خطبة عن (كَظْمُ الْغَيْظِ)
يونيو 21, 2025خطبة حول حديث ( أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ )
يونيو 21, 2025الخطبة الأولى (يُبتلى العبدُ ويُفتن لاختبار صدق وقوة إيمانه)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (3) العنكبوت.
إخوة الإسلام
من السنن الربانية: أن يُبتلى العبدُ، ويُفتن، لاختبار صدق وقوة إيمانه، فيتميز المؤمنون الصادقون من غيرهم، فالإيمان الصادق يثبت صاحبَه في الفتن، ويساعده على الصبر والتحمل، بينما تكشف الفتن ضعف الإيمان لدى البعض، وتؤدي بهم إلى الانحراف، فالفتن إذا حلَّت بالناس، أظهرت حقائقهم، وكشفت معادنهم، قال تعالى :{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37]، وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].
ومن المعلوم أن الحياة الدنيا كلها ميدان ابتلاء، ودار امتحان، والناس فيها ليسوا سواء؛ فمنهم مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ومنهم من يعبد الله على علم وبصيرة، وإيمان راسخ وعقيدة صحيحة؛ فإن أصابته فتنة صبر، فكان خيراً له، وإن أصابته نعمة شكر، فكان خيراً له، وهذا لا يكون لأحد إلا للمؤمن، فأمره كله خير، وأحواله كلها حسنة طيبة، وعواقبه كلها حميدة، قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. فالإيمان الصحيح له أثر قوي، في التغلب على المصائب والمحن، والنوازل والفتن؛ وذلك لأنَّ صاحب الإيمان الصحيح، والعقيدة السليمة، تعلَّم من دينه أموراً تُعينه على الثبات،
فالمؤمن: يعلم يقينا أنَّ خالق هذا الكون، وموجده ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له، وأنه وحده المتصرِّف فيه، وأنه لا يكون فيه إلا ما شاء تبارك وتعالى، وأن الله جل وعلا تكفَّل بنصر أهل الإيمان، وحفظ أهل الدين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7) محمد، وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].
والمؤمن يعلم يقينا أنَّ الله وعد في كتابه بخذلان الكافرين، قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة:98]، فهو سبحانه يملي للظالم ولا يهمل، وإذا أخذه لم يفلته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، والمؤمن يعلم يقينا أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها، وتستتم رزقها، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس:49]، فالآجال محدَّدة، والأعمار مؤقَّتة، فلا القصور المنيعة تحمي، ولا البروج المشيدة تمنع، ولذلك فإذا خوِّف بالذين من دون الله زاد إيماناً وثقة بالله، وتوكلاً واعتماداً عليه، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174].
والمؤمن يتوكل على الله، ويستعين به سبحانه، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة:23]، والتوكل الحقيقي لا يتم إلا بأمرين: الأول: اعتماد القلب على الله، والثاني: إثبات الأسباب والقيام بها، والمؤمن تراه مقبلاً على الله بالدعاء عند الفتن، والله تبارك وتعالى قريب من عباده، يسمع نداءهم، ويجيب دعاءهم، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62].
أيها المسلمون
إن الاختبار الحقيقي لإيمان الفرد، وقيمه وأخلاقه، وصدقه مع الله، وحبه للخير، إنما يكون في وقت الشدة، حين تضطرب الدنيا من حوله، وتموج بالفتن، فيثبت على الحق، ويتشبث بإيمانه وتقواه، وخوفه من لقاء ربه سبحانه، وفي صحيح مسلم: (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ… (اجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي. ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ. فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ)، فيستطيع المسلم – بتوفيق الله له – أن يحصِّن دينَه من الفتن، وذلك بسلوكه سبيل المؤمنين، والابتعاد عن بيئة الفساد الديني والخلقي،
ومما يعين المسلم على تحصين دينه: تقوية إيمانه، بفعل الطاعات الواجبة، وترك المنكرات المحرَّمة، ومن أعظم الطاعات الواجبة: الصلاة، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) العنكبوت:45. وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام بعموم الطاعات للنجاة من الفتن، ففي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». فهؤلاء الذين يُصبحون مؤمنين ويمسون كفاراً، أو يمسون مؤمنين ويصبحون كفاراً، كلهم يبيعون دينهم بعرَض من الدنيا،
والمؤمن يرد الفتنة بالتوجه إلى الله بالدعاء، وقد أرشدنا ربنا، وعلَّمَنا نبينا صلى الله عليه وسلم من جوامع دعائه ما ينفع من أراد حماية نفسه من الفتن، ومنه قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم) في كل ركعة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ) رواه والترمذي، وغير ذلك مما فيه الاستعانة بالله تعالى أن يهديه إلى الدين القويم ،والصراط المستقيم، وأن يثبته عليهما، وأن يدلَّه على خير طريق وأقصره مما يوصله إلى رضوانه تعالى،
ومما يعين المؤمن على الثبات في عصر الفتن: البُعد عن الرفقة السيئة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ) رواه أبو داود والترمذي، وقال الخطابي (رحمه الله): (لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته ؛ فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه ، فلا تُغَرِّرْ بدينك ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضيّاً في دينه ومذهبه)،
ومما يعين المؤمن على الثبات في عصر الفتن: تعلم العلم الشرعي، والرجوع إلى أهل العلم الثقات، فذلك مِن أعظم ما يرد به المسلم الفتنة ،ولذا كان الجاهل عرضة للفتنة في دينه ودنياه، فانظر من يطوف حول القبور ، ومن يعتقد النفع والضر بالأموات ، فإنك إن تأملت حالهم رأيتهم من الجهلاء، ومن كان منهم على علم فهو ممن باع دينه ليأكل به عرَضاً من الدنيا زائل.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (يُبتلى العبدُ ويُفتن لاختبار صدق وقوة إيمانه)
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، حمدا يوافي النعم ويكافئ المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون
أما من وقع في شيء من الفتن: فعليه أن يبادر إلى الخروج منها، والانفكاك عنها بالكلية، بالتوبة النصوح إلى الله تعالى، والندم على ما فرط في جنب الله، والعزم على ألا يعود إليها أبداً، وعليه أن يغير بيئته إلى بيئة طاهرة نقية تقية، وأن يدعو ربَّه– بصدق وإخلاص – أن يخلِّصه منها، ويعقب ذلك بالأعمال الصالحة، ويستكثر منها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) هود:114-115،
كما ينبغي على المسلم أن يكون على بينة من أمره، بصيراً بعيبه، عارفا من أين أُتي، وكيف تمكن الشيطان منه؛ فإن كانت فتنته في شهوة الفرج مثلا، فليسع جاهداً إلى تحصين نفسه بالنكاح؛ فإن عجز فليستكثر من الصوم؛ فإنه له وجاء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت الفتنة بغير ذلك من الشهوات أو الشبهات ، فليبادر بعلاجها بنقيضها.
الدعاء