خطبة عن (الخوف والخشية من الله )
ديسمبر 12, 2016خطبة عن ( من فضائل ومناقب الشام وأهله)
ديسمبر 13, 2016الخطبة الأولى (لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” (الزمر، الآية 53). وروى مسلم في صحيحه (عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « …… يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ».
إخوة الإسلام
من المعلوم أنه يُحيطُ بابنِ آدمَ أعداءٌ كُثرٌ ، من شياطينِ الإنسِ والجنِّ . يحسِّنونَ له القبيحَ ويُقَبِحُونَ له الحسنَ ، يَنضَمُّ إليهم ، النَّفسُ الأمارةُ بالسوءِ ، والشيطانُ والهوى ، يَدعونَهُ إلى الشهواتِ ويَقُودُونَهُ إلى مَهاوي الرَّدَى ، ويَنحَدِرُ في مُوبقاتِ الذنوبِ صَغَائِرِها وكَبَائرِها ، ويَنساقُ في مُغرياتِ الحياةِ ، وَدَاعِيَاتِ الهوى، يُصاحبُ ذلِك ، ضِيقٌ وحَرَجٌ ، وشُعورٌ بالذَّنبِ والخطِيئةِ حتى تَكادَ أَنْ تَنغَلِقَ أَمَامَهُ أبوابُ الأملِ ، ويَدخُلُ في دائرةِ اليأسِ من رَوْحِ اللهِ ، والقنوطِ من رحمةِ اللهِ. وهذا غَايةُ مَا يُريدُهُ الشيطانُ من العبدِ … وَهُوَ أَنْ يَصلَ إلى هذه المرحلةِ من اليأسِ. فَيترُكُ التوبةَ والأعمالَ الصالحةَ ، ويَنغَمِسُ في الذّنوبِ والمعاصي لأنه يَرى نَفْسَهُ مُجرِماً لا يَصلحُ للخيرِ ، وليسَ من أهلِهِ، يرى نفسَهُ مُخَادِعاً لا يَتوبُ توبةً صادقةً ، فَيَفرَحُ الشيطانُ بذلكَ ويشعرُ بِلَذَّةِ النَّصرِ. ولكن اللهَ العليمَ الحكيمَ الرؤوفَ الرحيمَ،(الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (الشورى: من الآية25)، قد فتحَ لعبادِهِ أبوابَ التوبةِ على مصراعيها ، فقال تعالى “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ” (الزمر، الآية 53). وقد روى الإمام أحمد في مسنده (عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُبْلاَنِيّ – أَنَّهُ سَمِعَ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا بِهَذِهِ الآيَةِ (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ». فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ أَشْرَكَ فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ « إِلاَّ مَنْ أَشْرَكَ ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ). فهذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله تعالى، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه؛ فهي تأتي مؤنسة للقلب، مطمئنة للنفس، تضفي سكينة عجيبة ترتاح لها القلوب، حتى تلك الموغلة في المعاصي المنيبة إلى الله تعالى، تطرق كلماتها العقل كما الفؤاد، تُشعر بمحبة شديدة من الله لعباده الذين وثقوا به ورجوه وعرفوا قدره، إنهم عباده مهما فعلوا وابتعدوا، وهو الرؤوف الرحيم بهم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ يفرح لتوبة العبد أكثر من العبد نفسه، فيحب من عباده الإنابة إليه وحسن عبادته ورجائه. وفي هذه الآية يأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يخاطب أمته، خاصة أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب، صغيرها وكبيرها، وتجاوزوا حتى حد الذنوب العادية، بأن يقول لهم: “لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ”؛ فلا قنوط مع الثقة بالله، ولا قنوط مع استشعار وجوده وقدرته سبحانه، فهو الذي يغفر الذنوب جميعا، مهما كثرت أو عظمت. ويؤكد الله سبحانه هذا بأنه هو الغفور الرحيم. وما أجمل اجتماع هذين الاسمين له تعالى؛ المغفرة حيث محو الذنوب، والرحمة حيث فعل سبحانه ما فعل لأن رحمته سبقت غضبه، وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الأم بولدها، يحب أن يرحم. فليتقدم العبد إلى الله، ويغير منهجه ويصوب أمره ويثق به. فعند سماع هذه الآية وتدبرها تسمو الروح وتتألق، ويرى أحدنا ببصيرته لا بمجرد بصره قيمة نفسه وحقيقتها، ومقدار قربها من الله أو بعدها. فالله يحب من عباده أن ينيبوا إليه، أن يعرفوا حقيقة هذه الحياة ولماذا خلقهم وما هو مصيرهم. ولو عرف كل واحد منا أنه في هذه الدنيا لمهمة عزيزة هي عبادته تعالى والقيام بأمره، وأن هذه الدنيا مؤقتة والآخرة هي دار القرار، فيعمل صالحا مهما استطاع. وكل ذلك إيجابي في الحياة، يتفاعل معها في طاعة الله الذي لم يخلقه عبثا، قال تعالى : “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ” (المؤمنون، الآيتان 115 : 116). فتعالى الله عن العبثية، فالمسألة جادة، ولا بد من بصيرة وعلم وواقعية، فأنا مخلوق لغايات ولا يجوز أن أنشغل عنها، وعمري قصير لا يجوز أن ألتهي فيه عن مهمات الأمور. ومع هذا الرجاء الذي بينته الآية، يأتي مباشرة بعدها قول الله تعالى:
“وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ” (الزمر 54 ،55)؛ فمن أراد المغفرة الحقيقية التي تكفل الله بها، فلا بد معها من إنابة حقيقية إلى الله تعالى، لا بد من انكسار له واعتراف بما اقترف الإنسان بينه وبين ربه، ينيب ويستسلم له، حتى لا يأتيه عذاب الله وحينها لا ناصر ولا ولي. وليكن أيضا الاتّباع لهذا الكتاب، وهو أحسن ما نزل من عند الله تعالى، وهو حبل الله المتين الذي ينبغي أن نتمسك به ليقودنا إلى الصراط المستقيم. فالاتباع هنا ضروري، وإلا سار كل منا هائما على وجهه؛ فلا بد من دليل ومرشد وهاد، وهو هذا القرآن الذي “لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” (فصلت، الآية 42)، حتى لا يأتينا العذاب بغتة، ويكون المصير هو الهلاك لا قدر الله.
ونستشعر هنا لفظ “الرب” الدال على التربية التي ينبغي أن نراعيها ونتدرج فيها.
أيها المسلمون
فلماذا نجعلُ للشيطانِ بعد ذلكَ علينا سبيلاً؟ لقد جعلَ اللهُ في التوبةِ ملاذاً مكيناً ومَلجأً حَصِيناً يَدخلُهُ الْمُذنِبُ مُعتَرفاً بذنبِهِ ، مُؤمِّلاً في ربِّهِ ، نَادِماً على فعلِهِ غَيرَ مُصِرٍّ على ذَنبِهِ. يَحتَمي بِحمَى الاستغفارِ، ويَتبعُ السيئةَ الحسنةَ ، فَيُكَفِّرُ اللهُ عنه سيئاتِهِ ، ويَرفَعُ درجاتِهِ . فيا مَنْ وقعتَ في الذنوبِ ،صَغيرِها وكَبيرِها ، عَظيمِها وحَقيرِها ، نداءُ اللهِ لكَ: (قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ) [الزمر:53]
وهل تأملتَ قولَهُ تعالى: (يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً) إنَّهُ تَعمِيمٌ لجميعِ الذَّنوبِ بلا استثناءٍ، ولو كانتْ تلك الذنوبُ كلُّها كبائراً من حيثُ النّوعِ ، ولو مَلأَتْ عَنَانَ السماءِ ، وبلغتْ عَدَدَ رِمَالِ الدُّنيا من حيثُ الكمِّ ، هذا مَعَنى (جَمِيعاً) فَكَيفَ يَتسللُ اليأسُ بعد هذه الآيةِ ، إلى نَفسِ مؤمنٍ قد أسرفَ على نفسِهِ في المعاصي ، يَتلُو هذه الآيةَ ، ويَسمَعُ أحاديثَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في التوبةِ . فالتوبةُ الصادقةُ تمحو الخطايا مهما كانتْ ، حتى الكفرَ والشركَ … يقولُ تعالى: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38]. وتأملْ إلى قتلةِ الأنبياءِ ، ممن قالوا:( إِنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ)، وقالوا:( إنَّ اللهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ) ، تَعَالى اللهُ عَمَّا يَقولُونَ علواً كبيراً. هؤلاء نَاداهُم اللهُ جل وعلا بقولِهِ: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة:74]. وإلى أصحابِ الأخدودِ ، الَّذينَ قَتَلُوا عِبَادَ اللهِ المؤمنينَ بغيرِ ذنبٍ ، إلاَّ أنَّهم آمنوا باللهِ ربِّهم، ينبهُهُم اللهُ عَزَّ وجَلَّ ، إلى أنَّهم لو تَابُوا ، لَتَابَ عليهم وقَبِلَهم ، قالَ تعالى:
(إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ) [البروج:10]. قالَ الحسنُ البصريُّ رحِمهُ الله في هذه الآيةِ: [قَتلوا أولياءَهُ وَيَعرِضُ عليهم التوبةَ).
إخوةَ الإيمانِ
لقد فَتَحَ ربُّنا أبوابَهُ لكلِّ التائبينَ، يَبسطُ يَدَهُ بالليلِ ، لِيَتُوبَ مُسيءُ النهارِ ، ويبسطُ يدَهُ بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ.
وقالَ في الحديثِ القدسي: {يا عبادي إنكم تُخطِئُونَ بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً، فاستغفروني أغفرْ لكم} [رواه مسلم]. وقالَ تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء:110].
ومن ظنَّ أن ذنباً ، لا يَتَسِعُ له عفوُ اللهِ ، فقد ظنَّ بربِّهِ ظنَّ السَّوءِ. فكم من عبدٍ ، كانَ من إخوانِ الشياطينِ فمنَّ اللهُ عليهِ بتوبةٍ ، مَحَتْ عنه ما سلفَ ، فَصَارَ صَوَّاماً قواماً قانتاً للهِ ساجداً وقائماً ، يَحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِّهِ. فمن تَدَنَّسَ بشيءٍ من قَذَرِ المعاصي ـ وكلُّنا ذاكَ الرجلُ ـ فَليُبَادِرْ بِغَسْلِهِ بماءِ التَّوبةِ والاستغفارِ ، فإنَّ اللهَ يحبُّ التوابينَ ويحبُّ المتطهرينَ ، بل قد وردَ في الحديثِ ، أن اللهَ يفرحُ كثيراً بتوبةِ العبدِ ، فربٌّ يَفرَحُ بتوبةِ عبدِهِ ، فَمَا أرحَمَهُ من ربٍّ ، وما أعظمَهُ وما أحلمَهُ!. فماذا يُريدُ العاصي بعدَ ذلك؟! أيها العاصي: ماذا تَراكَ فعلتَ؟؟ سَرقتَ.. زَنيتَ.. قَتَلتَ.. أَمْ أكلتَ الربا.. والرِّشوةَ.. أم شَرِت الخمر ، أو استخدمت الْمُخدِرات ، أم ماذا فعلتَ ؟ كلُّ ذلك يَصغرُ في جنبِ رحمةِ اللهِ، أليسَ اللهُ قد قالَ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء) أو ليستْ ذنوبُكَ شيئاً؟! بلى واللهِ.. إذاً فأبشرْ فرحمةُ اللهِ تَسَعُها..
ولنتأمل في ألفاظ هذه الآية، لقد بدأها بنداء: (يَا عِبَادِي)، ما ألطفه من نداء، يَا عِبَادِي أي: يا أيّها المنتسبون إليّ، فنسبهم إلى نفسه نسبَة تشريف وتكريم وأعطاهم الأمان. ومما زادنـي تيـهًا وشـرفًا وكدت بأخمصي أطأ الثُريـا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلت أحمدَ لي رسولاً ، أتدري من ينادي الكبيرُ المتعالُ الغنيُ الحميدُ؟ إنه يناديني أنا وأنت، بل ينادي من بالغ منا في المعصية الَّذِينَ أَسْرَفُوا، ينادينا بهذا النداء اللطيف الرحيم وهو غني عنا وعن طاعتنا وعن عبادتنا، كما قال في الحديث القدسي: ((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا )) ، أيعقل؟! الغني ينادي الفقير، والقوي ينادي الضعيف، وغير المحتاج ينادي المحتاج، ألسنا نحن المعنيين بقوله:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر:15] ؟! فما أكرمك وما أحلمك يا الله. وإن هذا النداء ـ بجانبِ الرحمة ـ يُبرزُ لنا جانبًا عظيمًا من جوانب هذا الدّين، وهي العلاقة المباشرة بين العبد وربّه، فلا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء بين العبد وربّه، فلا تحتاجُ لتصلحَ علاقتك مع الله إلى وساطات، أو تقديمِ اعترافات أمام عالم أو إمام، وبابه ليس عليه بوّابين ولا حراس لتستأذنهم للدخول، كلا. فتعال إذًا ـ يا عبد الله ـ ، فبابُه مفتوح على مصرعيه، هيا ادخل على رب كريم غير غضبان، وإياك إياك أن تقع في شراكِ عدوك إبليسَ اللعين، واحذر أن يقنطَك من رحمة الله، فمولاك يقول لك: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)، ولا تيأس فاليأس كفر، (إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف:87]، وكيف تعالج الذنب الصغير بذنب أكبر؟! إن ربك لا يبالي بعظمِ ذنبك ما دام أنك رجعت إليه تائبًا ومنيبًا، أما سمعت ما قاله الله على لسان رسوله في الحديث القدسي كما في سنن الترمذي : « قَالَ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِى يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً »
أيها المسلمون
فلماذا لا نتوب؟…، والله ينادينا: “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”. ولماذا لا نتوب والحبيب صلى الله عليه وسلم ينادينا « لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِيَّةٍ مَهْلَكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِى كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ ». رواه مسلم. ولماذا لا نتوب، وقد جاء في الأثر الإلهي: “إن عادوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن أعرضوا عني فأنا طبيبهم، أداويهم بالأمراض والأسقام حتى يأتوني يوم القيامة وليس عليهم شاهد بذنب”. هكذا ينطق القرآن والحديث والأثر بنداء المؤمنين بالتوبة والعودة إلى الله رب العالمين. فإلى متى تؤخرون توبتكم، والموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل. فهل تنتظر أن يفاجئك الموت وأنت عن ربك مشغول بالمعاصي؟! هل تريد أن تعيش حياتك التي مهما طالت فهي قصيرة – ثم تساق إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى؟! ماذا تنتظر؟ وقد أوحى الله إلى داود: أن قل لقومك ما لكم تخفون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي، إن كنتم تظنون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم تظنون أني أراكم فلمَ تجعلونني أهون الناظرين إليكم؟! وإذا كانت رحمة الله قد وسعت رجلاً قتل مائة نفس، ووسعت رحمته جل وعلا امرأة بغي (زانية) سقت كلبًا لأجل الله، فهل تضيق رحمته عليك وهو الرب الكريم الذي يغفر الذنوب ولا يبالي؟ وهل تضيق رحمته وهو الذي ينادي: « قَالَ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِى يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ».رواه الترمذي فما بالكم برب ينادي على العباد يوم القيامة حين تشتد الأهوال وتنقطع الرجاء في كل الأعمال، ويوقن العباد بالبوار، ويظنون أنهم لا محالة من أهل النار: لا تحزنوا يا عبادي فمن أجلكم سميت نفسي العزيز الغفار، أو ما تعلمون أنه لا يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم. فإذا كان الله هو حبيبك فاعلم أنه ينتظرك أن تقدم عليه أول خطوة، واسمع نداءه لك “إن تقرب إليّ عبدي شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة”. وإلى هؤلاء الذين يعودون للذنوب ولا يستطيعون التخلص التام منها نسوق الحديث الذي رواه مسلم (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَحْكِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِى أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ ». قَالَ عَبْدُ الأَعْلَى لاَ أَدْرِى أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ « اعْمَلْ مَا شِئْتَ ».
أيها المسلمون
صحيح أن البابَ مفتوحٌ، لكنه لن يظلَ مفتوحًا إلى الأبد، فقد يُغلق في أيّ ساعة، وقد يَحولُ الموتُ بينك وبين دخوله إن لم تنتهز هذه الفرصة، لو حصل ذلك ـ لا قدّر الله ـ ستندم حين لا ينفعُ الندم، وتغتم حسرةً، وعندها ستكون أحدَ ثلاثةٍ لا قدّر الله، اسمع ما يقول الله تعالى: ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) [الزمر:54، 55]. وعندها ستعتذر بأعذار واهية وهي ثلاثة، اسمع العذر الأول: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56]، والعذرُ الثاني: (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ) [الزمر:57]، أما الثالثُ: (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر:58]. يقول ابن عباس: (أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه)، (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر:14]. وفي مسند أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « كُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي فَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً – قَالَ – وَكُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ لَوْلاَ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي – قَالَ – فَيَكُونُ لَهُ شُكْراً ».
أيها الإخوة
أتدرون ماذا يكونُ الجوابُ عن تلك المبررات والأعذار؟ إنه التكذيب والإدانة التي لا يملك معها الإنسان الإنكارَ؛ لأن شهودَ الإدانة هم أقرب الأشياء إلينا، نعم إنها أعضاؤنا وجوارحنا، وأنى لأحدٍ الإنكار والفاعلُ يُقرُّ بفعلته؟! إنه الخزيُ والعارُ والفضيحةُ. فاسمع الرد على الأعذار الواهية والأمنيات الفارغة: قال تعالى : (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ ) [الزمر:59]، أي: من الجاحدين بلسان حالك أو مقالك. فإذا كنتَ لا تريدُ أن تقفَ موقفَ الخزيِ والعارِ ـ وما إخالك إلا كذلك ـ فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والأوبة واتباعِ أحسن ما أُنزل إلينا قبل فوات الأوان بالموت أو الران، وفي مسند أحمد (/ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ » .
الدعاء