خطبة عن (عاشوراء وشكر المنعم)
يوليو 25, 2023خطبة عن : استحالة أن يكون لله ولد : (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ )
أغسطس 1, 2023الخطبة الأولى ( وَلَكُمُ الْجَنَّةُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (133) :(136) آل عمران ،وقال الله تعالى : (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (21) الحديد
إخوة الإسلام
يُحكى أن أحد الأغنياء من أصحاب رؤوس الأموال أعلن عن وظيفة لديه ،وأن الراتب الشهري لمن تنطبق عليه شروط هذه الوظيفة سوف يكون كبيرا ومغريا ،فتقدم الكثير من الراغبين في الوظيفة والراتب الكبير للفوز بها ،ولكنهم لم يهتموا بالسؤال عن شروطها ، فرسبوا في الامتحان ، وأخفقوا في الالتحاق بها، ولكن أحد المتقدمين كان فطنا ذكيا ،فسأل عن الشروط قبل أن يتقدم للوظيفة ،لكي يستعد لها ،ويهيئ نفسه قبل اللحوق بها ،فقيل له : سوف يكون اختبارك خلال الستة أشهر الأولى صعبا ،فستُختبر في أمانتك ،فإذا رأيت أشياء ثمينة ملقاة على الأرض فقم بتسليمها لهم ولا تأخذها ،وسوف تختبر في صبرك وجلدك وتحملك ،فإذا أيقظوك من نومك ،أو تأخروا عليك في طعامك ،أو كلفوك ببعض المهام الصعبة فاصبر، وسوف تختبر في ذكائك وحسن تصرفك ،وفي طاعتك وولائك لهم ،وفي نظافتك وحسن مظهرك ،وفي … ، ولأن الراتب الشهري كان كبيرا ومغريا ،فقد تقدم للعمل بهذه الوظيفة ، لينالها رغم صعوبة الوصول إليها ،وصعوبة تحقيق شروطها ،فكان كلما وجد نفسه في اختبار من الاختبارات ،أو مر بشدة من الشدائد ،أو تعرض لموقف من المواقف ،يصبر نفسه بتذكيرها الراتب الكبير ،الذي يحقق له كل رغباته ومتطلباته ،وليعيش سعيدا في حياته .. ،
ومثل هذا ما يجب على المسلم أن يعلمه ويفعله ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يدعو الناس إلى طاعة الله ،وعبادته ،والجهاد في سبيله في الحياة الدنيا ، قالوا له : وما لنا ،ما هو المقابل لكل هذه التضحيات ، فقال لهم : ( لَكُمُ الْجَنَّةُ ) ، والجنة تعني الحياة السعيدة بكل معانيها ، ولكنها ليس لكل الناس ،ولكنها لمن تحققت فيه الشروط للتقدم لها ،ففي صحيح ابن جبان، ومسند أحمد ، وغيره : (عَنْ جَابِرٍ قَالَ َ:مكَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَكَّةَ عَشَرَ سِنِينَ ،يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ وَفِى الْمَوَاسِمِ بِمِنًى ،يَقُولُ :« مَنْ يُئْوِينِي ،مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّى (وَلَهُ الْجَنَّةُ) »… ثم يقول جابر: (حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ ،فَآوَيْنَاهُ ،وَصَدَّقْنَاهُ ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ ،وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ ،فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلاَمِهِ ،حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلاَّ وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الإِسْلاَمَ ،ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعاً ،فَقُلْنَا : حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ ،فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلاً ،حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ ،فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ ،فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ ،حَتَّى تَوَافَيْنَا ،فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ :عَلاَمَا نُبَايِعُكَ ،قَالَ :« تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ ،والنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ ،وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ،وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لاَ تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ،وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي ،فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ ، (وَلَكُمُ الْجَنَّةُ) ». قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ ،فَبَايَعْنَاهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ ،فَقَالَ :رُوَيْداً يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الإِبِلِ إِلاَّ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-،وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً ،وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ ،وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ ،فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ ،وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ ،وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جَبِيَنةً ،فَبَيِّنُوا ذَلِكَ ،فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ. قَالُوا أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ ،فَوَاللَّهِ لاَ نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَداً ،وَلاَ نَسْلُبُهَا أَبَداً. قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ ،فَأَخَذَ عَلَيْنَا ،وَشَرَطَ عَلَيْنَا،(وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ) ،
وفي رواية في مسند أحمد : (عَنْ عَامِرٍ قَالَ انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَقَالَ « لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلاَ يُطِيلُ الْخُطْبَةَ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْناً وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ ». فَقَالَ قَائِلُهُمْ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ وَلأَصْحَابِكَ مَا شِئْتَ ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ. قَالَ فَقَالَ « أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي وَلأَصْحَابِ أَنْ تُؤْوُنَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ ». قَالُوا فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ قَالَ « لَكُمُ الْجَنَّةُ ». قَالُوا فَلَكَ ذَلِكَ) ،وفيه أيضا : (عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ » ،
أيها المسلمون
ولكن على من طلب الجنة : فعليه أن يسأل ويتعرف على شروطها، فالجنة سلعة الله الغالية ، فعلى من أرادها أن يتفهم شروطها ،ليساعده ذلك على تخطي الإختبارات ، والنجاح في فيها ، وأول ما يجب على طالب الجنة معرفته ،أن يعرف حقيقة الدنيا التي يعيش ويمتحن فيها ، والسسن الربانية التي تحكمها ،فالحياة الدنيا : هي سريعة الفناء ،قريبة الانقضاء ،تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء ،تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة ،وهي سائرة سيراً عنيفاً ، ومرتحلة ارتحالاً سريعاً ،ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها ،وإنما يحس عند انقضائها ، يقال: إن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك ،فاقتلعوا الخيمة ،فأصابته الشمس ،فانتبه فقام وهو يقول: ألا إنما الدنيا كظل ثنية ،ولا بد يوماً أن ظلك زائل ، وقد روي : (أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا ،فرآها في صورة عجوز هتماء ،عليها من كل زينة ،فقال لها: كم تزوجت قالت: لا أحصيهم قال: فكلهم مات عنك أم كلهم طفلك ،قالت: بل كلهم قتلت ،فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين ،كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين! كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر!.
فالدنيا دار ابتلاء وفتن واختبار وامتحان ، وليست دار نعيم ،ولن يتم الفوز والنجاح إلا من بعد امتحان يعزل الطيب عن الخبيث ،ويكشف المؤمن من الكافر ،كما قال سبحانه 🙁 مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) آل عمران :197،ومن الابتلاء الذي يبتلي الله به عباده ليتميز به المؤمن من الكافر ما ذكره الله بقوله :(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (155) البقرة ،ويبتلى الله عباده بالجهاد في سبيله لإعلاء كلمة الحق ،قال سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) التوبة (16)، وكذلك الأموال والأولاد فتنة ، يبتلي الله بهما عباده ليعلم من يشكره عليها ومن يشتغل بها عنه ، قال الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) الانفال (28)، ويبتلي الله عباده بالمصائب تارة ،وبالنعم تارة ،ليعلم من يشكر ومن يكفر، ومن يطيع ومن يعصي ،ثم يجازيهم يوم القيامة ، قال الله تعالى :(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء (35)
والدنيا دار كد وتعب ، ودار مجاهدة ونصب، قال الله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) البلد (4) ،قال سعيد بن جبير: أي في شدة وطلب معيشة، وروي عن الحسن: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة ،فالدنيا دار بلاء ومشقة وعنت، لحكمة يعلمها الله، ولعل من الحكم في ذلك أن لا يركن الإنسان إلى الدنيا فيخلد إليها ،ويظن أنها نهاية المطاف، ولكن إذا جاهد فيها ،فسيتعلق قلبه بالجنة ،وبدار لا نصب فيها ولا وصب، وسيشتاق إلى جوار الرحمن في جنة الخلد، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِىَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ » رواه الترمذي ،وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة ، نعم :{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَد} البلد4 ، فخلق الله الإِنسان لهذه الشدائد والآلام ،التي هي من طبيعة هذه الحياة الدنيا ،والتي لا يزال يكابدها وينوء بها ، ويتفاعل معها حتى تنتهي حياته ،ولا فرق في ذلك بين غني أو فقير ،وحاكم أو محكوم ،وصالح أو طالح، فالكل يجاهد ويكابد ويتعب ،من أجل بلوغ الغاية التي يبتغيها ,
والدنيا دار عمل ،فرسالة كل إنسان في نظر الإسلام إنما هي أن يعمل صالحا ، كما أرشده خالقه ،على أن تعود فائدته على الإنسان وعلى الناس أجمعين ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (15) الملك، وقال الله تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (18) :(21) الاسراء
والانسان في هذه الحياة الدنيا قد أودع الله تعالى فيه طبائع وغرائز وفطرة سليمة ،فقال الله تعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (7) :(10) الشمس ،فنَفسُ الإِنسَانِ الَّتي بَينَ جَنبَيهِ، عَالَمٌ مِنَ العَجَائِبِ وَالغَرَائِبِ، بَل هِيَ مُعجِزَةٌ مِن مُعجِزَاتِ الخَلقِ، لا يَعرِفُ حَقِيقَتَهَا غَيرُ خَالِقِهَا الَّذِي سَوَّاهَا، فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا، وَمِن أَعجَبِ مَا في تِلكَ النَّفسِ، مَا تَنطَوِي عَلَيهِ مِن صِفَاتٍ مُتَغَايَرَةٍ، وَمَا تَحمِلُهُ مِن سِمَاتٍ مُتَضَادَّةٍ، وَمَا يَعتَرِيهَا مِن إِقبَالٍ وَإِدبَارٍ وَشِرَّةٍ وَفَترَةٍ، وَطِيبٍ وَخُبثٍ وَأَمرٍ بِالسُّوءِ وَاطمِئنَانٍ إِلى الخَيرِ، وَمِن ثَمَّ فَقَد تَعَامَلَ الإِسلامِ مَعَ النَّفسِ بِكُلِّ هَذِهِ الاعتِبَارَاتِ، فَجَمَعَ لَهَا بَينَ التَّرغِيبِ وَالتَّرهِيبِ، وَزَاوَجَ في تَهذِيبِهَا بَينَ الرَّجَاءِ وَالخَوفِ، وَرَغَّبَهَا وَرَهَّبَهَا، وَالإِنسَانُ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ، فَإِذَا قُدِّرَ لَهُ مَن يُذَكِّرُهُ بِالخَيرِ وَيَدُلُّهُ عَلَيهِ، استَقَامَت نَفسُهُ عَلَى طَرِيقِ الهُدَى وَاستَحسَنَتهُ وَأَلِفَتهُ، وَإِن لم يَجِدْ مَن يُذَكِّرُهُ أَو وَجَدَ مَن يَمِيلُ بِهِ، مَالَت نَفسُهُ إِلى طَرِيقِ الفُجُورِ وَاستَمرَأَتهُ وَرَكَنَت إِلَيهِ، ومَا مِن نَفسٍ إِلاَّ وَيَتَجَاذَبُهَا ثَلاثَةَ دَوَاعٍ: دَاعٍ يَدعُوهَا إِلى الاتِّصَافِ بِأَخلاقِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الكِبرِ وَالحَسَدِ وَالعُلُوِّ وَالبَغيِ وَالغِشِّ وَالكَذِبِ، وَدَاعٍ يَدعُوهَا إِلى الاتِّصَافِ بِأَخلاقِ الحَيَوَانِ مِنَ الحِرصِ وَالبُخلِ وَالشَّهوَةِ. وثَالِثٌ يَدعُوهَا إِلى الاتِّصَافِ بِأَخلاقِ المَلائِكَةِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ، وَالإِحسَانِ وَالنُّصحِ، وَالعِلمِ وَالبِرِّ، وَالتَّسبِيحِ وَالاستِغفَارِ، وَالنَّفسُ بَينَ هَذِهِ الدَّوَاعِي فِيهَا استِعدَادٌ لِلخَيرِ وَالشَّرِّ، وَهِيَ مُنقَادَةٌ مَعَ مَن سَبَقَ، مُطَاوِعَةٌ لِمَن غَلَبَ، وَإِنَّمَا يَأتِيهَا البَلاءُ وَالشَّرُّ مِن شَيئَينِ: مِن تَزيِينِ الشَّيطَانِ لَهَا مَا يَضُرُّهَا، وَمِنَ جَهلِهَا بما يَنفَعُهَا وَيُصلِحُ شَأنَهَا، فَإِنَّ الشَّيطَانَ يُزَيِّنُ لَهَا السَّيِّئَاتِ، وَيُرِيهَا إِيَّاهَا في صُوَرِ المَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ وَالطَّيِّبَاتِ ،وَيُغفِلُهَا عَن مُطَالَعَةِ مَضَرَّتِهَا، فَيَتَوَلَّدُ مِن هَذَا التَّزيِينِ إِرَادَةٌ وَشَهوَةٌ، مَا تَلبَثُ حتى تَقوَى وَتَصِيرُ عَزمًا جَازِمًا يَقتَرِنُ بِهِ الفِعلُ، قَالَ الله سُبحَانَهُ: ﴿ فَلَولَا إِذْ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَت قُلُوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ ﴾ الانعام 43، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ لا كَمَالَ لِلإِنسَانِ وَلا نَجَاةَ لِنَفسِهِ وَلا زَكَاءَ لَهَا، إِلاَّ بِتَكمِيلِ مَرَاتِبِ الكَمَالِ الإِنسَانيِّ، بِإِصلاحِ نَفسِهِ وَإِصلاحِ غَيرِهِ، بِالعِلمِ النَّافِعِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ،والتَّواصِي بِالحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبرِ،
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( وَلَكُمُ الْجَنَّةُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
فإذا علم الانسان رسالته في هذه الدنيا ، وتعرف على السنن التي تحكم هذه الحياة الدنيا ، واستعان بربه وخالقه في اجتيازها ،حقق ما يصبو إليه ،وفاز بالسلعة الغالية ،والجزاء الأوفى ،ألا إن سلعة الله غالية ،ألا إن سلعة الله الجنة ،ففي سنن الترمذي :(أن أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ ».، وكيف لا تكون غالية ، والله تعالى يقول عنها : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) محمد 15، وقال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) الرعد 35، وقال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الغاشية (8) :(16) ،فالجنةُ هي دارُ الجزاءِ العظيم، والثوابِ الجزيل، الذي أعدَّه اللهُ لأوليائه وأهلِ طاعته، وهي نعيمٌ كاملٌ لا يشوبُه نقصٌ، ولا يعكر صفوَه كدرٌ، يقول صلى الله عليه وسلّم: “ألاَ هَلْ من مُشَمِّرٌ إلى الجنةِ، فإنَّ الجنةَ لا خطر لها، هي وَرَبِّ الكعبةِ نورٌ يَتَلأْلأُ وريحانةٌ تَهْتزُّ وقصرٌ مشِيدٌ ونهرٌ مطَّردٌ وثَمَرةٌ نضِيْجَةٌ وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ وحُلَلٌ كثيرةٌ ومُقَامٌ في أبدٍ في دارٍ سليمةٍ وفاكهةٌ وخضرةٌ وحَبْرةٌ ونعمةٌ في مَحَلَّةٍ عاليةٍ بهيَّةٍ”، قالوا: يا رسولَ الله نحن المشمِّرون لها. قال: “قولوا إنْ شاء الله”، فقال القوم: إنْ شاء الله” (رواه ابن ماجةَ).فهي دارُ الْحُسنَى والزيادة، أعدَّها اللهُ تعالى لعبادِه المؤمنين، وأكرمهم فيها بالنظرِ إلى وجهه الكريم، فيها من النعيمِ المقيمِ الأبديِّ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، قال عنها خالقُها جلَّ وعلا: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17] ،وهي البشارةُ الطيبةُ لعبادِه المتقين، (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان:51-55]. ،وهي دارُ الحبورِ والسُرورِ المقيمِ، (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ) [الزخرف:70-73]. ،وهل أرّق الصالحين وأقض مضاجع المتقين إلا أنهم يخافون أن يُمنعوا من دخول الجنة وهل عاش الأنبياء والمرسلون وأتباعهم من الأخيار عبر الدهور والعصور إلا وهم يسألون الله جل وعلا أن يدخلهم الجنة وهل خير صلى الله عليه وسلم عند موته حتى يتسنى له البقاء والخلد في الدنيا بأعظم من أن يقال له الخلد في الدنيا ثم الجنة فاختار صلى الله عليه وسلم لقاء ربه ثم الجنة وهل وعد الله جل وعلا عباده الأبرار وأتباعه الأخيار ممن آمن به من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة بعطاء هو أعظم أو أجل من الجنة {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة17] .وهل عاقب الله جل وعلا من عصاه بأعظم من حرمانه من دخول الجنة
الدعاء