خطبة عن ( الخيانة، وحديث (وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)
يناير 10, 2017خطبة عن (الصبر دواء لكل داء) (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)
يناير 11, 2017الخطبة الأولى (متى تَلِينُ الجُلُودُ وتَقْشَعِرُّ ؟،و تَخْشَعُ القُلُوبُ وتعتبر؟)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) (23) الزمر، وقال الله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (16) الحديد
إخوة الإسلام
إن الله تعالى أنزل كتابه الكريم ليكون كتاب هداية للناس، وقد بين المولى جل وعلا ذلك بقوله تعالى : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (23) الزمر ، فمتى حصل التأثر والتدبر لكلام الله تعالى ،حصلت الغاية المرجوة وهي الهداية بإذن الله. قال ابن كثير: قوله تعالى 🙁 تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) أي هذه صفة الأبرار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف ،ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ لما يرجون ويُؤمِّلون من رحمته ولطفه، فهم مخالفون لغيرهم من الكفار من وجوه: أحدها : أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات، وسماع أولئك نَغَمات لأبيات من أصوات القَيْنات . الثاني : أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية، ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، كما قال تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال:2-4 ، وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) الفرقان:73 أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها، بل كانوا مصغين إليها، فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا فإنما هم يعملون بها، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم، الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها، كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تقشعر جلودهم، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. فلم يكونوا يتصارخُون ولا يتكلّفون ما ليس فيهم، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فقد فازوا بالقِدح المُعَلّى في الدنيا والآخرة. وقال قتادة، رحمه الله : هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله بأن تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان. فلا بد من الحضور الفاعل الحي المؤثر أثناء تلاوة القرآن وتدبره والتعامل معه، بكافة المشاعر والأحاسيس والانفعالات، فلا يكون هدف قارئ القرآن مجرد الأجر والثواب فقط ! فهذا وارد وسيحصل عليه إذا أخلص النية بإذن الله. كما لا يكون هدفه حشو ذهنه بالعلم والثقافة وزيادة رصيده من العلوم والمعارف؛ لأن الوقوف عند الثقافة وحدها لا يولد عملاً ولا التزاماً ولا سلوكاً، كما لا يكون هدفه الرياء ولا يبتغي من تلاوته عرضاً من الدنيا ،أو غير ذلك.. بل على قارئ القرآن أن يتلقاه بجميع مشاعره ،وأن يكون القرآن دليلاً عملياً لحياته في يومه ونهاره.. وعليه أن يتلقاه بجميع أجهزة التلقي في جسمه، وأن يربط بينها ويحولها إلى برنامج يومي وسلوك عملي وحقائق مُعاشة، وأن يكون قدوته في ذلك هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما تقول عائشة – رضي الله عنها -: (كان خلقه القرآن) ، وكذلك يقتدي بالصحابة رضي الله عنهم الذين يتلقون القرآن تلقيا للتنفيذ فور سماعه.
أيها المسلمون
واعلموا أن الناس يتفاوتون في التأثر بالقرآن الكريم حال سماعه وتلاوته على مذاهب، ومدار ذلك كله على حضور القلب ويقظته, وعلى طهارته, وصفائه, ونقائه. فآيات القرآن تحرك القلوب, وتهزّ النفوس, ويعتري بذلك الجوارح الاضطراب والتجاوب, فتسحّ الدموع, وتقشعر الجلود. ولكن شطّ قوم وبالغوا في هذا التأثر لا سيما المتعلق بالجوارح , ومظاهر تأثر العبد بالقرآن الكريم كثيرة, ومتفاوتة بين الخلق, ولكن يمكن تقسميها إلى أقسام ثلاثة: مظاهر حسيّة, ومظاهر وجدانية, ومظاهر سلوكية. أولاً: المظاهر الحسية: والمقصود بذلك: المظاهر التي تظهر على جوارح التالي لكتاب الله والمستمع له, وهذه المظاهر تأتي تبعاً لتأثر القلب والنفس, وإنما جرى تقديمها, لأمرين اثنين: – أسوة بالقرآن الكريم حيث جرى تقديم المظاهر الحسية على المظاهر الوجدانية في مواطن كثيرة, فمن ذلك قوله تعالى: (( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله )) (23) سورة الزمر – ولأنّ المظاهر الحسيّة هي أول ما يبدو ويظهر للناظرين, بخلاف المظاهر الوجدانية فإنّ أثرها يظهر بعد حين, فهي أبطأ ظهوراً, وأطول أثراً, عكس المظاهر الحسية ،ويمكن أن نقسّم المظاهر الحسيّة, باعتبار حكمها: إلى مظاهر مشروعة, ومظاهر مختلف فيها, أ- المظاهر الحسية المشروعة: بيّن الله تعالى حال المؤمنين الكُمَّل الخُلَّص عند سماعهم لمواعظ القرآن, فما إنْ ترد عليهم مواعظه حتى تقشعر جلودهم, وتنهمل دموعهم, وتخشع أبصارهم, وتستقرّ جوارحهم, ثم تلين جلودهم لهذه المواعظ. – فأما اقشعرار الجلد : فهو مذكور في قوله تعالى:( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله) (23) الزمر ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن وهي: وجل القلوب, ودموع العين, واقشعرار الجلود” ،واقشعرار الجلد عند سماع آي القرآن وتلاوتها مردّه إلى تقصير العبد في جنب الله, وتعدّيه لحدوده, فورود الموعظة عليه تحدث في الجوارح والجلد بعض الاضطراب.
قال تعالى في وصف القرآن: (( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله )) , فذكر أنه بعد الاقشعرار تلين جلودهم, وقلوبهم إلى ذكر الله. “فذكره – تعالى- بالذات يوجب الطمأنينة, وإنما الاقشعرار, والوجل عارض بسبب ما في نفس الإنسان من التقصير في حقه, والتعدِّي لحدِّه, فهو كالزبد مع ما ينفع الناس, الزبد يذهب جفاء, وما ينفع الناس يمكث في الأرض” . وقد يكون اقشعرار الجلد تابعاً لخوف القلب, ووجله مما يسمع من المواعظ المخوّفة, والزواجر الرادعة, وهذا شأن الجلد مع كلّ المخوِّفات, وهي طبيعة خلقها الله فيه, لفرط حساسيته, وشدّة انفعاله مع اضطرابات النفس ،وهذا الأثر قد لا يكاد يشاهده إلاّ صاحبه, أو من يكون قريباً من المستمع لآي القرآن, ولذلك لم يجر ذكره فيما نُقِل من آثار عن السلف في تأثرهم بالقرآن. – وأما البكاء عند سماع آي القرآن وتلاوتها : فقد جرى ذكره في مواطن كثيرة من كتاب الله تعالى, فمن ذلك قوله تعالى – واصفاً بكاء أهل الصدق عند سماع القرآن : (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المائدة 83 . وقال تعالى – في وصف عباد الله المتّقين وشدة تأثرهم عند سماعهم للقرآن والذكر-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) 106 : 109 الاسراء – والبكاء دليل على حياة القلب , وخضوعه وخشوعه, وإنابته, ولذا جرى مدحه في نصوص كثيرة, فالبكاء من خشية الله يوجب لصاحبه الأمان تحت ظل عرش الرحمن, ويوجب له دخول الجنان, والنجاة من النيران, ولو كمل علم العبد لسحّت دموعه في كلّ أوان, ولكن قلّة العلم بالله, وغفلة القلب عن الله توجبان قحط العين. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري (عَنْ أَنَسٍ – رضى الله عنه – قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ ، قَالَ « لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا » . قَالَ فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ ) . وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ) رواه الترمذي وغيره .
– وللسلف رحمهم الله شأن عظيم مع البكاء من خشية الله عند سماع القرآن وتلاوته, وعند الاستماع للمواعظ: فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ رَجُلٌ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ) رواه الترمذي وغيره ،وعن الحارث بن عبيد قال: “كان عبد الواحد بن زيد يجلس إلى جنبي عند مالك -بن دينار- فكنت لا أفهم كثيراً من موعظة مالك لبكاء عبد الواحد” . – وقد يكون البكاء مصحوباً بالنشيج , كما يذكر عن عمر بن عبد العزيز أنّه قرأ عنده رجلٌ قوله تعالى: ((وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً)) الفرقان 13 فبكى حتى غلبه البكاء, وعلا نشيجه, فقام من مجلسه فدخل بيته, وتفرق الناس” . – وكان البكاء مشتركاً عند السلف رحمهم الله بين القارئ والمستمع : فعن بكر بن عبد الله المزني: “أن أبا موسى رضي الله عنه خطب الناس بالبصرة, فذكر في خطبته النار فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر, قال: وبكى الناس يومئذ بكاء شديداً” .
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية (متى تَلِينُ الجُلُودُ وتَقْشَعِرُّ ؟،و تَخْشَعُ القُلُوبُ وتعتبر؟)
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن سمت السلف رحمهم الله الاجتهاد في إخفاء البكاء خوفاً من العجب والرياء, ولربما استعملوا في سبيل ذلك أنواع الحيل المشروعة : فعن حماد بن زيد قال: بكى أيوب -السختياني- مرة فأخذ بأنفه, وقال: إن هذه الزكمة ربما عرضت “, وبكى مرة أخرى فاستكنى بكاءه ، فقال: إن الشيخ إذا كبر مجّ ،وكان حسان بن أبي سنان يحضر مسجد مالك بن دينار, فإذا تكلم مالك بكى حسان حتى يبلّ ما بين يديه, لا يسمع له صوت” . – وكان وعّاظ السلف رحمهم الله يزجرون الباكي عند الموعظة أحياناً خشية أن يدخل قلبه العجب, أو أن يكون الحامل له على البكاء هو الرياء لا الخوف والخشية: فعن عبد الله بن حبيب قال: “رأيت محمد بن كعب يقصّ, فبكى رجلٌ, فقطع قصصه, وقال: من الباكي ؟ قالوا: مولى بني فلان, قال: فكأنه كره ذلك” . وعن الرملي: ” أن الحسن حدث يوماً, أو وعظ, فنحب رجلٌ في مجلسه, فقال الحسن: إن كان لله فقد شهَّرت نفسك, وإن كان لغير الله هلكت !” . – ومن الآثار الحسية لمواعظ القرآن سكون الجوارح: واستقرارها, ولين الجلود بعد سماع المواعظ, ويكون هذا تبعاً لاطمئنان القلب وسكونه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأثر العظيم عند قوله تعالى: (( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله )). قال الشاطبي رحمه الله: “إن الوجل تأثر ولين يحصل في القلب بسبب الموعظة, فترى الجلد من أجل ذلك يقشعر, والعين تدمع, واللين إذا حلّ بالقلب -وهو باطن الإنسان- حلّ بالجلد بشهادة الله -وهو ظاهر الإنسان-. فإذا رأيت أحداً سمع موعظة, أيّ موعظة كانت, فيظهر عليه من الأثر ما ظهر على السلف الصالح, علمت أنها رقة هي أول الوجد, وأنها صحيحة لا اعتراض فيها” وكانت هذه حال الصحابة عند سماع المواعظ ، تسكن جوارحهم وتستقر: فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ وَفِى يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : « اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا – ) رواه أبو داود قال في عمدة القاري: “قال الداودي: يعني أن كل واحد صار كمن على رأسه طائر يريد صيده فلا يتحرك كيلا يطير” وهذا كناية: على السكون والوقار
أيها المسلمون
ومن القصص الواردة عن السابقين في خشوع القلب عند تلاوة آيات الكتاب المبين ، ما ذكره ابن قدامة المقدسي في التوابين عن عبد الواحد بن زيد قال: كنا في سفينة فألقتنا الريح إلى جزيرة فنزلنا فإذا فيها رجل يعبد صنما، فأقبلنا إليه
وقلنا له: يا رجل من تعبد؟ فأشار إلى صنم. فقلنا: معنا في السفينة من يصنع مثل هذا، فليس هذا إله يعبد. قال: أنتم من تعبدون؟ قلنا: نعبد الله. قال: وما الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه و في الأرض سلطانه وفي الأحياء و الأموات قضاؤه. قال: وكيف علمتم به؟ قلنا: وجه إلينا هذا الملك العظيم الخالق الجليل رسولا كريما فأخبرنا بذلك. قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: أدى الرسالة ثم قبضه الله إليه. قال: فما ترك عندكم علامة؟ قلنا: بلى. قال: ما ترك؟ قلنا: ترك عندنا كتابا من الملك. قال: أروني كتاب الملك فينبغي أن تكون كتب الملوك حسانا. فأتيناه بالمصحف، فقال: ما أعرف هذا.
فقرأنا عليه سورة من القرآن ،فلم نزل نقرأ و هو يبكي ،ونقرأ وهو يبكي، حتى ختمنا السورة. فقال: “ينبغي لصاحب هذا الكلام ألا يعصى .. ينبغي لصاحب هذا الكلام ألا يعصى”. ثم أسلم وعلمناه شرائع الإسلام وسورا من القرآن ،وأخذناه معنا في السفينة، فلما سرنا وأظلم علينا الليل ،وأخذنا مضاجعنا قال: يا قوم هذا الإله الذي دللتموني عليه إذا أظلم الليل هل ينام؟ قلنا: لا يا عبد الله هو حي قيوم عظيم لا ينام. فقال: بئس العبيد أنتم ، تنامون ومولاكم لا ينام ،ثم أخذ في التعبد و تركنا فلما وصلنا بلدنا قلت لأصحابي: هذا قريب عهد بالإسلام ،وغريب في البلد، فجمعنا له دراهم و أعطيناه إياها قال: ما هذا؟ فقلنا: تنفقها في حوائجك قال: لا إله إلا الله، أنا كنت في جزائر البحر أعبد صنما من دونه ،ولم يضيعني ،أفيضيعني و أنا أعرفه؟! أفيضيعني و أنا أعرفه؟ ! ثم مضى يتكسب لنفسه، وكان من بعدها من كبار الصالحين إلى أن مات
الدعاء