خطبة عن (حرمة استغلال حاجة الناس)
ديسمبر 14, 2025الخطبة الأولى (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (105) النساء، وفي سنن الترمذي: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ».
إخوة الإسلام
إنَّ اللهَ تعالى أَنزَلَ هذا القرآنَ هُدًى للناسِ، وبيانًا للحقِّ، وتحذيرًا من الباطلِ، وجاءت الكثير من آياته لتُقوِّم السلوكَ، وتُهذِّب النفوسَ، وتضع للمجتمعِ المسلم أُسُسَ العدلِ والأمانةِ، ومن أعظمِ تلك الأُسُسِ: محاربةُ الخيانةِ بكلِّ صورِها وأشكالها، وعدمُ نصرةِ أهلِها، أو الدِّفاعِ عنهم، أو التماسِ الأعذارِ لهم، فقال اللهُ تعالى مخاطبًا نبيَّه ﷺ: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (105) النساء. أي: لا تكن مُخاصِمًا تُخاصِمُ عن الخائِنين, وتَدْفَعُ عنهُم، (فالخَصِيمُ) هنا بمعنَى: (المنتَصِر المدافِع)، فلا تُجادِل عنهم، ولا تُزيِّن خيانتَهم، ولو كانوا من أقربِ الناسِ إليك، فإنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبَع، والعدلَ أوجبُ أن يُقام.
﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ فهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ لَهَا سَبَبُ نُزُولٍ، ذَلِكَ أَنَّ طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِق سَرَقَ دِرْعًا وَخَبَّأَهَا عِنْد يَهُودِيٍّ، فَوُجِدَتْ عِنْده، فَرَمَاهُ طُعْمَةُ بِهَا، وَحَلَفَ أَنَّهُ مَا سَرَقَهَا، فَسَأَلَ قَوْمُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَادِلَ عَنْهُ، وَيُبْرِّئَهُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾. الحَدِيث مُخْتَصَر مِنْ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: فَالحَقُّ سُبْحَانَهُ وتعالى أَنْزَلَ القُرْآنَ العَظِيمَ بِالحَقِّ، لِيَكُونَ حَاكِمًا عَلَى النَّاسِ ،وَفي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾: تَعْلِيمٌ لِأُمَّتِهِ، وَلِكُلِّ قَاضٍ مِنْ بَعْدِهِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْحَازَ فِكْرُهُ إلى أَحَدِ الخَصْمَيْنِ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الخَائِنَ وَخَصْمُهُ البَرِيءَ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمَعَ البَيِّنَاتِ، وَيَجْعَلَهَا الحَاكِمَةَ.
أيها المسلمون
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (105) النساء، فالخيانةُ ليستْ خُلُقًا فرديًّا منبوذا فحسب ،بل هي جريمةٌ تهدمُ المجتمعاتِ، وتُسقِطُ القيمَ، وتُفقدُ الثقةَ بين الناس، لذا فقد حذَّر النبيُّ ﷺ من هذا الخُلُقِ الذميم، فقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»، فجعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – الخيانةَ علامةً من علاماتِ النفاق، ومن المعلوم أن الخيانةُ تتنوَّع صورُها، وتتعدد أشكالها، فمنها: الخيانةٌ في الدِّينِ، والخيانةٌ في الأماناتِ، والخيانةٌ في الأموالِ، والخيانةٌ في المناصبِ والمسؤولياتِ، والخيانةٌ في الشهادةِ والكلمةِ، والخيانةٌ في الأسرارِ والعهودِ، ومن أخطرِ صورِ الخيانةِ أن يُستَغَلَّ الدِّينُ لتبريرِ الباطلِ، أو أن يُستَعمَلَ الجاهُ والمكانةُ للدفاعِ عن الخائنين، أو أن تُحرَّفَ الحقائقُ من أجلِ نصرةِ قريبٍ، أو صاحبٍ، أو حزبٍ، أو جماعةٍ،
ومن صور الخيانة: ادعاء ما ليس للمرء، أو إنكار الحق الذي عليه، والغش في المعاملات والامتحانات والأبحاث، والزور في الشهادات، والارتشاء في الأعمال، وتقديم المصلحة الشخصية والعائلية والحزبية على المصلحة العامة، ودفاع المحامين عن المجرمين والقتلة، فهذه كلها من صور الخيانة المحرمة، والمنهي عنها، لما يترتب عليها من أضرار.
أيُّها المسلمون
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (105) النساء، فقد علَّمنا الإسلامُ أنَّ الولاءَ للحقِّ، قبلَ الولاء للأشخاص، وأنَّ العدلَ مُقدَّمٌ على العصبياتِ، وأنَّ نصرةَ المظلومِ واجبةٌ، ولو كان ضعيفًا، ومنعَ الظالمِ واجبٌ، ولو كان قريبًا، ففي صحيح البخاري: (عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ «تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»، فالدفاعَ عن الخائنين يُفسدُ الضمائرَ، ويُضيِّعُ الحقوقَ، ويُشجِّعُ غيرَهم على الخيانةِ، ويجعلُ الباطلَ قويًّا، والحقَّ ضعيفًا، وما فَشَتِ الخيانةُ في أُمَّةٍ إلا ضاعَتْ هيبتُها، وسُلِبَتْ بركتُها، وتفرَّقَ شملُها.
والمسلم الحق: هو من أسلم وجهه له، فأحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، وغضب لله، ورضي لله؛ وذلك امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام:162]، وفي سنن أبي داود وصححه الألباني: (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ»
فالدفاع عن الظالمين، ومعاونة المفسدين، والوقوف بجانب الخائنين، كبيرة من كبائر الذنوب، ويترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير، وليس الأمر مقصوراً في مناصرة الظالمين باليد، فهناك من يناصرهم بيده، وهناك من يناصرهم بعقله، وهناك من يناصرهم بلسانه، وكل ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من المفسدين والخائنين فقال كما في مسند أحمد: (فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ وَلاَ يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي)
ومن المؤسف أن إعانة الظالمين والخائنين والمفسدين أصبحت سائدةً عند الكثير من الناس ،فهو يعين من يحب مِن قبيلته، أو مذهبه، أو فئته وطائفته، أو حزبه وجماعته، أو ممن له فيهم مصلحة، فيعينهم بالحق والباطل، وبشتى أنواع الإعانات، وهذا ظلم واضح، وتعاون على الإثم والعدوان وقد قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2]،
فاتقوا اللهَ عبادَ الله، واحذروا الخيانةَ، في قليلِ الأمرِ وكثيرِه، وكونوا مع الحقِّ حيث كان، ولا تجعلوا ألسنتَكم، ولا أقلامَكم، ولا مواقفَكم خصومةً عن أهلِ الباطل.
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم
الخطبة الثانية (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (105) النساء، ينهانا الله عز وجل أن نجادلَ عن الخائنين، فإذا علمت أن إنساناً قد خانَ، أو ظلمَ، أو أجرم، أو انحرف، فلا تبرئه، ولا تزينُ فعله، ولا تردُّ عنه، ولا تحاولُ أن تقنعَ الناس بأن باطَله حق، وأن انحرافَه استقامة، وأن خبثَ نفسِه وسوءَ عملِه حق وصواب وخير، أياً كان ذلك الخائن، وفي أي موقع كان، ومهما ظننت أنك ستجد مصلحة من ورائه، فإن مصلحةَ الوقوف مع الحق أعظمُ من كل مصلحة،
واعلموا أنكم إذا كنتم مناصرين للخائنين في الدنيا، فمن ينصرهم يوم القيامة، قال تعالى: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) (109) النساء، وإن استطعتم أن تخدعوا ضعافَ العقول، وأن تقلبوا الحقائق على الجهال، فصدقوكم، واقتنعوا بأن الباطل حق، والمجرم هو المصلح، فمَن يجادل الله عنهم يوم القيامة، إذا جاءوا وقد كُتبت جميعُ أعمالِهم وألفاظِهم وتصرفاتهم وغدراتهم وفَجَراتِهم؟ ومَن الذي يجادل الله عنهم يوم القيامة: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) (18) الحاقة؟ ،
ثم يفتحُ الله بابَ الأمل لمن يريد أن يتوب ويرجع إلى الله؛ فيقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء:110]،
أيها المسلمون
وإذا كانت الخيانة جرم عظيم، فاعلموا أنَّ الأمانةَ أساسُ الدِّينِ، وأنَّ حفظَها من أعظمِ أسبابِ رفعةِ الأفرادِ والأُمم، وأنَّ التفريطَ فيها سببٌ للهلاكِ، وسوءِ العاقبة، قال اللهُ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ النساء:58،
ومن الأمانةِ: أمانةُ الكلمةِ، وأمانةُ المنصبِ، وأمانةُ المالِ، وأمانةُ المسؤوليةِ، وأمانةُ الحكمِ بين الناس، وكلُّ من خان في شيءٍ من ذلك، فهو على خطرٍ عظيم، ويكفيه وعيدُ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ الأنفال:58.
فكونوا دعاةَ عدلٍ، لا دعاةَ هوى، وكونوا أنصارَ حقٍّ، لا أنصارَ أشخاص، وراقبوا اللهَ في مواقفِكم، فإنَّ كلمةً تنطقُ بها قد تُحيي حقًّا أو تُميتَه، وقد تُقيمُ عدلًا أو تُشيعُ ظلمًا. وتذكَّروا دائمًا أنَّ الوقوفَ مع الحقِّ شرفٌ، وإن كان صعبًا، وأنَّ نصرةَ الباطلِ خزيٌ، وإن بدا نافعًا في الدنيا. وأختمُ بما بدأتُ، بقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (105) النساء.
الدعاء
