خطبة حول معنى قوله تعالى ( فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ )
ديسمبر 27, 2025الخُطْبَةُ الأُولَى (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (128) النساء، وفي سنن أبي داود: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ». قَالُوا بَلَى. قَالَ «إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ».
إخوة الإسلام
حديثنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عن قوله تعالى:(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ): فنحن أَمَامَ قَاعِدَةٍ رَبَّانِيَّةٍ جَامِعَةٍ، وَكَلِمَةٍ نُورَانِيَّةٍ شَامِلَةٍ، خَتَمَ اللهُ بِهَا نِزَاعَاتِ البُيُوتِ، وَخُصُومَاتِ الخَلْقِ، فهَذِهِ الجُمْلَةُ اليَسِيرَةُ فِي مَبْنَاهَا، العَظِيمَةُ فِي مَعْنَاهَا، هِيَ طَوْقُ النَّجَاةِ لِلْمُجْتَمَعَاتِ، وَبَلْسَمُ الشِّفَاءِ لِلْقُلُوبِ المُنْكَسِرَةِ، فإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَقُولُ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، فَهِيَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ مُطْلَقَةٍ؛ أَيْ أَنَّ أَيَّ صُلْحٍ يَقَعُ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الشِّقَاقِ، وَخَيْرٌ مِنَ الوُقُوفِ عِنْدَ أَبْوَابِ المَحَاكِمِ، وَخَيْرٌ مِنَ القَطِيعَةِ الَّتِي تُورِثُ الحَسْرَةَ وَالنَّدَامَةَ، ومن أهم مجالات الصلح: الصُّلْحِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، فلَقَدْ شَرَعَ اللهُ الدِّيَةَ وَالْعَفْوَ، تَحْفِيزاً عَلَى الصُّلْحِ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ، يَأْتِي الصُّلْحُ لِيُهِيءَ بِيئَةً مِنَ الثِّقَةِ، فالصُّلْحُ خَيْرٌ لِأَنَّهُ يَحْقِنُ الدِّمَاءَ، وَيَصُونُ الأَعْرَاضَ، وَيَحْفَظُ الأَمْوَالَ، وَيُطْفِئُ نَارَ الحِقْدِ الَّتِي إِذَا اشْتَعَلَتْ أَحْرَقَتِ الأَخْضَرَ وَاليَابِسَ.
ولِمَاذَا كَانَ الصُّلْحُ خَيْرَاً؟، لِأَنَّ البَدِيلَ عَنْهُ هُوَ “القَطِيعَةُ” وَ “الشِّقَاقُ” وَ “التَّدَابُرُ”، وَالشِّقَاقُ هُوَ السَّمُّ الَّذِي يَنْفُثُهُ إِبْلِيسُ فِي عُرُوقِ الأُمَّةِ، لِيُفَكِّكَ رَوَابِطَهَا، حِينَ تَتَنَازَعُ فِي بَيْتِكَ مَعَ شَرِيكِ حَيَاتِكَ، أَوْ فِي عَمَلِكَ مَعَ شَرِيكِ تِجَارَتِكَ، أَوْ فِي حَيِّكَ مَعَ جَارِكَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ لِيُوقِدَ نَارَ الفِتْنَةِ، وَيُعَظِّمَ الصَّغَائِرَ حَتَّى تَصِيرَ كَبَائِرَ، فَمَنْ نَزَلَ عَنْ كِبْرِيَائِهِ، وَتَغَاضَى عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ طَلَبَاً لِلصُّلْحِ، فَقَدْ أَعَزَّ دِينَهُ وَأَذَلَّ شَيْطَانَهُ،
والصُّلْحُ خَيْرٌ: لِأَنَّهُ يَحْمِي الأَبْنَاءَ مِنْ الضَّيَاعِ بَيْنَ خِلَافَاتِ الكِبَارِ، وَيَحْمِي الأَرْحَامَ مِنَ البَتْرِ، وَيَحْمِي الأُمَّةَ مِنَ الوَهْنِ الَّذِي يَجْعَلُهَا لُقْمَةً سَائِغَةً لِلأَعْدَاءِ.
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}: فهَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَمْ يُقَيِّدْهَا اللهُ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ النِّزَاعِ، بَلْ جَعَلَهَا شَامِلَةً لِكُلِّ شَيْءٍ، الصُّلْحُ خَيْرٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِذَا كَادَ بَيْتُهُمَا أَنْ يَنْهَدِمَ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، إِذَا دَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ بَيْنَ الْجِيرَانِ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ بَيْنَ الْعَائِلَاتِ وَالْقَبَائِلِ، وكَلِمَةَ “خَيْرٌ” جَاءَتْ هُنَا نَكِرَةً، لِتُفِيدَ أَنَّ الصُّلْحَ يَحْمِلُ كُلَّ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، فَفِي الصُّلْحِ رَاحَةُ الْبَالِ، وَفِيهِ حِفْظُ الْأَمْوَالِ، وَفِيهِ قَبُولُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ ذِي الْجَلَالِ.
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}: فَقَدْ أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تَكُونَ بِنْيَاناً مَرْصُوصاً، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَلَكِنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِ نَزَّاعَةٌ إِلَى الِاخْتِلَافِ، وَالشَّيْطَانُ حَرِيصٌ عَلَى التَّحْرِيشِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا الْعِلَاجُ؟، لَقَدْ جَعَلَ اللهُ “الصُّلْحَ” هُوَ الْبَلْسَمَ الشَّافِيَ لِكُلِّ نِزَاعٍ، وَالْمَخْرَجَ الْآمِنَ مِنْ كُلِّ خُصُومَةٍ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
ومَنْ يَسْعَى فِي الصُّلْحِ بين الناس لَيْسَ شَخْصَاً عَادِيَّاً، بَلْ هُوَ جُنْدِيٌّ مِنْ جُنُودِ السَّلَامِ، فِي مَمْلَكَةِ الرَّحْمَنِ، وقَدْ بَلَغَتْ عِنَايَةُ الشَّرْعِ بِالصُّلْحِ مَبْلَغَاً عَظِيمَاً؛ حَيْثُ رَخَّصَ فِي “الكَذِبِ” -وَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ- إِذَا كَانَ القَصْدُ مِنْهُ تَقْرِيبَ القُلُوبِ، فَإِذَا ذَهَبْتَ لِفُلَانٍ وَقُلْتَ لَهُ: “إِنَّ خَصْمَكَ يَذْكُرُكَ بِخَيْرٍ وَيَمْدَحُ صِفَاتِكَ”، وَفَعَلْتَ مِثْلَ ذَلِكَ مَعَ الآخَرِ، فَأَنْتَ مَأْجُورٌ وَمُثَابٌ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ ائْتِلَافِ القُلُوبِ أَعْلَى عِنْدَ اللهِ مِنْ صُورَةِ الصِّدْقِ فِي هَذَا المَقَامِ، وفي صحيح الأدب للبخاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيراً، أو ينمي خيراً”. فَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذَا الفِقْهِ؟، وهَلْ نَحْنُ مِمَّنْ يَسْعَى بِالصُّلْحِ لِيُقَرِّبَ المَسَافَاتِ؟، أَمْ أَنَّنَا -وَلِلأَسَفِ- نَنْقُلُ القَالَ وَالقِيلَ بَيْنَ المُتَخَاصِمِينَ، لِنَزِيدَ الفَجْوَةَ اتِّسَاعَاً؟.
والصُّلْح يَحْتَاجُ إِلَى “نُفُوسٍ زَكِيَّةٍ” وَ “قُلُوبٍ أَبِيَّةٍ”، تَتَعَالَى عَلَى حُظُوظِهَا الشَّخْصِيَّةِ، وقَدْ شَخَّصَ القُرْآنُ الكَرِيمُ العَائِقَ الأَكْبَرَ أَمَامَ الصُّلْحِ فَقَالَ تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} النساء: 128. وَهَذَا الشُّحُّ لَيْسَ فَقَطْ بَخَلاً بِالمَالِ، بَلْ هُوَ شُحُّ النَّفْسِ بِرَأْيِهَا، وَتَمَسُّكُهَا بِأَنْ تَكُونَ هِيَ العَالِيَةَ وَالمُنْتَصِرَةَ، فَإِذَا اسْتَطَاعَ العَبْدُ أَنْ يَكْسِرَ حِدَّةَ شُحِّ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ بَعْضِ مَطَالِبِهِ، إِيثَارَاً لِلْأُلْفَةِ، فَقَدْ حَقَّقَ نَصْرَاً مُؤَزَّرَاً عَلَى هَوَاهُ، فالصُّلْحُ لَيْسَ مَنْقَصَةً وَلَا ضَعْفَاً، بَلْ هُوَ شِيْمَةُ الأَقْوِيَاءِ، الَّذِينَ غَلَبُوا أَنْفُسَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبُوا خُصُومَهُمْ.
وتَأَمَّلُوا فِي سِيرَةِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم، وكَيْفَ كَانَ يَتَحَمَّلُ المَشَاقَّ، مِنْ أَجْلِ إِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ، ففي صحيح البخاري: (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ – رضي الله عنه أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بِذَلِكَ فَقَالَ «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ»، فالرسول صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْتَظِرْ حَتَّى يَأْتُوا إِلَيْهِ، بَلْ بَادَرَ هُوَ بِالذَّهَابِ إليهم ليصلح بينهم،
وفي سنن النسائي: (أن سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: وَقَعَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَلَامٌ حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذَّنَ بِلَالٌ وَانْتُظِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتُبِسَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)،
وَفِي صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، قَبِلَ شُرُوطَاً ظَاهِرُهَا فِيهِ إِجْحَافٌ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ كِبَارِ الصَّحَابَةِ ذُهِلُوا، لَكِنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَرَى بِنُورِ اللهِ أَنَّ الصُّلْحَ خَيْرٌ، وَأَنَّ حَقْنَ الدِّمَاءِ سَيَفْتَحُ أَبْوَابَاً لِلدَّعْوَةِ لَا يَفْتَحُهَا السَّيْفُ. فَكَانَ كَمَا رَأَى، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الصُّلْحُ فَتْحَاً مُبِينَاً.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
واعْلَمُوا أَنَّ رُوحَ الصُّلْحِ تَقُومُ عَلَى “التَّغَافُلِ” وَ “التَّسَامُحِ”، فلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ صُلْحٌ وَكُلُّ طَرَفٍ يَتَمَسَّكُ بِكُلِّ حُقُوقِهِ، وَيُدَقِّقُ فِي كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، فالصُّلْحُ يَحْتَاجُ إِلَى نُفُوسٍ كَبِيرَةٍ، تَتَرَقَّى عَنِ الصَّغَائِرِ، وَتَنْظُرُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا.
والصُّلْح خَيْرٌ: فِي بَرَكَتِهِ العَاجِلَةِ وَالآجِلَةِ، فَمَا تَعَافَى قَلْبَانِ مِنْ ضَغِينَةٍ، إِلَّا وَأَنْزَلَ اللهُ بَيْنَهُمَا السَّكِينَةَ، وَفَتَحَ لَهُمَا أَبْوَابَ التَّوْفِيقِ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ ثَوَابَ مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ عَهْدَاً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَ تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الشورى:40، فَكَلِمَةُ “عَلَى اللهِ” تَحْمِلُ مِنْ عَظَمَةِ الجَزَاءِ مَا لَا تُحِيطُ بِهِ العِبَارَةُ؛ فَإِذَا كَانَ المَلِكُ سَيُعْطِي، فَكَيْفَ بِمَلِكِ المُلُوكِ؟،
والصُّلْحُ خَيْرٌ: فهو يَجْلِبُ مَحَبَّةَ الخَلْقِ، وَرِضَا الخَالِقِ، وَيَجْعَلُ العَبْدَ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَهُوَ مُرْتَاحُ الضَّمِيرِ، سَلِيمُ الصَّدْرِ، مُقْبِلٌ عَلَى رَبِّهِ بِقَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ غِلٌّ لِأَحَدٍ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
الخُطْبَةُ الثانية (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
واعلموا أنَّ هُنَاكَ مَوَانِعَ شَيْطَانِيَّةً، تَحُولُ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَبَيْنَ سَبِيلِ الصُّلْحِ، ومِنْ أَخْطَرِهَا “خَوْفُ كَلَامِ النَّاسِ”، فَيَقُولُ لَهُ الشَّيْطَانُ: “إِذَا اصْطَلَحْتَ مَعَهُ سَيَقُولُونَ أَنَّكَ ضَعِيفٌ، أَوْ أَنَّكَ انْكَسَرْتَ، أَوْ أَنَّ كَرَامَتَكَ قَدْ أُهِينَتْ”، وَهَذَا لَعَمْرُ اللهِ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ؛ فَالعِزُّ كُلُّ العِزِّ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالرِّفْعَةُ كُلُّ الرِّفْعَةِ فِي التَّوَاضُعِ لِلْمُؤْمِنِينَ، ولَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى هذه الحَقِيقَة فَقَالَ صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: «وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا»، فَكُلَّمَا كُنْتَ أَكْثَرَ سَمَاحَةً، وَبَحْثَاً عَنِ الصُّلْحِ، رَفَعَ اللهُ ذِكْرَكَ، وَأَعْلَى قَدْرَكَ، وَوَضَعَ لَكَ القَبُولَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ.
ومَيَادِين الصُّلْحِ وَاسِعَةٌ؛ فَالصُّلْحُ خَيْرٌ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ؛ فَلَا تَهْدِمُوا الأُسَرَ مِنْ أَجْلِ أَمْرٍ تَافِهٍ، بَلْ صَالِحُوا وَتَصَالَحُوا، لِتَبْقَى المَوَدَّةُ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ فِي التِّجَارَاتِ؛ فَبَدَلَ ضَيَاعِ الأَعْمَارِ فِي دَهَالِيزِ القَضَاءِ، تَقَاسَمُوا الحَقَّ لِتَبْقَى الثِّقَةُ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ فِي المَوَارِيثِ؛ فَلَا تَبِيعُوا أَرْحَامَكُمْ بِدِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ، فَإِنَّ المَالَ يَفْنَى، وَالأَثَرَ يَبْقَى، فكُلّ خُصُومَةٍ تَنْتَهِي بِالصُّلْحِ هِيَ انْتِصَارٌ لِلْقِيَمِ، وَكُلَّ قَطِيعَةٍ تَنْتَهِي بِالصِّفَاحِ هِيَ صَفْعَةٌ فِي وَجْهِ إِبْلِيسَ، الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَهْلَ الإِيمَانِ مُتَبَاغِضِينَ،
وتَذَكَّرُوا يَا مَنْ تَهْجُرُونَ إِخْوَانَكُمْ لِأَيَّامٍ أَوْ سِنِينَ.. أَنَّ هَذَا الهَجْرَ يَمْنَعُ قَبُولَ الأَعْمَالِ، فقد جَاءَ فِي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»، فَهَلْ يَهُونُ عَلَيْكَ أَنْ تَقِفَ أَعْمَالُكَ، وَيُؤَخَّرَ غُفْرَانُكَ، لِأَجْلِ حُطَامٍ زَائِلٍ أَوْ كَلِمَةٍ قِيلَتْ فِي لَحْظَةِ غَضَبٍ؟ فكُنْ أَنْتَ الأَفْضَلَ، وَبَادِرْ بِالسَّلَامِ، فَإِنَّ الخَيْرَ فِيمَنْ بَدَأَ، أَلَمْ يَبْلُغْك قَوْلُهُ ﷺ كما في الصحيحين: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِى يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ».
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَكُونُوا مَفَاتِيحَ لِلسَّلَامِ فِي مُجْتَمَعِكُمْ، وانْظُرُوا فِي أَقَارِبِكُمْ وَجِيرَانِكُمْ؛ فمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَخَاصِمَاً فَاسْعَوْا بَيْنَهُمْ بِمَا يُرْضِي اللهَ، وَتَذَكَّرُوا دَائِمَاً أَنَّ الكَبِيرَ هُوَ مَنْ يَعْفُو، وَأَنَّ القَوِيَّ هُوَ مَنْ يُصَالِحُ، وَأَنَّ الرَّابِحَ هُوَ مَنْ قَدِمَ عَلَى رَبِّهِ وَصَدْرُهُ سَلِيمٌ لِلْعَالَمِينَ.
وَاجْعَلُوا الصُّلْحَ مَنْهَجاً لَكُمْ فِي كُلِّ شُؤُونِكُمْ، فالْمُجْتَمَع الَّذِي يَسُودُ فِيهِ الصُّلْحُ هُوَ مُجْتَمَعٌ مَرْحُومٌ، تَنْزِلُ عَلَيْهِ الْبَرَكَاتُ، وَتُحَفُّ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ، وَأَحْسَنُ الْإِحْسَانِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُصْلِحَ مَا أَفْسَدَتْهُ صُرُوفُ الدُّنْيَا، وَنَزَغَاتُ الشَّياطَينِ.
الدعاء
