خطبة عن ( خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)
نوفمبر 4, 2016خطبة عن (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)
نوفمبر 5, 2016الخطبة الأولى ( لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما (عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَأَبْشِرُوا ، فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ » . قَالُوا وَلاَ ، أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ » ، وفي رواية أخرى (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « لَنْ يُنَجِّىَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ » . قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَلاَ أَنَا ، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَاغْدُوا وَرُوحُوا ، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ . وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا » .
إخوة الإسلام
في هذا الحديث يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد , وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة ، لأن العمل بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة ، ولا أن يكون عوضا لها ; لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله , بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة , فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها ، وهو لم يوفها حق شكرها , فلو عذبه الله في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم , وإذا رحمه الله في هذه الحالة كانت رحمته خيرا من عمله ، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما (عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ لَقِيتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِى شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِي. قَالَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْراً مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَو أَنْفَقْتَ جَبَلَ أُحُدٍ ذَهَباً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَدَخَلْتَ النَّارَ ) .
أيها المسلمون
وفي قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ))، ليس فيه نفي فائدةِ العمل الصالح كما قد يتوهَّم البعض، ولكن فيه أن العملَ الصالح لا يوجب دخولَ الجنة لذاته؛ ردًّا على المعتزلة القائلين: ( إن العملَ الصالح يوجب دخولَ الجنة لذاته، وصاحب العمل الصالح يستحق أن يُدخلَه اللهُ الجنةَ ) . وكون العمل الصالح لا يُدخِل الجنةَ، فهذا لا يستلزم ألا يكونَ العملُ الصالح سببًا لدخول الجنة، فكما أن الوطءَ لا يستلزم الإنجاب، وإن كان الوطءُ سببًا في الإنجاب، وأن التداوي لا يستلزم الشفاء، وإن كان التداوي سببًا في الشفاء، وأن المطر لا يستلزم الإنبات، وإن كان المطرُ سببًا في الإنبات، والمذاكرة لا تستلزم النجاحَ، وإن كانت المذاكرة سببًا في النجاح.
أيها المسلمون
وإذا قال قائل : فكيف نُوَفِّق بين هذه الحديث الصحيح الذي يُؤكِّد أنَّ الإنسان لن يدخل الجنة بِعَمَلِهِ إنما يدخل الجنَّة بِرَحمة الله، وبين هذه الآية ومثيلاتها من الآيات التي تؤكِّد أنّ الجنَّة بالعمل، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (72)﴾ [ سورة الزخرف ] ،وللإجابة على ذلك أضَعُ بين أيديكم مثَلَين يُوَضِّحان لكم طريقة التوفيق بين هذه الآية وهذا الحديث. لو أنَّ شابًا في مُقتبل العمر تُوفِّيَ والدُه، وليس بين يديه مال يُنفقه على نفسه لِيُتابِعَ دِراسته، فجاء عمُّه وقال: يا ابن أخي، إن عاهَدْتني على التفوق فأنا أُنفقُ عليك إلى آخر مرحلةٍ من مراحل الدِّراسة، ففي السَّنة الأولى نال الدرجة الأولى فتشَجَّع العمّ وأنفق عليه، وتابع هذا الشاب دراسته إلى أن دخل الجامعة، وكليَّة الطبّ، والعمّ دائمًا يُنفق، وابن الأخ يتفوّق، وأنهى دراسته، ، وفتح عيادةً، ومرَّةً جلسا معًا يتسامران فقال الطبيب: لولا فضْلك عليّ لما كنتُ في هذا المقام، ولولا إنفاقُك لما كنتُ بهذا المقام، فقال العمّ: ولولا اجتهادك لما نِلْت ما أنت عليه، فقد حِزْت هذا بالاجْتِهاد، فنلاحظ أن كلام العمّ صحيح، وأن كلام ابن أخيه صحيح ! وكذلك فهمنا للحديث والآية : فإذا قلنا إنَّ الجنَّة هي بِعَمَل الإنسان ، فالله جلّ جلاله جعل مفتاح الجنَّة عمل الإنسان، أما الجنَّة فهي بِفَضل الله عز وجل، تمامًا لو قلتَ: أنا سأهَبكَ بيتًا ثمنهُ خمسون مليون، أنت عليك أن تقُدِّم لي ثمن المفتاح، ، ولن أُعْطِيَن البيت إلا بهذا المفتاح !
فالمفتاح لا يساوي قيمة البيت، إلا أنَّني أردتُ أن أجعل نظاما فهذا البيت أمْنحُهُ لمَن يُقدِّم لي ثمن المِفتاح.
مثلٌ آخر، لو أنَّ أبًا وعد ابنهُ بِدَرَّاجة غاليَة جدًّا لِتَفوُّقِهِ، فلمَّا تلقَّى الابن نتيجة الدِّراسة إذا بِجَلائه امتياز، فيتوجَّه مباشرةً إلى بائع الدرجات ويقول له: أعْطِني هذه الدراجة، وهذا هو الجلاء !! هل يعطيه البائع الدراجة ؟! هذه الدراجة لها ثمن يدفعُهُ الأب، ولكنّ الأب ربَطَ الدراجة بِالتَّفوُّق فالدَّراجة محظ فضْل من الأب، أما ثمنها تفوّق الابن،
فإذا قلنا في أكثر آيات القرآن إنَّ الجنَّة بالعمل أيْ أنَّ الله جلّ جلاله لِيَكون عادلاً بين خلقه ولِيكون هناك تكافؤ فُرَص، واقتِسام للجنَّة بِحَسب العمل، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (19)﴾ [ سورة الأحقاف ] ،فجعل الله هذه الجنَّة سبَبُها العمل الصالح ، أما هي فمحْض فضْل من الله عز وجل، ولذا قال علماء العقيدة: الجنّة مَحضُ فضْل، والنار محْض عَدلٍ، وعلماء النحو يقولون: هذه الباء هي باء السَّببِيَّة، قال تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (32)﴾ [ سورة النحل ] أي بِسَبب عملكم، وليس تعويضًا عن عملكم لأنَّها أكبر بِكَثير،
أيها المسلمون
وقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ ))؛ أي: إلا أن يسترَني الله برحمته، وذلك يفيد تركَ الاعتماد على الأعمال، والرُّكونِ إليها، والطمع في عفوِ ورحمة ذي الجلال والإكرام. وهذا يفيدُ عدم الإغترار بالأعمال، فمهما بلَغت الأعمالُ من العِظَم، لا بد من فضل الله ورحمتِه لتدخلَ بسببها الجنة. وفيه أن العاملَ لا ينبغي أن يتَّكِل على عمله في طلب النجاة ونَيْل الدرجات؛ لأنه إنما عمِل بتوفيق الله، وإنما ترَك المعصيةَ بعصمة الله، فكلُّ ذلك بفضله ورحمته . وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله-: وقد اشتملت هذه الأحاديث الشريفة على أصل عظيم، أما الأصل الأول : فهو: أن عمل الإنسان لا ينجيه من النار ولا يدخله الجنة، وإنّ ذلك كله إنما يحصل بمغفرة الله ورحمته. قال بعض السلف: الآخرة إمّا عفو الله أو النار، والدنيا إما عصمة الله أو الهلكة. وكان محمد بن واسع يودع أصحابه عند موته ويقول: عليكم السلام إلى النار أو يعفو الله. وأما الأصل الثاني: هو أن العمل وإن كان سببا لدخول الجنة، فإنما هو من فضل الله ورحمته. لأنه هو المتفضل بالسبب والمسبَّب المرتَّب عليه. فعند تحقيق النظر فالجنة والعمل كلاهما من فضل الله ورحمته على عباده المؤمنين؛ ولهذا يقول أهل الجنة عند دخولها: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } الأعراف (43) ،فلما اعترفوا لله بنعمته عليهم بالجنة وبأسبابها من الهداية، وحمدوا الله على ذلك كله جُوزُوا بأن نُودُوا: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } الأعراف (43) ، ومما يبين ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} التكاثر 8 ، فهذا يدل على أن الناس يُسألون عن النعيم في الدنيا، وهل قاموا بشكره أم لا؟ ،فمن طولب بالشكر عل كل نعمة من عافية وستر وصحة جسم وسلامة حواس وطيب عيش واستقصي ذلك عليه؛ لم تَفِ أعماله كلها بشكر بعض هذه النعم، وتبقى سائر النعم غير مقابلة بشكر فيستحق صاحبها العذاب. وعن وهب بن منبه قال: ( عَبَدَ عابدٌ خمسين عاماً، فأوحى الله إليه:
إني قد غفرت لك. فقال: يا رب ولِمَ لا تغفر لي ولم أذنب؟. فأذن الله لِعرق في عنقه فضرب عليه فلم ينم ولم يصلِّ، ثم سكن ونام، فأتاه ملك فشكى إليه ما لقي من ضربان العرق، فقال الملك: إن ربك عز وجل يقول: عبادتك خمسين سنة تعدل سكون ذلك العرق). وفي صحيح الحاكم عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً عن جبريل عليه السلام:( إن عابداً عبد الله – عز وجل – على رأس جبل في البحر خمسمائة سنة ثم سأل ربه أن يقبضه ساجداً. قال جبريل: فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا، ونجد في العلم أنه يُبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول الرب عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول العبد: بعملي يا رب، يفعل ذلك ثلاث مرات. ثم يقول الله تعالى للملائكة: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فيجدون نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نعم الجسد له. فيقول: أدخلوا عبدي النار. فيُجر إلى النار فينادي: برحمتك يا رب أدخلني الجنة، فيدخله الجنة. قال جبريل: إنما الأشياء برحمة الله يا محمد ) . فمن حقق معرفة هذه الأمور، عَرَفَ أن العمل وإن عظم فإنه لا يستقل بنجاة العبد، ولا يستحق به على الله دخول الجنة، ولا النجاة من النار. وحينئذ فيفلس العبد من عمله وييأس من الاتكال عليه ومن النظر إليه وإن كثر العمل وحسن. فكيف بمن ليس له كثير عمل، وليس له عمل حسن؟ فإن هذا ينبغي أن يشغله الفكر في التقصير في عمله، ويشتغل بالتوبة من تقصيره والاستغفار منه. فإذا تقرر هذا الأصل الشريف العظيم، فيتعين على العبد المؤمن الطالب للنجاة من النار ولدخول الجنة، وللقرب من مولاه والنظر إليه في دار كرامته، أن يطلب ذلك بالأسباب الموصلة إلى رحمة الله وعفوه ومغفرته ورضاه ومحبته. فبها ينال ما عند الله من كرامة. إذ الله سبحانه وتعالى قد جعل للوصول إلى ذلك أسباباً من الأعمال التي جعلها موصلة إليها، وليس ذلك موجوداً إلا فيما شرعه الله لعباده على لسان رسوله. قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الاعراف 56 ،وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الاعراف 156 ، فالواجب على العبد البحث عن خصال التقوى وخصال الإحسان التي شرعها الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، والتقرب بذلك إلى الله عز وجل ، فإنه لا طريق للعبد يوصله إلى رضى مولاه وقربه ورحمته وعفوه ومغفرته سوى ذلك.
أيها المسلمون
وقوله صلى الله عيه وسلم : « سَدِّدُوا وَقَارِبُوا »،فهذا يعني: التوسط في العبادة فلا يقصِّر فيما أُمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه. ونعلم أن الذين يكلِّفون أنفسهم بعبادات لا يستطيعون القيامَ بها، أنهم يخالفون أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – ويخالفون هَدْي النبي – صلى الله عليه وسلم – ويخالفون مقصودَ الشرع، فلم يسدِّدوا ولم يقاربوا، بل شدَّدوا على أنفسهم. وفيه أمرٌ بتصحيح العقيدة، ونهي عن الشرك؛ لأن السدادَ ليس في القول والفعل فحسب، بل أيضًا في الاعتقاد، والأمر باستقامة المعتقد يستلزم النهي عن الشرك، وفي النهي عن الشرك قال – تعالى -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]. وفيه النهي عن التقصير في الطاعات؛ لأن الأمر بالسداد أمرٌ بفعل الطاعة كما ينبغي، والتقصير يخالف ذلك. وفيه الأمرٌ بالإخلاص في العمل، ونهي عن الرياء؛ لأن العمل كي يكون سديدًا صوابًا، لا بد من إخلاص النية؛ بأن يقصِد المرءُ بعبادته التقربَ إلى الله – سبحانه وتعالى – والتوصل إلى دار كرامته؛ كما قال – تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]؛ أي: وما أُمِروا في سائر الشرائع إلا ليعبدوا اللهَ وحده، قاصدين بعبادتهم وجهَه، مائلين عن الشرك إلى الإيمان. وفيه أمرٌ بموافقة الشرع، ونهي عن البدعة؛ لأن العمل كي يكونَ سديدًا صوابًا لا بد من موافقةِ ما شرعه الله، وما شرعه الله هو ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – فمن أتى بما لم يكن عليه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – فعمله ليس بصوابٍ، بل عمله مردودٌ، بل يأْثَم على فعله، وفي حُرمة الإتيان بفعل ليس على هَدْي النبي – صلى الله عليه وسلم – ففي الصحيحين قال رسول – صلى الله عليه وسلم -: « مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ » أي: الأمرُ الديني المُحدث مردودٌ باطل. وقال النبي – صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود وغيره :« أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». والعمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإن كان صوابًا ولم يكنْ خالصًا، لم يُقبَل؛ حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكونَ لله، والصواب أن يكون على السنَّة. وفيه دليلٌ على وسطية الدين واعتداله، فلا يأمر الدينُ إلا بالقصد والاعتدال، وإعطاء كلِّ ذي حق حقَّه؛ لأن السداد هو التوسط والاعتدال في العمل بلا إفراط أو تفريطٍ، وألا يجورَ شيء على شيء ، ففي صحيح البخاري :(فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . فَأَتَى النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – « صَدَقَ سَلْمَانُ » ،ومن تتبَّع الشريعةَ في أحكامها، وجدها تنحو المنحى الوسط في الأمور، وتقصِد الاعتدالَ في كل ما يقوم به المكلَّفون من أعمال؛ فالخروج عن ذلك إلى التشديد أو التخفيف المُفرِط، خروجٌ عن مقصد الشريعة، وهو أمرٌ مذموم لا ممدوح.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (لاَ يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وفي قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((قاربوا)) بعد قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((سددوا)): إشارةٌ إلى سماحة الشريعة ويُسْر الشريعة، وأنها بُنِيت على القصد والاعتدال، ورُوعِي فيها اجتنابُ التشديد أو التخفيف الذي يؤدي إلى التحلُّلِ من أحكام الإسلام؛ فالمطلوب: الاستقامة، وهي السداد، وفعل المطلوب على وجه الكمال، فإن لم يستطعِ الشخص الأخذَ بالأكمل، فليعمل بما يقرب منه، والمقاربة دون السداد؛ أي: يُكتفى منك في الشرع بالمقاربةِ رفعًا للحرَج، فالعبدُ يتَّقي اللهَ قدر استطاعته؛ كما قال – سبحانه وتعالى -: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].
واكتفاءُ الشرع بالمقاربة دون السداد عند عدم القدرة على فعل السداد – دليلٌ على أن الدِّين يُسرٌ لا عُسر فيه ولا حرَج، وليس في أحكامه ما يجاوز قُوى الإنسان، أو ما يُعنته، وقد جاءت الكثيرُ من النصوص التي تحمل هذا المعنى؛ كقوله – تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، وقال – تعالى -: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]. وأما قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أبشروا))، يعني: إذا سدَّدتم أصبتُم، أو قاربتُم الصواب واقتصدتُم في العبادة بلا إفراط أو تفريطٍ، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير؛ لأن البِشارة المطلَقة لا تكون إلا بالخير. ويعني: أن من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال. فإن الاقتصاد في سنة خيرٌ من الاجتهاد في غيرها، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله من غيره. وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، ولكن بكونها خالصةً لله عز وجل، صواباً على متابعة السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان لله أعرف وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك، وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح. ولهذا قال بعض السلف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره. وقال بعضهم: الذي كان في صدر أبي بكر رضي الله عنه المحبة لله ورسوله والنصيحة لعبادة. وقال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صوماً وصلاةً من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيراً منكم. قالوا: وبما ذاك؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة. وهذه الحال ورثوها من نبيهم صلى الله عليه وسلم، فإنَّه كان أشدَّ الخلقِ فراغاً بقلبه من الدنيا، وتعلقاً بالله وبالدار الآخرة مع ملابسته للخلق بظاهره، وقيامه بأعباء النبوة وسياسة الدين والدنيا. وقوله صلى الله عليه وسلم : « وَاغْدُوا وَرُوحُوا ، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ . وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا » يعني أن هذه الأوقات تكون أوقات السير إلى الله بالطاعات وهي: آخر الليل وأول النهار وآخره. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأوقات في قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} الانسان 25، 26 ، فهذه الأوقات الثلاثة منها وقتان وهما أول النهار وآخره يجتمع في كل من هذين الوقتين عمل واجب وعمل تطوع، فأما العمل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر وهما أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة. وأما عمل التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس. وأما الوقت الثالث فهو الدُّلجة. وهو آخر الليل وهو وقت الاستغفار ، كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} آل عمران 17 ، وهو آخر أوقات النزول الإلهي المتضمن لاستعراض حوائج السائلين، واستغفار المذنبين، وتوبة التائبين. فمن عجز عن مشاركة المحبين في الجري معهم في ذلك المضمار فلا أقلَّ من مشاركة المذنبين في الاعتذار. قال طاووس: ما كنت أظن أن أحداً ينام في السحر.
وقد روي أن الأشتر دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد هدأة من الليل وهو قائم يصلي، فقال: يا أمير المؤمنين صوم بالنهار وسهر بالليل وتعب فيما بين ذلك! فلما فرغ من صلاته قال: سفر الآخرة طويل يحتاج إلى قطعة بسير الليل وهو الإدلاج. وقال خليد العصري: إن كل حبيب يحب أن يلقى حبيبه، فأحبوا ربكم وسيروا إليه سيراً جميلاً لا مصعداً ولا مميلا. وقال ذو النون: السفلة من لا يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرَّفه. قال ابن مسعود رضي الله عنه : الصراط المستقيم، تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه الجنة، وعن يمينه جَوَادٌّ، وعن يساره جَوَادٌّ، وثم رجال يدعون من مر بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على السراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الانعام 153. فربما سلك الإنسان في أول أمره على الصراط المستقيم، ثم ينحرف عنه في آخر عُمُره فيسلك بعض سبل الشيطان فينقطع عن الله فيهلك، ففي الصحيحين : (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، حَتَّى لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا » ،وربما سلك الرجل أولاً بعض سبل الشيطان ثم تدركه السعادة فيسلك الصراط المستقيم في آخر عمره فيصل به إلى الله. والشأن كل الشأن في الاستقامة على الصراط المستقيم من أول السير إلى آخره، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} المائدة 54. وما أكثر من يرجع أثناء الطريق أو ينقطع، فإنَّ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، و : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ابراهيم 27. خليلي قُطّاع الفيافي إلى الحمى كثير وأما الواصلون قليل ،وفي سنن الترمذي وغيره :« يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِى وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَىَّ شِبْرًا اقْتَرَبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ».
أيها المسلمون
إن فضل الله علي عباده كبير ووفير, ونعم الله لا تحصي ولا تعد, يقول تعالي:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (18) النحل, ولو حاول الإنسان أن يؤدي شكر نعمة واحدة من أنعم الله عليه ما استطاع إلي ذلك سبيلا, ومع ذلك يربو فضل الله ويزداد برغم تقصير العبد, لأن الفضل شأن الرب, والنقص شأن العبد. وإن الفضل لا يتبدى في مجرد الإحسان من الله برغم التقصير من العبد, وإنما يتبدى في محاسبة الله لعباده، فهو يثيبهم علي الحسنة بعشر أمثالها, والله يضاعف لمن يشاء, ولا يحاسبهم علي السيئة إلا بمثلها، بل إن الفضل يزيد ويربو ،فحينما نعلم أن الله سبحانه وتعالي يثيب العبد حينما يهم بحسنة حتي لو لم يفعلها, ويعفو عن العبد حينما يهم بسيئة ولا يفعلها إذ كان مقتضي العدل ألا يثيب من هم بالحسنة ولم يفعلها ما دام لا يعاقب من هم بالسيئة ولم يفعلها لكن الله سبحانه وتعالي ذو فضل عظيم. ولذلك فإن سعي الإنسان في الحياة مهما بلغ لا يصل به إلي الجنة, لكن رحمة الله ورأفته بعباده جعلت الجنة إرثا للمؤمنين من عباد الله وكأنهم يستحقونها عن جدارة واستحقاق, وفي صحيح البخاري :(عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ » . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُذِّبَ » فالرسول بهذا الحديث يرشدنا إلي أن فضل الله الذي يهدينا إلي طريق الجنة, أما عمل الإنسان مهما بلغ فهو يقصر به عن أن يبلغه الجنة.
الدعاء