خطبة عن (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)
نوفمبر 30, 2016خطبة عن (الفرح :متى يكون محمودا؟ ومتى يكون مذموما؟)
ديسمبر 5, 2016الخطبة الأولى ( لا تيأس ) (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته على لسان نبيه يعقوب عليه السلام : ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (87) يوسف
إخوة الإسلام
اليَأْس هو القُنوط، ، وهو نقيض الرجاء ، واليَأْس صفة من صفات الكافرين ؛ لأن سببه تكذيب الربوبية، أو جهلٌ بصفات الله من قدرته وفضله ورحمته. واليأس هو شعور يصيب الإنسان كدليل على فقدان الأمل في تحقيق أمر ما، وقد يؤدي اليأس إلى تحريك مشاعر وعواطف أخرى مثل الاكتئاب والإحباط وفقدان الثّقة بالنفس والأمل والرجاء ضد اليأس والقنوط.. فإن الأمل والرجاء ، يحمل معنى البشر وحسن الظن بالله تعالى، بينما اليأس معول الهدم الذي يحطم في النفس بواعث العمل، ويُوهن في الجسد دواعي القوة. ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: “الهلاك في اثنتين: القنوط والعُجب”.. فالقنوط هو اليأس، والعجب هو الإعجاب بالنفس والغرور بما قدمته، قال الإمام الغزالي: “إنما جمع بينهما: لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب، والجد والتشمير، والقانط لا يسعى ولا يطلب، لأن ما يطلبه مستحيل في نظره”. واعلم أخي : أن اليأس لا يقدم حلولا ولا يصنع شيئا سوى مزيد من المصاعب، وعندما لا يتحقق لك أمر حاول مرارا وتكرارا فقطرة المطر تحفر الصخر ليس بالعنف ولكن بالتكرار، ربما لم يبق على النجاح إلا القليل ، ثم آمن بقدراتك، فلا تيأس أبدا ، فمن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي قادر على إخراج أمنياتك من حلم إلى واقع، وكل التأخيرات في حياتك هي لحكمة بالغة يعلمها الله وحده، سلم أمرك لله ، وثق به ، ولا تيأس ما دام ربك يناديك بألا تيأس من رحمته ،وأنه سييسر لك الخير ويتحقق ذلك بالدعاء والتوجه إلى الله تعالى، وفي صحيح مسلم: (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ». واعلم أن كل إنسان منا لا بد أن يمر بالضيق والفرج والمرض والصحة، فلا بد من الفرج بعد الضيق، وإذا كان في الدنيا ما يبعث على الأسف مرة ففيها ما يبعث على الحمد والسعادة آلاف المرات. فلكل إنسان مواهب متعددة كامنة في النفس، قد لا يعلم بها فلا ييأس إذا فشل في تحقيق موهبة وإبداع ما، عليه أن يحاول من مسار وموهبة أخرى، فحتما سوف يحقق مبتغاه. ومن أراد أن يتجاوز مرحلة اليأس لا بد له من القيام بأمور من أهمها : تعزيز الثقة بالله ومحاولة حل مشكلاتك وتعزيز ثقتك بنفسك، والإيمان بإمكانياتك وقدراتك، وعلى كل يائس أن يعلم أن السهم يحتاج أن يجذب للخلف لينطلق بقوة إلى الأمام.
والإنسان في هذه الحياة الدنيا معرضٌ للخير والشر، فقد اقتضت سنة الله أن يختبر عباده ببعض الابتلاءات؛ ليعرف الذين يصبرون والذين لا يصبرون، قال تعالى : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ) [محمد:31]. وقد يكون هذا الابتلاء في الأموال بالخسران والضياع، وقد يكون في الأولاد والأقارب بموتهم وفقدهم، وقد يكون الابتلاء في الإنسان نفسه بتعرضه للمرض والجوع والمهالك، قال تعالى ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) [البقرة:155]. وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بتحمل هذه الابتلاءات مستعينين بالصبر والصلاة، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [البقرة:153]. وأمرنا تبارك وتعالى أن لا نيأس من رحمته، فقال تبارك وتعالى: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) [يوسف:87]. وقد وعـد الله الصـابرين بأحسـن الجزاء كما قال تبارك وتعالى:
(وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) [الإنسان:12].وقال تعالى 🙁 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) [فصلت:35]. وقال سبحانه: ( إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ) [المؤمنون:111]. وقد أكد الله في القرآن أن كل عُسْرٍ لا بد أن يعقبه يُسْر، فقال سبحانه: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) [الشرح:5-6]. وعلى الإنسان أن يعلم أن الابتلاء من الله دليلٌ على حب الله له، وأنه كلما عَظُم البلاء والاختبار عَظُم الجزاء من عند الله، ففي سنن ابن ماجة ومسند أحمد وسنن الترمذي (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ « عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِىَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ ». وفي البخاري يقول صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ » ومما لا شك فيه أن فرج الله قريب، وما على الإنسان إلا أن يبذل ما يستطيع من الأسباب المشروعة في دفع البلاء، مع صدق التوجه إلى الله بالدعاء والاستغفار؛ راجياً أن يفرج كربته ويزيل ما ألَمَّ به من المصائب، وأن يلزم نفسه الصبر. وعلى العبد أن يفوض أمره إلى الله، مع صدق التوكل عليه، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) [الطلاق:3]. وعلى الإنسان أن يؤمن إيماناً قاطعاً بأن الله قريبٌ، مجيب دعوة الداعي إذا دعاه، قادرٌ على أن يذهب ما ألَمَّ به من ضيقٍ وهمٍّ مهما كان حجمه ونوعه، قال تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) [البقرة:186]. فالله تبارك وتعالى لا يضجر من كثرة إلحاح الملحين، ولا يمل من سماع دعوة الداعين، بل يحب ذلك من عبده. وربَّ نازلةٍ يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرجُ
أيها المسلمون
والمؤمن إذا وقع في معصية أو ذنب ، لا ييأس من روح الله ، ولا يقنط من رحمته ،، وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب التوبة والرحمة واسع، قال الله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ﴾ [التوبة: 104]، وقال تعالى:
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110]، فيا أيها المذنب العاصي ، اعلم أن أعظم من الذنب أن يظن العاصي أن الله لا يغفر الذنب، وأن ييأس من المغفرة وهذه هي التي يود إبليس أن يفوز بها، وكيف ييأس من المغفرة من له رب رحيم ألم تعلمي قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ). رواه مسلم.
فهذا مما يبعث الأمل في النفس فباب التوبة مفتوح والرب سبحانه رحيم وعد من تاب بالمغفرة بل ونهى من أسرف على نفسه وتكرر منه الذنب نهاه عن اليأس من قبول توبته مهما عظم ذنبه وتكرر منه. فقال سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) . {الزمر:53}.
فإن الله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ،فرحمته وسعت كل شيء. والتائب حبيب لله وإن تكرر منه الذنب ما دام يتوب ويرجع ويندم ويشعر بالتقصير فإن ضعف بعد ذلك- ومَنْ مِن الخلق لا يضعف- فعمل الذنب نفسه أو ذنبا غيره ثم ندم وتاب غفر الله له. وهذه الحقيقة ظاهرة في هذا الحديث الصحيح العظيم.فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ:( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ) . رواه مسلم. وأنت أيها المريض ، لا تيأس من رحمة الله، وتذكر أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه القادر على كل شيء، ” إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ” [يس: 82]، فكم من مريض يئس الأطباء من دوائه، وقنطوا من شفائه، فتضرع إلى الله واستمطر رحمته، وألح عليه في الدعاء بالشفاء، ” وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ” [الشعراء: 80]، فاستجاب الله له الدعاء، وكشف البلاء، حتى حار في أمره الأطباء، وذهلوا وعلموا أن الشفاء بيد خالق الشفاء .
فاحذر أن تيأس من رحمة الله.. فإن يأسك جهل بالله، لما ينطوي عليه من تجاهل لقدرته.. واستكبار على الاستعانة بعظمته.. فالله أعظم من أن يعجزه شفاؤك.. وأرحم من أن يرد دعاءك . فإن تمادى بك المرض فترة ، أو دعوت فتأخرت الإجابة فلا تيأس من ربك.. ولا تستعجل الإجابة.. فقد يكون تأخيرها رحمة بك.. وقد يكون اختبارا لإيمانك ويقينك ! تأمل في قول الله جل وعلا عن أيوب : ” إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ” [ص: 44]، فكيف وجده صابرا ؟ لقد ابتلاه في جسده حتى نفر منه الناس كل الناس إلا زوجه، واثنان من أصحابه، ثم لم يزل الصاحبان معه حتى جاء يوم فقال أحدهما للآخر : إنما ابتلي أيوب بما ابتلي به بسبب ذنب فعله ! فانظر إلى هذا البلاء ! ثم انظر إلى مدته.. فقد لبث به ثماني عشرة سنة.. لم يجزع ولم يضجر.. ولم يتوان عن طاعة الله ولم يتأخر ! ولم يتسخط من تأخر الدعاء ولم ييأس.. كل هذا وعين الله تراه وترعاه.. فلما علم الله منه ذلك، شهد له بالصبر.. وامتدحه به وبالإنابة إليه.. وأبدل مرضه شفاء، وكفاه وأغناه . فتضرع إلى الله بثقة وعزم.. ونية وإخلاص.. فإنه سبحانه أقرب إليك من حبل الوريد.. وهو نعم المداوي ونعم الطبيب . أخي المريض : فها قد علمت أن مرضك.. مهما كان سببه.. ومهما عظم خطبه.. فهو رحمة من الله.. يغفر به ذنبك.. وتمحى به سيئاتك.. وترفع به درجاتك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة» [رواه الطبراني في الأوسط] . فتذكر أنه نعمة باعتبار ثماره.. وإن كان ظاهره نقمة باعتبار أضراره ! وتذكر أيضا أنه مهما طال فهو في النهاية إلى زوال.. وأن خيره وفضله وثوابه جزيل في المآل ! فاحذر أن تفوت على نفسك فرصة قطف ثماره ! واحذر من الجزع على أضراره.. فإنه نقمة في طياتها نعمة.. وبلية في طيتها مزية.. ومحنة في طيتها منحة.. فاكسبها إذن بحسن الصبر.. وأدب الرضا.. والاستسلام لحكم الله وقضائه، بل من عمق فقهك وجميل فهمك أن تشكر الله جل وعلا وتحمده على كل حال.. لأنه سبحانه أصاب منك.. وهو سبحانه إذا أصاب عبده بشيء فإنما أراد به خيرا،
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ » [رواه البخاري] . وهذا الفقه أعمله السلف الصالح في حياتهم، فكانوا يفرحون بالمرض والبلاء كما يفرحون بالنعمة والرخاء . عاد رجل من المهاجرين مريضا فقال : ” إن للمريض أربعا : يرفع عنه القلم، ويكتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته، ويتبع المرض كل خطيئة من مفصل من مفاصله فيستخرجها، فإن عاش عاش مغفورا له، وإن مات مات مغفورا له، فقال المريض : اللهم لا أزال مضطجعا “.. أيها المسلم.. وأيها المهموم : اعلم أن هناك فتحاً مبيناً، ونصراً قريباً، وفرجاً بعد شدة، ويسراً بعد عسر، وإن هناك لطفاً خفياً بين يديك، ومن خلفك، وهناك أملاً مشرقاً، ومستقبلاً حافلاً، ووعداً صادقاً،
( وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ) [الروم:6]. فإن لضيقك فرجةً وكشفاً، ولمصيبتك زوائل، وإن هناك أنساً وروحاً وندىً وطلاً وظلاً. فآن لك أن تداوي الشك باليقين، والتواء الضمير بالحق، وعوج الأفكار بالهدى، واضطراب المسيرة بالرشد. آن لك أن تقشع عنك غياهب الظلام بوجه الفجر الصادق، ومرارة الأسى بحلاوة الرضا، فيا من أصابه الأرق، أبشر بالصبح، فإن الصبح قريب، صبحٌ يملأك نوراً وحبوراً وسروراً.. ويا من ملأت عينيك بالدمع: كفكف دموعك وأرح مقلتيك، واهدأ، فإن لك من صانع الوجود ولاية، وعليك من لطفه رعاية. اطمئن -أيها العبد- فقد فُرِغ من القضاء، ووقع الاختيار، وحصل اللطف، وذهب ظمأ المشقة، وابتلت عروق الجهد، وثبت الأجر عند من لا يخيب لديه السعي. اطمئن يا عبد الله : فإنك تتعامل مع غالبٍ على أمره، لطيفٍ بعباده، رحيمٍ بخلقه، حَسَنِ الصنع في تدبيره.
اطمئن فإن العواقب حسنة، والنتائج مريحة، والخاتمة كريمة: بعد الفقر غنى، وبعد الظمأ رِي، وبعد الفراق اجتماع، وبعد الهجر وصْل، وبعد الانقطاع اتصال، وبعد السهاد نومٌ هادئ، قال تعالى ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ) [الطلاق:1] ، أيها المعذبون في الأرض بالجوع، والضنك، والألم، والفقر، والمرض: أبشروا، فإنكم سوف تشبعون، وتسعدون، وتفرحون، وتصحون، فلا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكَسِر ومن يتهيّب صعود الجبالِ يعش أبد الدهر بين الحُفَر وحقٌ على العبد أن يظن بربه خيراً، وأن ينتظر منه فضلاً، وأن يرجو من مولاه لطفاً، فإن مَن أمرُه في كلمة (كُنْ) جديرٌ بأن يوثق بموعوده، وأن يتعلق بعهوده، فلا يجلب النفع إلا هو، ولا يدفع الضر إلا هو، وله في كل نَفَس لطف، وفي كل حركة حكمة، وفي كل ساعةٍ فرج. فالله جعل بعد الليل صبحاً، وبعد القحط غيثاً، يعطي ليُشْكر، ويبتلي ليَعْلَم مَن يصبر، يمنح النعماء ليسمع الثناء، ويسلط البلاء ليُرْفع إليه الدعاء، حريٌ بالعبد أن يقوي معه الاتصال، ويمد إليه الحبال، ويُكثر السؤال،
أيها الإخوة المؤمنون
لا تيأسوا، لا تيأسوا، وثقوا بوعد الله، واملأوا القلوب يقيناً وإيماناً فإن الله لا يخذل مَن صدق في توكله عليه، وسعى وتلمس الأسباب التي تفرج همه وكربه، وتقرّبَ إلى ربه بالطاعات والعبادات، وتحرى ساعات الاستجابة؛ فإن الفرج قادمٌ بعد الشدة، فالمؤمن مبتلى، ولو احتسب الأجر فيما جرى له وما لقي في هذه الدنيا لعوض الله صبره خيراً في الدنيا والآخرة. ومَن لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب.
تعلموا الدعاء، تعلموا كيف ندعو ربنا في الملمات، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم ما ترك لنا باباً إلا وعلمنا الدعاء فيه
يا صاحب الهمِّ إنَّ الهم منفرجٌ أبشِر بخيرٍ فإنَّ الفارج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيأسنَّ فإنَّ الكافي الله
الله يُحدِث بعد العسر ميسرة لا تجزعنَّ فإن القاسم الله
إذا بُليت فثِقْ بالله وارضَ به إنَّ الذي يكشف البلوى هو الله
واللهِ ما لكَ غير الله من أحدٍ فحسبُك الله في كلٍ لك الله
أخي الموحد
لا تيأس ما دامَ ربُّك من فوق سبع سماوات يُناديك بألا تيأس من رحمته وأنه سيُيسِّر لك الخير، وما أراده لك، وإن كان ذلك عكس ما تُريد؛ لأنك بعد أيام ستَشعُر أن حصول هذا الأمر أو ذاك فجَّر يَنابيع السعادة من تحتِك، وأمطر عليك خيرًا سواء من مال أو راحة أو طمأنينة أو حياة قيم ومبادئ فيك. لا تيأس ما دامت روحك تنبض بالحياة، وقلبك عامرًا بالإيمان، وما دام جسدُك في كامل قواه، انفضْ عنك الكسل، وابدأ بالسعي والعمل، ويا من غرَّك طول الأمل، فلا تأمل من الغد خيرًا ما دمتَ لم تجهز له، ولا تشتم ماضيك وأنت من سطَّره، أفتُريد أن تسعى إليك المسرّات وأنت قاعد لا تُحرِّك ساكنًا في ظل الأحلام، عائشًا تُجيد الحُلم لكنك لا تجيد التخطيط والعمل؟! إن هذا لشيء عُجاب،
واعلم أن بعد الألم حلاوةً، وبعد العمل مكانة، وبعد التعب راحةً، فاعمل اليوم بجدٍّ لترتاح غدًا، ولا تجعل اليأس يَسكُن أحشاء أهدافك فيكون مقيدًا لها، انفضْ عنك اليأس، واجعل الأمل عقدًا في عنق أهدافك، ويَسكن أحشاءها، فإن الأمل سيَجعلك تعمل بكل قواك، وما تلبَث إلا وقد حقَّقت نجاحًا باهِرًا صار يُزاحم النجوم في السماء، فالشر موجود فأوجد الخير ليتصدى له، كذلك الأمل وجد ليتصدى لليأس. مهما طال الزمان وزادت شدة الظلام، فإن بعد الظُّلمة فجرًا باسما مُتلألأ بالحب والإحسان، انهَض رعاك الله، وابدأ مشوارك، وحدِّد الطريق الذي ستَسلُكه، وخذ من النمل عبرة، ومن نكَد العيش خِبرة تُمكِّنك من التعامل مع المُلمات التي تحلُّ بك. انطلِق ولا تيأس ما دام الوجود يعزف لحنًا عذبًا، والأنسام ترقص فرَحًا، والغيوم تُحلِّق استبشارًا، والطير يزفُّ إليك انطلاقًا وتحرُّرًا من عبودية الشهوات، فالربيع إذا أقبل أراك البهجة والسرور، وجعل داخلك حياةً خضراء جميلة تدبُّ فيك كما يدب النمل في التراب. لا تيأس مهما رأيت من الناس ما يكدِّر خاطرك؛ فإن إرضاءهم غاية لا تُدرك، فلا تَسع وراء شيء لا يتحقَّق، وتَبني مستقبلك وَفق ما يريدون؛ لأنك لن تسعد أبدًا. لا تيأس مهما جرى؛ لأن اليأس ليس مِن صفاتك. وكن في المثابرة كالنَّملة، تحمل الحبة مائة مرة وهي تَسقط منها، فلا تكلُّ ولا تملُّ حتى توصلها إلى مستودعها، فسبحان مَن وهبَها العزم والإصرار، رغم العقبات والمصاعب التي تمرُّ بها لكنها تصرُّ على تحقيق مُبتغاها والوصول إلى هدفها (إن في ذلك لعبرة)!!
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( لا تيأس ) (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
إن حالة ضيق الصدر تجعل العبد أحياناً حبيس الهواجس والوساوس، فيبقى أسيراً لكيد الشيطان، مرتهناً بقوة تلبيسه عليه وبضعف مجاهدته له ، وأقدم إليكم بعضا من الأسباب التي تعين المسلم على انشراح الصدر ، وجلاء الهم وضيق الصدر : وأول هذه الأسباب : قوة التوحيد وتفويض الأمر إلى الله وحده : فإنه من أعظم الأسباب لشرح الصدور وطرد الغموم، بل هو أجل الأسباب وأكبرها وقوة التوحيد، وتفويض الأمر إلى الله وحده :- بأن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً لا شك فيه ولا ريب أن الله عز وجل وحده هو الذي يجلب النفع ويدفع الضر، وأنه تعالى لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه، عدلٌ في قضائه، يعطي مَن يشاء بعدله، ويمنع ويبتلي مَن يشاء بعدله، قال تعالى (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) [الكهف:49].. وقال تعالى (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46]. فعلى العبد أن يحرص على عمارة قلبه بهذه الاعتقادات وما يتبعها، فإنه متى كان كذلك أذهب الله غمه، وأبدله من بعد خوفه أمناً. يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: “فمحبة الله تعالى، ومعرفته، ودوام ذكره، والسكون إليه، والطمأنينة إليه، وإفراده بالحب والخوف، والرجاء، والتوكل، والمعاملة، بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإراداته، هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين، وحياة العارفين”. ومن هذه الأسباب التي تذهب الهم وتشرح الصدر : حسن الظن بالله ::- وذلك بأن تستشعر أن الله تعالى فارج لهمك، كاشفٌ لغمك، فإنه متى ما أحسن العبد ظنه بالله فتح الله عليه من بركاته من حيث لا يحتسب. فعليك يا عبد الله بحسن الظن بالله، ترى مِن الله ما يسرك، فإن الله يعامل العبد بحسب ظنه به، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِي إِنْ ظَنَّ بِي خَيْراً فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ ».
فأحسن ظنك بالله، وعلِّق رجاءك به، وإياك وسوء الظن بالله، فإنه من الموبقات المهلكات، قال الله تعالى: ( الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) [الفتح:6].
ومن الأسباب في انشراح الصدور: كثرة الدعاء والإلحاح على الله بذلك :-لأن من أعظم أسباب انفراج الهموم والغموم: التوجه إلى الله بالدعاء في الليل والنهار، في السراء والضراء، على كل حال، والله يحب أن يدعوه العبد، وسوف يجد الفرج ، فيا من ضاق صدره، وتكدر أمره: ارفع أكف الضراعة إلى مولاك، وبث شكواك وحزنك إليه، واذرف الدمع بين يديه، واعلم – رعاك الله- أن الله أرحم بك من أمك وأبيك وصاحبتك وبنيك، ففي الصحيحين ( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْىٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِى إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ». قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ». فارفع أكف الضراعة إلى الله، واعلم أن الله عز وجل لا يضيع دعوة داعٍ أبداً. ومن الأسباب التي تشرح بها الصدور: تفقد النفس، والمبادرة إلى ترك المعاصي :- أتريد مخرجاً لك مما أنت فيه، وأنت ترتع في بعض المعاصي؟! عجباً لك! تسأل الله لنفسك حاجاتها وتنسى جناياتها؟! ألم تعلم -هداك الله- أن الذنوب بابٌ عظيمٌ تَرِد منه المصائب على العبد؟! قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) [الشورى:30].
وقال تعالى ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [آل عمران:165]. ولما استسقى العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال في دعائه: [اللهم إنه لم تنزل عقوبة إلا بذنب، ولا تنكشف إلا بتوبة]. يقول ابن القيم رحمه الله: “وما يجازَى به المسيء مِن ضيق الصدر، وقسوة القلب، وتشتته، وظلمته، وحزازته، وغمه، وهمه، وحزنه، وخوفه، وهذا أمرٌ لا يكاد من له أدنى حِسٍ وحياةٍ يرتاب فيه، بل الغموم، والهموم، والأحزان، والضيق عقوباتٌ عاجلة، ونارٌ دنيوية، وجهنم حاضرة، والإقبال على الله، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته ثوابٌ عاجل، وجنةٌ وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبتة”. فبادر رحمك الله إلى محاسبة نفسك محاسبةَ صدقٍ وإنصاف، محاسبةَ مَن يريد مرضاة ربه والخير لنفسه، فإن كنت مقصراً في صلاةٍ أو زكاةٍ أو غير ذلك مما أوجب الله عليك،
أو كنت واقعاً فيما نهاك الله عنه من السيئات، فبادر إلى إصلاح أمرك، وجاهد نفسك على ذلك، وسترى من الله ما يشرح صدرك، وييسر أمرك، وصدق الله ، فهو القائل : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) [العنكبوت:69]. وقال سبحانه ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) [الطلاق:2-3].
وقال تعالى ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) [الطلاق:4]. وقال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ) [الطلاق:5]. فبادر -هداك الله- إلى تقوى الله، ولن ترى من ربك إلا ما يسرك بإذنه تعالى، وإن من أسباب انشراح الصدور: المحافظة على أداء الفرائض والمداومة عليها، والإكثار من النوافل من صلاةٍ، وصيامٍ، وصدقةٍ، وبرٍ، وغير ذلك :-فالمداومة على الفرائض والإكثار من النوافل من أسباب محبة الله لعبده، ففي صحيح البخاري (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ » . فماذا أتريد أكثر من ذلك؟! ومن الأسباب في انشراح الصدور: الاجتماع بالجلساء الصالحين، والاستئناس بسماع حديثهم، والاستفادة من ثمرات كلامهم وتوجيهاتهم :- فالجلوس مع هؤلاء مرضاةٌ للرحمان، مسخطةٌ للشيطان، فلازِمْ جلوسَهم ومَجالِسَهم، واطلب مناصحتهم ترى في صدرك انشراحاً وبهجةً،
ثم إياك والوحدة! واحذر أن تكون وحيداً لا جليس لك ولا أنيس! وخاصةً عند اشتداد الأمور عليك، فإن الشيطان يزيد العبد وهناً وضعفاً إذا كان وحيداً، (فالشيطان من الواحد أقرب، ومن الاثنين أبعد، وليس مع الثلاثة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية). فاحرص -أعانك الله تعالى- على عدم جلوسك وحيداً، جالس نفسك وغالِبْها على الاجتماع بأهل الخير والصلاح، والذهاب إلى المحاضرات والندوات، وزيارة العلماء وطلبة العلم، فذلك يُدْخِل الأنس عليك فيزيدك إيماناً، وينفعك علماً. ومن أسباب انشراح الصدور: قراءة القرآن الكريم تدبراً وتأملاً :- وهذا من أعظم الأسباب في جلاء الأحزان، وذهاب الهموم والغموم، فقراءة القرآن تورث العبد طمأنينة في القلوب، وانشراحاً في الصدور، قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]. فاحرص -رعاك الله- على الإكثار من تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وسَلْ ربك أن تكون تلاوتك له سبباً في شرح صدرك، فإن العبد متى ما أقبل على ربه بصدق فتح الله عليه من عظيم بركاته، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) [يونس:57]. وقال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً ) [الإسراء:82]. ومن أسباب انشراح الصدور: المداومة على الأذكار الصباحية، والمسائية، وأذكار النوم، وما يتبع ذلك من أذكار اليوم والليلة :-فتلك الأذكار تحصن العبد المسلم بفضل الله تعالى من شر شياطين الجن والإنس، وتزيد العبد قوةً حسيةً ومعنوية إذا قالها مستشعراً لمعانيها موقناً بثمارها ونتاجها. ولتحرص -يا عبد الله- على تلك الأذكار المتأكدة فيمن اعتراهم همٌّ أو غمٌّ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ، وَرَبُّ الأَرْضِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ » وكذا ما أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من قوله: « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ » إلى آخر الحديث. وفي سنن الترمذي (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ « يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ ». وفي مسند الإمام أحمد (قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- « دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ». وفيه (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا أَصَابَ أَحَداً قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاَءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّى. إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجاً ». قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ « بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا ». ومن أسباب انشراح الصدور: الإحسان إلى الخلق، والتودد إليهم بما يدخل السرور عليهم. واعلموا أن هناك معادلةٌ قرآنيةٌ يقول الله تعالى في طرفها الأول: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) [النحل:97]، فتكون النتيجة: طرفها الثاني: ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل:97]. فالعمل الصالح ينقسم إلى قسمين:1- واجب.2- ونافلة. أما الواجب فلا يستطيع الإنسان الزيادة فيه أو النقصان، إنما يستطيع أن يتقنه، وأن يؤديه في أوقاته، وإنما يكون التنافس في النوافل حيث تتفاوت هِمَم الصالحين في التقرب إلى الله بها، وبالتالي تكون الحياة الطيبة بالزيادة والنقصان طبقاً لما يتقرب به العبد إلى ربه من هذه النوافل بعد أداء ما أوجب عليه كَمَّاً وكَيْفاً. .
الدعاء