خطبة عن حديث (هَلاَّ نَمْلَةً وَاحِدَةً)
نوفمبر 13, 2023خطبة عن (وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)
نوفمبر 13, 2023الخطبة الأولى (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (65): (73) طه
إخوة الإسلام
هذه الآيات تذكرنا: أنه حين ألقى موسى عَصاه، وابتلَعَت عِصِيَّ السَّحَرةِ وحِبالَهم، وظهَرَ الحقُّ، وقامت الحُجَّةُ عليهم. هنا ألقى السَّحَرةُ أنفُسَهم على الأرضِ ساجدينَ، وقالوا: (آمَنَّا برَبِّ هارونَ وموسى). وبيَّن الله تعالى فيها موقفَ فرعونَ مِن السحرةِ، واتهامَه لهم، ثم تهديدَهم، فقال فِرعَونُ للسَّحَرةِ: أصدَّقتُم بموسى واتَّبَعتُموه، وأقرَرْتُم له بالنبُوَّةِ قبل أن آذَنَ لكم بذلك؟ إنَّ موسى لَعظيمُكم ورئيسُكم الذي عَلَّمكم السِّحرَ، ثم هددهم قائلا: لأُقطِّعنَّ مِن كُلِّ واحدٍ منكم يدَه اليُمنى مع رِجلِه اليُسرى أو العكس، ولأُصلِّبَنَّكم على جذوعِ النَّخلِ، ولتعلَمُنَّ -أيُّها السَّحَرةُ- مَن هو أشَدُّ عذابًا وأدوَمُ له، ثمَّ ذكَر الله تعالى موقفَ السحرةِ مِن تهديدِ فرعونَ لهم: فقال السَّحَرةُ لفِرعَونَ: لن نُفَضِّلَك على ما جاءنا مِن البيِّناتِ الدَّالَّةِ على صِدقِ موسى، ولن نُفَضِّلَك على اللهِ الذي خلَقَنا، فافعَلْ ما أنت فاعِلٌ بنا، إنَّما ينفُذُ أمرُك في هذه الحياةِ الدُّنيا، وعذابُك فيها ما هو إلَّا عذابٌ مُنتَهٍ بانتهائِها، إنَّا آمَنَّا برَبِّنا وصدَّقْنا رَسولَه؛ لِيَغفِرَ لنا ذُنوبَنا مِن الكُفرِ والمعاصي، وما أكرَهْتَنا عليه مِن عَمَلِ السِّحرِ في مُعارضةِ موسى. واللهُ خيرٌ لنا مِنك -يا فِرعَونُ- وأجرُه خَيرٌ لنا مِن أجرِك، وهو أدوَمُ عذابًا لِمَن عصاه، وخالَف أمْرَه. فإنَّه مَن يأتِ رَبَّه كافرًا به، فإنَّ له نارَ جهنَّمَ يُعَذَّبُ بها، ولا يموتُ فيها فيَستريحَ، ولا يحيا حياةً يتلذَّذُ بها، ومَن يأتِ رَبَّه مُؤمِنًا به، قد عَمِلَ الأعمالَ الصَّالحةَ، فله المنازِلُ العاليةُ؛ وهي جنَّاتُ إقامةٍ دائمةٍ، تجري مِن تحتِ أشجارِها وغُرَفِها الأنهارُ، ماكثينَ فيها أبدًا، وذلك النَّعيمُ المقيمُ هو ثَوابٌ مِن الله لِمَن طهَّر نَفسَه مِن الشِّركِ والمعاصي، ونمَّاها بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ.
أيها المسلمون
إن أمر سحرة فرعون لأمر عجيب، فهؤلاء السحرة: (قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (41)، (42) الشعراء، وقالوا له أيضا: (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) الشعراء (44)، ولكن لما أدركوا الحقيقة، ووقفوا على جلال الحق، وصواب الطريق ـ سلموا الأمر لله، وسجدوا قائلين: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) الشعراء (47)، (48)، وبدأت أبجديات العقيدة السليمة ترشح على ألسنتهم، وأعطوا فرعون دروساً رائعة في سلامة الاعتقاد، والخشوع لرب العباد، وأطلقوها حكمة، ودرساً مستمراً: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (72)، (73) طه
ونعم ما قالوا: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى): فهذه حكمة بليغة، وقاعدة إيمانية، فالله تعالى خير من كلِّ ما وعدتنا به يا فرعون، وما كنت ستعطينا إياه من المال، ومن القرب والعطايا ، فالله تعالى أبقى لنا ، فالحياة الدنيا مهما طالت، لا تمثل شيئا في موازين الآخرة، وهؤلاء السحرة تعرضوا لأبشع ألوان العذاب، وألوان والتنكيل التي لا يتصورها عقل حيث قال لهم :(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ)، فهدَّد وتوعَّد، وأزبد وأرغد، ونكَّل وعذَّب، ولكن تبقى في حنايا القلب معية الله، وكلامه: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )
فيا من آمنت بالله ربا، ويا من أسلمت لله قلبا، ويا من تطمع في الوصال قربا، إذا ما تعرضت لابتلاء مَّا، كأنْ تمتحن في مالك، فيذهب مالك، فلا تنسى أبداً: (والله خير وأبقى)
ولو أنت مزارع قام على حقله، واعتنى به، وجاء له بكل أنواع السماد، وقام عليه اهتماما منه؛ حرثا، وصيانة، وريًّا، ثم أصابته جائحة من السماء، أو أصابته آفة من الأرض، فجاءت عليه، وأطاحت بكل المحصول، فعليك أن ترضى بالقضاء، وتتذكر: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
وإن كنت مريضا، حار في علاجك الأطباءُ، وكلما انتهوا من عملية جراحية دخلوا في غيرها، فلا تيأس، وكرر على قلبك ولسانك،: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
وإذا كانت فتاة فاتها قطارُ الزواج، ولم يتقدم لها مَنْ يعفها، وهي طيبة عفيفة، وليست على قدر من الجمال يجعل الخُطَّاب يتسابقون إليها، وكَبِرتْ سِنُّها، واشتاقت لكلمة (ماما)، وتمنَّت الحمل والرضاع، وأن تتذوق طعم الأمومة الجميل، فتتذكر قول ربها: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
وإذا كان هناك شابٌّ ملتزم، صالح، جاءه سنُّ الزواج، وتمنى على الله أن يُعِفَّهُ بفتاة مسلمة، ولكن لا يجد معه ما يستعفُّ به، بل لا يجد قوت يومه، ونفسُه تلح عليه في الزواج، ويبكي لله بليل، ويجأر لجلاله بنهار، ويصوم، ويغض بصره، ويتلو القرآن ويسبح، ولا يعرف الناس فقره وحاجته لعفته، وعدم سؤاله، فعليه أن يلجأ إلى ربه، ويتوقف كثيراً أمامه متأملاً: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى): إن المستعظم لمعانيها، والمدرك لمراميها، والمحصل لمعانيها، يرتاح قلبه، ويطمئن فؤاده، ويعود إليه رشده، عندما يحدث له ابتلاء، ويحوطه اختبار، وتشمله نائبة، فسرعان ما يتذكر هذا القول الإلهي الكريم، وكذلك عندما يُساوَم على شيء في دين الله، كأنْ يترك مكانا تُحتَسى فيه الخمر، أو تُمارَس فيه المعاصي، مقابلَ مال يحصِّله شهرياً، فلا يقبل، ويتذكر قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى): فإذا اتصلت بالمسلم جهاتٌ مشبوهة؛ ليبين لها أسرار بلده، أو يخون من خلالهم وطنه، جراءَ أموال كثيرة ،فيقول: لا، ويتذكر: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى): يقولها من تدعوه امرأة ذاتُ منصب وجمال إلى الترخص معها، وتوفر له كل سبل العيش الرغيد، فيتذكر ربه وخشيته، وما أعده له في الآخرة من حور عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون، ويتذكر سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ عندما صمد في وجه المعصية، وقال:( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) يوسف (33)، وقال: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يوسف (90) .. نعم ،الله خير وأبقى، إنها قاعدة إيمانية كبيرة وأصيلة في شريعتنا الغراء، يجب استحضارها بشكل دائم، أمام ناظريْ الإنسان،
(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى): هي كلمات قليلة، ولكنها تحمل معاني جليلة، وكيف لا وهي تقول لكل ظالم بأنَّ لظلمك حدودًا لا يمكنك تجاوزَها، فمهما بلغت سلطتك، ومهما منعت، فلن تستطيع أن تمنع قلبًا من الاتصال بربه، ولن تستطيع أن توقف فيضَ السكينة والحنان واللطف والرحمة الإلهية ،التي يغدق بها المولى على قلوب أحبابه.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى): هي عبارة عظيمة ترْبِتُ على كتف كل مبتلًى، فتذكّره بأن أعظم حرمان يمكن أن يُحرمَه هو أن يُحرَمَ من الله؛ فمَن فَقَدَ اللهَ فَقَدْ فَقَدَ كلَّ شيء، ومن وجد الله وجد كل شيء. ألم يقل حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بعد حادث الطائف، وما تعرض له من إيذاء واستهزاء: «إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي»، ومن هنا ندركُ بعضًا من معاني التوجيه النبوي كما في مسند أحمد: «تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ»، فلا بد أن نتعرَّف على الله، وأن تنشأ بيننا وبينه علاقةٌ متينةٌ، ليصبح -سبحانه- نِعْمَ الصاحب في السفر، والرفيق في الطريق، والأنيس في الخلوة. ولئن كنا لا نستطيع أن نصل إلى مرتبة الخلّة مع الله، ففي مرتبة الصحبة متسَعٌ لنا جميعًا إن أردنا ذلك بصدق، وتحركنا نحوه من خلال التعرُّف الصحيح عليه سبحانه.
(وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى): فعندما يمنُّ الله -عز وجل- على عبدٍ من عباده بهذه النعمة، فإنّ ذلك لهو الفوز العظيم في الدنيا قبل الآخرة، ولِمَ لا وقد دخل العبدُ بهذه الصحبة جنة الدنيا، وذاقَ حلاوةً لا يوجد لها مثيلٌ، وتمتَّعَ بعزِّ الاكتفاء بالله، والاستغناء به عن كل ما سواه.. فإن أصابه مكروه ردَّد {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وإن تشابكت أمامه الأحداث قال: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]. وإن تعرض لظلم ولم يستطع الدفاع عن نفسه تذكَّر: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]. فهو دائمًا في رغبةٍ نحو ربه، يسعد بمناجاته، ويكلمه على الحضور، ويبثّ إليه شكواه، وكلما استبدَّ به الشوقُ إليه، هرَع نحو كتابه، يقرؤه بتلهُّف وفرح، فينسكب داخله شراب الأنس والسرور به سبحانه، فتهدأ ثائرة أشواقه -ولو قليلاً- ويتملكه شعور عجيب، بأنّ الدنيا كلها قد أصبحت تحت قدميه، وأن (الله خيرٌ وأبقى)،
أيها المسلمون
(وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [القصص: 60]، لقد بين الله عزَّ وجلَّ قيمة الدنيا بالنسبة للآخرة، وقيمة الآخرة بالنسبة للدنيا في كثير من آيات القرآن والسنة النبوية: قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» رواه البخاري. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» رواه الترمذي. فجميع ما أوتيه الخلق من الذهب والفضة، والطير والحيوان، والأمتعة والنساء، والبنات والبنين، والمآكل والمشارب، والجنات والقصور، وغير ذلك من ملاذ الدنيا ومتاعها، كل ذلك متاع الحياة الدنيا وزينتها، يتمتع به العبد وقتاً قصيراً، محشواً بالمنغصات، ممزوجاً بالمكدرات، ويتزين به الإنسان زماناً يسيراً للفخر والرياء، ثم يزول ذلك سريعاً، ويعقب الحسرة والندامة: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]. فما عند الله من النعيم المقيم، والعيش الهني، والقصور والسرور خير وأبقى في صفته وكميته، وهو دائم أبداً. فهل يستوي هذا ومَنْ متَّعه الله متاع الحياة الدنيا، فهو يأخذ فيها ويعطي، ويأكل ويشرب، ويتمتع كما تتمتع البهائم، قد اشتغل بدنياه عن آخرته، لم ينقد لرب العالمين، ولم يهتد بسنن سيد المرسلين، فلم يقدم لنفسه خيراً، وإنما قدم على ربه بما يضره؟. فليختر العاقل لنفسه ما هو أولى بالاختيار، وأحق الأمرين بالإيثار؟، قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 14 – 17]
الدعاء