خطبة عن النهي عن المسألة (إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ)
يونيو 29, 2024خطبة عن (من ذكريات شهر المحرم)
يوليو 1, 2024الخطبة الأولى (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (15) الأحقاف
إخوة الإسلام
تدبروا قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) إنه (سن الأربعين)، وما أدراك ما سن الأربعين، إنه السن والعمر الوحيد الذي خصه الله بالذكر في القرآن الكريم، وخصه بدعاء مميز، وما ذلك، إلا لأن سن الأربعين هو سن الاكتمال والقوة، نعم سن اكتمال الجسم والعقل، والفهم، والحكمة، وسن اكتمال النعم: من قوة في الجسم، والبنين، والمال، والجاه، وهو قمة الرشد، وتمام البلوغ، وفيه تتنزل الرسالات على الأنبياء والمرسلين، وقد تنزل الوحي على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في سن الأربعين،
وبعد سن الأربعين: يبدأ النقص، نعم النقص في كل شيء، يبدأ النقص في العمر والصحة والقوة والعقل والصبر والتحمل، وغيرها، فما بعد التمام إلا النقص، وقد أخرج الطبري بسنده قال: (لما نزلت: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة (3)، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أُكمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال: صدقت) نعم ليس بعد الكمال إلا النقص، فما من شيء في الدنيا كمل، إلا وجاءه النقصان، ليكون الكمال لله وحده سبحانه وتعالى. وفي سنن الترمذي: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ سِتِّينَ إِلَى سَبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ».
وما بعد سن الأربعين هي سنوات الإنابة، والتوبة والرجوع، سنوات محاسبة النفس، ومراجعة الأعمال، وليس معنى هذا أن يؤخر الانسان التوبة وأعمال الطاعات، والرجوع من الذنوب والمعاصي والموبقات إلى هذا السن، ولكن المعنى: أنه إذا فاتك قطار الطاعات، والعبادات، فيما مضى، فسارع الآن، كفاك غفلة، كفاك تسويف، كفاك لعب، فقد تجاوزت الأربعين، ففي الآية ترغيب وترهيب وتحذير، فإذا بلغ أحدكم الأربعين سنة، فليأخذ حذره من الله، وليبادر بالتوبة والرجوع إليه، وكأن في الآية توديع للحياة الدنيا، لأن بعد الأربعين أفول العمر، وذبول الصحة والنضارة والقوة، فالأربعون هي القمة، وهي الربوة العالية، التي ينظر المرء منها إلى سفح العمر الآخر، فيجد ما تبقى من مراحل عمره قليلا، ويدرك الانسان كم هو قريب من النهاية،
وسن الأربعين هو العمر الذي يكون الإنسان فيه قادراً على أن يفهم كل الفئات العمرية الأخرى، ويعايشها، ويتحدث معها، ويحس بمشاعرها، وأفكارها، وفي الأربعين: نكتشف بياض الشيب قد ظهر على رؤوسنا، إن لم يكن قد بدأ سابقا، ويبدأ كذلك ضعف البصر، فيقبل كل منا على النظارة، وفي الأربعين: نسمع لأول مرة من ينادينا: (تفضل يا عم)، (تفضلي يا خالة). وعمر الأربعين: هو عمر التشبع بتجارب الحياة، وهو عمر انطفاء جذوة حماس الشباب، وهو عمر الهدوء والحكمة، فمن بلغ الأربعين أو جاوزها، ولم يوجه دفة حياته لطاعة الله، فهو غافل، وهو مفتون، ولم يتعلم، ولم يتفكر، وحياته في خطر، فالإنسان يبدأ حياته طفلا ضعيفا، ثم يصبح شابا قويا، وفي سن الأربعين يبدأ الجسم ضعفا بعد قوة، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) الروم (54)، وفي سن الأربعين: يوقن الانسان أنه قد مضى من عمره الثلثان، فإذا لم يغلب خيره شره، فهو في خطر عظيم، وهو أقرب إلى الجحيم،
وسن الأربعين وما بعدها هو سن العمل، وسن العقل، وسن التقوى، وسن الرجوع الى الله، وسن البكاء على ما فات، والعمل لما هو آت، فيا من بلغت سن الاربعين، ماذا تنتظر، هل تنتظر إلا: (فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا). ويا من بلغت الأربعين كرر هذا الدعاء، وذكر به نفسك صباح مساء، قل: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (15) الأحقاف،
فللحياة أسرار، وعمر الأربعين هو أفضل وأجمل هذه الأسرار، ففي هذه السن يكون الإنسان قد استقر أسريا، ووظيفيا، واقتصاديا، واكتسب الكثير من الخبرات، في مسيرته الحياتية، وعندها تكون خطواته المستقبلية متأنية، وتكتسي بالحكمة، فلا يتسرع في حكمه على الأشياء، ولا يندفع في آرائه وأحكامه، وسبحان الله العظيم، الذي جعل سن الأربعين من دلائل نبوة سيد المرسلين، فقد أقر العلماء من غير المسلمين أن سن الأربعين هو سن الكمال بعد النقص وسن القوة بعد الضعف، وجميعهم يصرحون بأنه سن اكتمال نمو الدماغ والعقل والفهم، وهذا ما دلت عليه تجاربهم. وهذا يؤكد صدق رسالة النبي الكريم، واعجاز القرآن الكريم، فمن كان يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان لا يبلغ أشده إلا في سن الأربعين، لا أحد، بل علّمه الذي علّم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم، (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)، فينبغي للعبد الناصح لنفسه، وقد بلغ هذه السن أو جاوزه، أن يتجهز للآخرة، وأن يغتنم ما تبقى من عمره، قال مسروق رحمه الله: ” إِذَا بَلَغْتَ الْأَرْبَعِينَ، فَخُذْ حِذْرَكَ “.
فإذا لم ترجع لربك وقد بلغت هذا العمر فمتى ترجع يا بن آدم؟، إنه سؤال يهز القلوب ويشغل التفكير، فالأيام تمر أسرع مما نتوقع، والسنوات تجري بنا، ولا تعطينا فرصة لكي نصنع ما نريد، ففي سن الأربعين ندرك القيمة الحقيقية للأشياء الرائعة التي تحيط بنا ، ننظر إلى والدينا إذا كانا موجودين، أو إلى أحدهما، فنشعر أنهما كنز، وعلينا أن نؤدي حقهما ونبر بهما. وكذلك ننظر إلى أبنائنا، فنراهم قد غدوا إخوانا لنا، وننظر إلى تقصيرنا وأخطائنا، فنرى أنها لا تليق بمن هو في الأربعين،
أيها المسلمون
روى الترمذي في سننه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْظُرُونَ إِلاَّ فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ». فسارعوا بالأعمال الصالحة قبل أن تنزل بكم هذه الصوارف والمشاغل، فهل تنتظرون إلا (فقرًا مُنسيًا) أي: فقرا شديدا يشغلكم فيه جمع المال عن طاعة الله، ويغشاكم بسببه الهم، فتنسون طاعة الله، (أو غنى مطغيًا) فالكثير من الناس إذا حصل لهم السعة في الرزق، تنسيه النعم طاعة المنعم ، فيطغى ويتكبر، قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) [العلق:6-7]، (أو مرضًا مفسدًا) أي مرض يفسد البدن، أو يفسد العقل، فلا يستطيع الإنسان أن يقوم بوظائف العبودية لله، وإنما يكون مشغولا بمرضه وعلاجه وآلامه، (أو هَرمًا مُفندًا) فإذا صار الإنسان كبيرًا في السن فإنه يختلط ويتغير عقله، فلا يميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، ويتكلم بكلام خارج عن سَنن العقلاء، (أو موتًا مجهزًا) أي: موتًا سريعًا يقع بالإنسان فلا يكون هناك مهلة للتوبة والمراجعة.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)
الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
السنون تمضي، والأعمار تمر، والغفلة عن طاعة الله حجاب عظيم على القلب، فلا تكونوا من الغافلين، فيا أيها الغافل عن ربك أفِقْ من سكرتك، ويا سالكاً طريق الجاهلين، ويا راضياً بلعب الغافلين، متى نرى هذا القلب القاسي يلين، ومتى تبيع الدُّنْيا وتشترى الدين، فأفِقْ من سكرتك، وكن على يقين أنك عن قريب راحلا، فإنما هي أيام قلائل, فكل باكٍ سيُبكى، وكل ناعٍ سيُنعى، وكل مذخور سيفنى، وكل مذكور سيُنسى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى. واعلم أيها الغافل: أنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ}، واعلم أيها الغافل: أن حياتك إنما تبدأ بعد مماتك، فالعاقل من راقب العواقب، والجاهل من مضى قُدُماً ولم يراقب، فكم من يوم غابت شمسه وقلبك غائب، وكم ظلام أُسبل ستره، وأنت في معاصي وعجائب. وكم أسبغ الله عليك نعمه، وأنت على معاصيه تواظب. وكم صحيفة قد ملأتها بالذنوب، والمَلَكُ لها كاتب. وكم أنذرك الموت بأخذ أقرانك من حولك، وأنت ساه ولاعب. فأفق من سكرتك، وتذكر نزول حفرتك، فيا عجبا لألسنٍ نطقت بالآثام، كيف غفلت عن قول رب الأنام {اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهمْ}، وآه لأيدٍ امتدت إلى الحرام، كيف نسيت قول الملك العلام: {وتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ}، وآه لأقدامٍ سعت في الإجرام، كيف لم تتدبر{وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ}، وآه لأجساد تربَّت على الربا، كيف لم تفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله أبى علي أن يدخل الجنة لحما نبت من سحت فالنار أولى به) رواه الحاكم
الدعاء