خطبة عن (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)
يونيو 21, 2025خطبة عن (مَوَدَّةٌ وَرَحْمَةٌ)
يونيو 21, 2025الخطبة الأولى (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (36)، (37) الروم.
إخوة الإسلام
إن هذه الآيات المباركات لتبين لنا: أن الناس إذا أذاقهم الله تعالى نعمة ورحمة وسراء: (مِن خصب ومطر، وصحة وعافية، ورخاء وغنى، ونصر وتمكين)، فرحوا بذلك فرح بطرٍ وأَشَرٍ ،لا فرح حمد وشكر، وإذا أصابهم الله تعالى بالضراء: من (جدب وقلة مطر، أو مرض وسقم ، أو فقر وعوز، أو خوف أو ضيق)، وكل ذلك بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، فإذا هم يَيْئَسون ويقنطون، وهذا طبيعة أكثر الناس، فهم عند السراء جاحدون مغرورون، وعند الضراء قانطون يائسون.
ولو تفكر الناس لعلموا أن من أعطى هو من منع، و أن من ابتلى قادر على إزالة الضر والابتلاء، وأن الأمر كله بيده سبحانه، وأن ما قدمت أيدينا، واقترفنا من آثام، هو سبب ما نحن فيه، ليكفر الله عنا بعض السيئات، ويخفف بعض عقاب الآخرة الذي لا يطاق، ويعفو عن كثير.
وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يفرحوا بإيمانهم وأعمالهم الصالحة، فرح شكر وحمد لله، واعترافا بفضله وجوده وكرمه، فقال الله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (58) يونس، وعلى هذا فالفرح نوعان: الأول: فرح بطر وأشر، يؤدي إلى الاستكبار عن الحق، والتعالي على الخلق، وهذا هو الفرح المذموم، والثاني: فرح حمد وشكر وعرفان، فيفرح العبد بنعمة الله فرحا يحمله على شكر النعمة، فهذا ليس فرحا مذموما، بل هو فرح ممدوح.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا): فعلى القلوب أن تتعلق بمسبب الأسباب، مع أخذها بالأسباب التي شرعها الله تعالى, فلا نترك الأسباب، ولا نتوكل على الأسباب, وإنما نأخذ بها متوكلين على مسببها سبحانه وتعالى، مؤمنين بحكمته في جريان الأسباب، أو توقف تأثيرها، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [ الروم:37]، فالمؤمن يرى أن النعمة والنقمة أوجدها الله، لتكون امتحانا وتمحيصا لعباده، ولتكشف معدن العباد، ففي حياتنا الدنيا نعيش بين ابتلاء ورحمه، يرسل الله على المؤمن المسلم رحمته ليشكره ويمتحنه، ويرسل بلاءه ونقمته ليختبر ويمحص صبره وإيمانه، ورحمة الله على المؤمن نعمة إن هو أدى شكرها، وتنقلب نقمة إن جحدها، وعصى الله بها. وهكذا يتبين لنا أن العباد حيال النعم بين شاكر وكافر؛ فالشاكر للنعمة يبارك الله له في النعم، ويزيده من فضله، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، والكافر بالنعمة يتلقى العذاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7]
ومن المعلوم أن النعم على قسمين: نعم مطلقة، ونعم مقيدة، فالنعم المطلقة: هي المتصلة بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي التي لا تزول ولا تنقطع، وتمامها يكون بالخلود في الدرجات العليا من الجنة، وفي سنن الترمذي: (عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً يَدْعُو يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ. فَقَالَ « أَيُّ شَيْءٍ تَمَامُ النِّعْمَةِ». قَالَ دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا أَرْجُو بِهَا الْخَيْرَ. قَالَ «فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولَ الْجَنَّةِ وَالْفَوْزَ مِنَ النَّارِ». وَسَمِعَ رَجُلاً وَهُوَ يَقُولُ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ فَقَالَ «قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ». وَسَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصَّبْرَ. فَقَالَ «سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلاَءَ فَسَلْهُ الْعَافِيَةَ». وفي رواية أحمد: (وَمَرَّ بِرَجُلٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَمَامَ النِّعْمَةِ. قَالَ «يَا ابْنَ آدَمَ أَتَدْرِي مَا تَمَامُ النِّعْمَةِ». قَالَ دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا أَرْجُو بِهَا الْخَيْرَ. قَالَ «فَإِنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ فَوْزٌ مِنَ النَّارِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ»، وقد قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (185) آل عمران، فهذه النعمة المطلقة: هي نعمة الإسلام والإيمان، وأهلها هم أهل الرفيق الأعلى، وهم أهل الهداية إلى صراط الله المستقيم، ولهذا أمرنا الله تعالى أن نسأله في صلواتنا الهداية إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ،قال تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الفاتحة(6)، (7)، وهذه النعمة المطلقة هي التي أسبغها الله وأتمها على عباده المؤمنين بإكمال دينه وإتمام شريعته وإرسال رسوله، وهي التي يفرح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه.
وأما القسم الثاني من النعم: فهي النعم المقيدة: وهي ما يتفضل الله تعالى به على عباده في الدنيا مما يحبون؛ كالصحة، والفراغ، والغنى، والعافية في البدن، والزوجة، والولد، وهي شهوة وزينة، وهي مشتركة بين المؤمن والكافر، والبَّر والفاجر، وهي مناط الاختبار والابتلاء، قال الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (14)، (15) آل عمران، قال ابن كثير في تفسيره: (فلما زينت لهم هذه المذكورات تعلقت بها نفوسهم، ومالت إليها قلوبهم، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين: قسم جعلوها هي المقصود، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها، فشغلتهم عما خُلقوا لأجله، وصحبوها صحبة البهائم السائمة، يتمتعون بلذاتها، ويتناولون شهواتها، ولا يبالون على أي وجه حصَّلوها، ولا فيما أنفقوها وصرفوها، فكانت زادًا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب.
أقول قول وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
والقسم الثاني من أقسام الناس تجاه زينة الحياة الدنيا: (أنهم عرفوا المقصود منها، وأن الله جعلها ابتلاءً وامتحانًا لعباده، ليعلم من يُقدِّم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته، فجعلوها وسيلة لهم، وطريقًا يتزودون منها لآخرتهم، ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته، علموا أنها متاع الحياة الدنيا فجعلوها معبرًا إلى الدار الآخرة، فصارت زادًا لهم إلى ربهم).
وفي قوله تعالى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (15) آل عمران، ففي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذير للمغترِّين بها، وتزهيد لأهل العقول بها، لذا أخبر الله عن دار القرار، ومصير المتقين الأخيار، وأنها خير من هذه الدار الفانية، والنعيم الزائف الزائل، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الزائلة الحقيرة ثم اختر لنفسك أحسنها، واعرض على قلبك المفاضلة بينهما.
الدعاء