنَجْعَلْ مِنْ سِيرَةِ الخَلِيلِ نِبْرَاسَاً لَنَا. لِنَسْأَلْ أَنْفُسَنَا عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ إِلَهِيٍّ: هَلْ وَفَّيْنَا؟ عِنْدَ النِّدَاءِ لِلصَّلَاةِ، عِنْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، عِنْدَ مَوَاقِفِ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ، إِنَّ اللهَ الَّذِي أَثْنَى عَلَى إِبْرَاهِيمَ بِالتَّوْفِيَةِ، يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ إِذَا عَمِلَ عَمَلَاً أَنْ يُتْقِنَهُ، وَإِذَا عَاهَدَ عَهْدَاً أَنْ يُتِمَّهُ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَتَمَسَّكُوا بِمِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَكُونُوا مِمَّنْ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَاجْعَلُوا نَصْبَ أَعْيُنِكُمْ أَنَّ الفَلَاحَ كُلَّ الفَلَاحِ فِي أَنْ تَقْدَمُوا عَلَى رَبِّكُمْ وَقَدْ وَفَّيْتُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ عُهُودِكُمْ وَأَمَانَاتِكُمْ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ
الخُطْبَةُ الثانية (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وإذا كان إبراهيم قد وفّى، فإن الله أمرنا أن نسير على طريقه، فقال تعالى لرسوله محمد: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ النحل:123، وملّة إبراهيم ليست تاريخًا يُحكى، بل منهجًا يُتَّبع، فنحن اليوم في زمن كثرت فيه الأقوال، وقلّت الأفعال، كثرت الوعود، وقلّ الوفاء، وفاء الزوج لزوجته، ووفاء الأب لأبنائه، ووفاء العامل لعمله، ووفاء التاجر لأمانته، ووفاء المسلم لدينه، فالوفاء ليس خلقًا ثانويًا، بل علامة إيمان، واعلموا أن من ثمرات الوفاء: محبة الله، وثقة الناس، وطمأنينة القلب، وحسن الخاتمة، ومن وفّى مع الله، وفّى الله له في الدنيا والآخرة
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
لِنَتَعَلَّمْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ كَيْفَ نَكُونُ أَوْفِيَاءَ فِي مُعَامَلَاتِنَا: التَّوْفِيَةُ فِي الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ، التَّوْفِيَةُ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، التَّوْفِيَةُ فِي تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِ، فالْوَفَاء خُلُقٌ عَظِيمٌ، يَبْنِي الْمُجْتَمَعَاتِ، وَيَزْرَعُ الثِّقَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَصْلُ كُلِّ وَفَاءٍ هُوَ الْوَفَاءُ مَعَ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، فَإِذَا صَلُحَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَفَّقَكَ اللَّهُ لِأَنْ تَكُونَ وَفِيّاً مَعَ خَلْقِهِ.
وتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (36)، (37) النجم، فإِنَّ هَذَا الذِّكْرَ لِإِبْرَاهِيمَ فِي كُتُبِ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ هُوَ لِيَكُونَ مَنَارَةً لَنَا، فَإِذَا شَعَرْتَ بِالثِّقَلِ فِي نَفْسِكَ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ، فَتَذَكَّرْ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَهُوَ يَمْشِي بِابْنِهِ لِلذَّبْحِ طَاعَةً لِلَّهِ، وَإِذَا شَعَرْتَ بِالْخَوْفِ مِنْ فَقْرٍ أَوْ ضِيَاقٍ، فَتَذَكَّرْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ يَتْرُكُ أَهْلَهُ فِي الْفَلَاةِ لَا نَاصِرَ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، فالتَّذَكُّرُ لِسِيرَةِ الْخَلِيلِ يُعِيدُ شَحْنَ طَاقَةِ الْإِيمَانِ فِي عُرُوقِ الْمُؤْمِنِ، فَيَنْدَفِعُ لِلْعَمَلِ وَهُوَ يَقُولُ: “وَمَا أَنَا إِلَّا عَبْدٌ لِرَبٍّ كَرِيمٍ يَسْتَحِقُّ مِنِّي التَّوْفِيَةَ”.
ولِنَجْعَلْ مِنْ هَذِهِ الْسيرة نُقْطَةَ انْطِلَاقٍ لِتَصْحِيحِ مَسَارِنَا، لِيَسْأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ: هَلْ أَنَا وَفِيٌّ لِدِينِي؟، هَلْ أَنَا وَفِيٌّ لِأُمَّتِي؟، هَلْ أَنَا وَفِيٌّ لِأَمَانَاتِي؟، فإِنَّ الطَرِيقَ إلى الْخُلَّةِ وَالرِّفْعَةِ يَبْدَأُ مِنْ هُنَا؛ مِنْ صِدْقِ الِامْتِثَالِ، وَتَمَامِ الْإِخْلَاصِ، فَاللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ لَا يَنْسَى مَنْ وَفَّى، وَسَيَجْزِي الْمُؤْمِنِينَ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ، وَاقْتَدُوا بِأَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ يَفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدُوا، وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ الَّذِينَ يَفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ نَالُوا الْأَمْنَ وَالْهُدَى فِي الدُّنْيَا، وَهُمُ الْفَائِزُونَ بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ.
الدعاء
