خطبة عن ( من دلائل القدرة والعظمة )
أكتوبر 30, 2016خطبة عن (دلائل عظمة الله وقدرته في خلقه)
أكتوبر 30, 2016الخطبة الأولى ( عظمة الله وقدرته في خلقه )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
قال الله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) الروم
إخوة الاسلام
تتحدث الآيات عن دلائل عظمة الله وقدرته في خلقه : فإن التفكر في خلق الله تعالى من أكثر الوسائل التي تدعو إلى الإيمان، وتزيد اليقين لدى الإنسان، وتعرِّفه بعظمة الخالق ومدى علمه وحكمته؛ فالله عز وجل خلق السماوات والأرض بالحق، ولم يخلقهما باطلًا ولا عبثًا، ولم يخلق شيئًا سُدًى، قال تعالى : {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44] وكَم في هذا الكون من مخلوقات كثيرة لا تُعدُّ ولا تُحصى! تُرى ما الحكمة من خلق كل منها؟! ولو تأمل الإنسان وتفكَّر بعمق في هذا الكون وما فيه من مخلوقات؛ لأيقن تمام اليقين أن هذا الكون مخلوقٌ بقدَرٍ متناه ٍ في الدقة، خلقه إله حكيم قدير عليم، قدَّره أحسن تقدير. ويكفي أن نتدبر في أن هذا الكون بسماواته ونجومه ومجراته، وما فيه من أرضنا وما تزخر به من بحار وأنهار وأراضين وجبال وحيوانات وأشجار قد خلقه الله سبحانه وتعالى من عدم؛ لنستشعر مدى قدرة الله وعلمه وحكمته، قال تعالى :{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ 30 وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ 31 وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ 32 وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:30- 33] ،وحين يتفكر العاقل في خلق الله يعلم علمًا يقينيًّا أن كل ما في هذا الكون عابد لربه؛ فكل مخلوقاته تسبح بحمده سبحانه وتعالى، قال تعالى : {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة: 1] ،وهي تسجد لعظمته، قال جل ثناؤه : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، وقال سبحانه : {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ 59 أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ 60 أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ 61 أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ 62 أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ 63 أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [النمل:59- 64]
أيها المسلمون
فاقدروا الله حق قدره، وانظروا في دلائل عظمته، وتفكروا في آياته وآلائه وملكه وسلطانه، وعجائب خلقه وإبداعه؛ لتزدادوا به إيماناً، وتخرّوا له إذعاناً وخضعاناً. يقول تبارك وتعالى في كتابه المبين: ( وَفِى ٱلأَرْضِ ءايَـٰتٌ لّلْمُوقِنِينَ ) [الذاريات:20]، ويقول جل وعلا: ( إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَـٰتٍ لأِوْلِى ٱلألْبَـٰبِ ) [آل عمران:190]، إنه خلقٌ هائلٌ عجيب، وكونٌ عظيم مَهيب، شرق وغرب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وحبّ ونبات، وجمع وأشتات، وأحياء وأموات، وآيات في إثرها آيات، فسبحانه من إله عظيم، أوضح دلالته للمتفكرين، وأبدى شواهده للناظرين، وبين آياته للغافلين، وقطع عذر المعاندين، وأدحض حجج الجاحدين،( فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ ) [المؤمنون:14]. يقول عبد الله بن مسعود : (ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله عز وجل فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) أخرجه الدارمي .
ويقول النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات . وروى ابن جرير في تفسيره بسنده عن ابن عباس أنه قال: (ما السموات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم)
أيها الموحد
وينبغي أن تعلم أنك في غاية الذلة والافتقار والحاجة والانكسار إلى الله، وهكذا يجب أن تكون بين يدي الله عز وجل.
وينبغي -أيها الأحبة- أن نتعود التضرع إلى الله، وأن نتعود الشكوى إلى الله، وأن نتعود اللجوء إلى الله، وأن نتلذذ عندما نسجد لله، ويرمي أحدنا بنفسه من طول قيامه ليكون في حالة السجود، ويمرغ أشرف ما في جسمه وهي جبهته على التراب ذلة لله عز وجل، فأنت لا تسجد لغيره سبحانه ، ولا ترضى أن تركع لغيره، ولا ترضى أن تنحني لغيره، وهكذا الانكسار، وهكذا الانقياد، وهكذا المناجاة في حال السجود، وفي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ».ويقول صلى الله عليه وسلم عن الركوع وتعظيم الرب سبحانه (فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ». فنبغي أن نستشعر الذلة لله عز وجل، وأن نستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى، فما أحلاها من هيئة، ما أجملها من صورة، ما أطيبها من صفة ،أن تسجد منحطاً ذليلاً منكسراً لعظمة الله، لجبروت الله، لوجه الله، لملكوت الله، وكأنك حلس بالٍ، كأنك جلد قد سلخ ورمي، وأنت منكسر لله عز وجل على هذه الحالة التي أنت تجد قمة اللذة في نهاية الذلة ، في تمام الانكسار لوجه الله عز وجل، وتتوجه إلى الله بقلب منكسر ، ولسان مبتهل ، قائلا : يا رب أنت المستعان وإننا أبداً لفضلك عالة فقراء ، نرجوك في كل الأمور ، فأنت الغني وما لجودك منتهـى ، وبيديك سر الخلق والأحياء ،
لولاك ما كنا ولا كانت لنـا دنيا ، ولا عمرت بنا أرجاء ،أو سال قطر أو ترقرق جدول وتلألأت في الروضة الأنداء
لولاك ما كشف الحقيقة عـالم أو كان في دنيا الورى حكماء ما حلقت عبر الفضاء سفينـة أو أرسلت ضوء النجوم سماء
أبدعت هذا الكون من عدم وفي يدك التصرف فيه كيف تشاء ما كان أو سيكون أو هو كائن يفنى وليس لما سواك بقاء
إن كنت في عرض البحار فعربدت هوج الرياح وأرعدت أنواء ،أو طرت في رحب الفضاء فخانني حظ وأوشك أن يحين قضاء ،أو شفني هم ينوء بحمله ظهري وراشت سهمها الأرزاء ،أو كنت مقطوع الأواصر نائياً فلمن يكون تضرع ودعاء ،ولمن تخر جباهنا وقلوبنا حتى تزول بعونه البأساء ،يا رب أنت المستعان وإننا أبداً إليك جميعنا فقراء
من كان في حفظ الإله وحرزه ذلت له العقبات والأعباء ،أنا إن ضللت فمنك نور هدايتي وإذا مرضت ففي رضاك شفاء ،وإذا عطشت فمن نعيمك أستقي أو جعت كان بما رزقت غناء ،وإذا عريت فأنت وحدك ساتري وجميل عفوك جنة ورداء ،وإذا تنكبت الطريق رجعت في ندم إليك ففي حماك نجاء ،وسعت مكارمك العباد برحمة وتتابعت من فيضك الآلاء ،يا رب خيرك للبرية نازل وإليك يصعد منهم الإيذاء ،يا رب حلمك لم يدع لمقصـر عذراً فهلا يرعوي السفهاء ،لو كان ربك بالعقاب معجلاً لأتى على هذي القرون عفاء ،عجباً أيأنف أن يمرغ هامة لله قوم ضلالة تعساء
لكأنها تلك القلوب جلامد وكأنما آذانهم صماء
أيها المؤمنون
والله لو تحدثنا منذ خلقنا إلى أن نموت، ولو كتبنا بكل شجرة وأفنينا كل بحر ،وملأنا كل سفر، ما حوينا وما بلغنا وما قلنا ولا وصفنا جانباً من عظمة الله عز وجل، ولكن عزاءنا فيما بلغنا وأخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم وهو قولنا في مناجاة ربنا وفي تنـزيه ربنا: (سبحانك ما عبدناك حق عبادتك) ، وما ذكرناك حق ذكرك، وما شكرناك حق شكرك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، سبحانك أنت جملتنا وسترتنا وأكرمتنا ورفعتنا وأعطيتنا وهديتنا وآويتنا، سبحانك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك.
أيها المسلمون
وإن من دلائل عظمة المولى وقدرته جل وعلا ما رواه أبو داود (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ ». وأخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « إِذَا قَضَى اللَّهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ – قَالَ عَلِىٌّ وَقَالَ غَيْرُهُ صَفْوَانٍ – يَنْفُذُهُمْ ذَلِكَ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهْوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ) فسبحان ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة لا إله إلا هو الحي الذي لا يموت.
أيها المسلمون
ومن عظمة المولى تبارك وتعالى أن نلجأ إليه في ملماتنا ، ونستغيث به في كرباتنا ، ونفزع إليه إذا ضاقت بنا الأرض وانقطعت بنا السبل فإذا اضطرب البحر، وهاج الموج، وهبت الرياح العواصف، نادى أصحاب السفينة يا ألله ، إنه العظيم ! وإذا ضل الحادي في الصحراء، ومال الركب عن الطريق، وحارت القافلة في السير نادوا يا ألله إنه العظيم ! وإذا وقعت المصيبة، وحلت النكبة، وجثمت الكارثة، نادى المصاب يا ألله إنه العظيم ! وإذا أوصدت الأبواب، وأسدلت الستور في وجوه السائلين، صاحوا يا ألله! وإذا بارت الحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وانقطعت الحبال، نادوا يا ألله! فإليه يصعد الكلم الطيب، والدعاء الخالص، والدمع البريء، والتفجع الواله. إليه تمد الأكف في الثناء، والأيادي في الحاجات، والأعين في الملمات، والأسئلة في الحوادث! وباسمه وحده لا شريك له تشدو الألسن وتستغيث وتلهج وتنادي، وبذكره وحده لا شريك له تطمئن القلوب وتسكن الأرواح وتنادي يا ألله! فالله أحسن الأسماء، الله أجمل الحروف، الله أصدق العبارات، وأطيب الكلمات، هل تعلم له سمياً؟ الله هذا الاسم الكريم على الذات المقدسة التي نؤمن بها، ونعمل لها، ونعرف أن منها حياتنا وإليها مصيرنا. الله أهل الثناء والمجد، وأحق ما قال العبد، وأهل الحمد، وأهل التقوى والمغفرة ،الله العظيم لا نحصي ثناءً عليه، ولا نبلغ حقه توقيراً وإجلالاً، ولا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك يا رب العالمين! لو أن البشر منذ كتب لهم تاريخ وإلى أن تهمد لهم على ظهر الأرض حركة نسوا الله أو كفروا به ما خدش ذلك شيئاً من جلاله، ولا نقص ذرة من سلطانه، ولا كف شعاعاً من نوره، ولا غض بريقاً من كبريائه، فهو سبحانه أغنى بحوله وطَوله وأعظم بذاته وصفاته، وأوسع في ملكوته وجبروته من أن يناله منه وهم واهم أو جهل جاهل. هذه دعوة للتفكر والتأمل والتدبر في عظمة الله وفي خلق الله، وانظر إلى آثار رحمة الله، أدعوك إليها أخي المسلم لتعيش في آيات الله، لتستشعر عظمة الله في علمه ، وعظمة الله في قدرته، وعظمة الله في خلقه، وعظمة الله في حلمه، وعظمة الله في رحمته، وعظمة الله في قضائه وقدره، لتقف بنفسك على أسرار الكون وحكمة الله في كل صغير وكبير وتقول: آيات ربك في الآفاق بينة .. فانظر إليها وغض الطرف واحتسم … ،سر في سناها وردد في بدائعها … جوى اشتياق بقلب خاشع وفم …. تنام عنها وما نامت محاسنهـا ….. لو كنت تعلم معنى الحسن لم تنم ….. يا سائراً وهو يلهو في مسالكه …. إن كنت ترجو لقاء الله فاستقم .
فدلائل قدرته وعظمته بادية في كل مكان ، فإذا ما اتجه الفكر في السماوات حيث انتشرت النجوم في الليل، وإذا ما كل البصر فيما لا نهاية له من الآفاق المظلمة، وإذا ما خشعت النفس من رهبة السكون الشامل وكان ثلث الليل الآخر،
تنزل الجبار نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه: يا عبادي! هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من داع فأجيبه، وهل من تائب فأتوب عليه، حينئذٍ تبدو الآفاق المظلمة كأنها باسمة مشرقة، ويتحول السكون إلى نظرات موحية تنبعث من كل صوب، حينها تتغنى النفس والروح الخاشعة لتقول: سبحان الله!
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية ( عظمة الله وقدرته في خلقه )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
وإذا ما كان المتأمل على شاطئ البحر الخضم ذي الأمواج، وأرسلت الطرف بعيداً حيث اختلطت زرقة السماء بزرقة الأرض، إذ ذاك يشعر المتأمل بعظمة واسعة دونها عظمة البحر الواسع، وإذ ذاك تقر العين باطمئنان الفلك الجاري على أديم الماء الممهد في رعاية الله الصمد، في رعاية الله صاحب العظمة والكبرياء، عندها تطمئن النفس لرؤية ما تطمئن إليه في منظر جميل، إذ ذاك يخفق الفؤاد ويدق دقات صداها في النفس تقول: يا سبحان الله! وإذا ما اشتد السقم بمن أحاطت به عناية الأطباء، وسهر الأوفياء، ونام بين آمال المخلصين ودعوات المحبين، ثم ضعفت حيلة الطبيب ولم ينفع وفاء الحبيب، واستحال الرجاء إلى بلاء؛ إذ ذاك تتجلى عظمة الله والنفوس جازعة، والنواصي خاشعة، والقلوب واجفة، والأيدي راجفة لتقول: أنا قضيت، ويقول الطبيب والقريب والحبيب: لك الأمر يا ألله فسبحان الله!
وإذا بالإنسان ينظر إلى المال فيلقاه فانياً، وإلى الجاه فيلقها ذاوياً، وإلى الأماني فيلقاها زائلة، وإلى الآمال فيجدها باطلة، وإلى الشهوات فيجدها خادعة كاذبة، وإلى المسرات فيجدها آفلة غاربة؛ إذ ذاك يستغني عن الجاه والمال، وتشلُّ في نفسه حركة الآمال بين جاه يدول وأمل يزول؛ عندئذ لا يملأ فراغ النفس إلا ذكره سبحانه، فتقول سبحان الله! ، إن الإنسان لم يخلق نفسه، ولم يخلق أولاده، ولم يخلق الأرض التي يدرج فوقها ولا السماء التي يعيش تحتها، ذلك الذي خلقه كله الله سبحانه وتعالى، فمن المقطوع به أن خلق الخلق وإيجاد الخلق من العدم لم ينتجها لنفسه إنسان ولا حيوان ولا جماد، ومن المقطوع به كذلك أن شيئاً لم يقع صدفة ولم يحدث من تلقاء نفسه، فمن الذي خلق الخلق؟ ومن الذي رفع السماء؟ ومن الذي نصب الجبال؟ من الذي بسط الأرض؟ قال تعالى (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) [الطور:35-36]. يقول سبحانه: ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) الغاشية:17-20
فهل فكرت في هذه الكواكب السيارة التي تملأ الفضاء، والتي تلتزم مداراً واحداً لا تنحرف عنه يميناً ولا شمالاً، هذه الكواكب تلتزم سرعة واحدة لا تبطئ فيها ولا تعجل، ثم نرتقبها في موعدها المحسوب فلا تخالف عنه أبداً. هذه الكواكب التي تزحم الفضاء فإنها لا تزيغ ولا تصطدم ، قال تعالى ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) [يس:38-40]. فمن الذي هيمن على نظام هذه الكواكب؟ ومن الذي أشرف على مدارها؟ بل من الذي أمسك بأجرامها الهائلة ودفعها تجري بهذه القوة الفائقة؟ قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ) [فاطر:41]. فالعالم وما فيه من سكون وحركة هو أثر لقدرة الله سبحانه، فإذا رأيت البذور تشق التربة وتنمو رويداً رويداً لتستوي على سوقها فذلك بقدرة الله، وإذا رأيت الأمواج تلطم الشُطآن رائحة غادية لا تهدأ حتى تثور فذلك بقدرة الله، وإذا رأيت القاطرات والطائرات تنتهب الفضاء وتطوي الأبعاد وتحمل الأثقال فذاك بقدرة الله. إن كثيراً من الناس يتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الطائرة، ويتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الغواصة والباخرة، ويتعجبون من عقول الخلق الذين صنعوا الدبابة والسيارة، ولكنهم لا يعجبون من الخالق الذي خلق هذه العقول التي اكتشفت ما أوجده الله، وهذه العقول ما أنتجت شيئاً من عدم ولكن الله شاء لها أن تكتشف ما أوجده الله وأودعه في هذا الكون. فإذا رأيت البشر يموج بعضهم في بعض، ينفعلون بالحب والبغض والفرح والحزن، ينطلقون عاملين أو يهدءون نائمين فذلك بقدرة الله، وسواء شعرت أم لم تشعر فنبضات قلبك في حناياك، وسريان دمك في عروقك، وكمون الحس في أعصابك، وتجدد الحياة في خلاياك، وانسكاب الإفرازات من غددك، كل ذلك بقدرة الله، فلا تحسبن شيئاً في الكون يقدر أو ينهض أو يقوم أو يسير بنفسه، بل كل ذلك بالله وبأمر الله ومن الله وإلى الله، فكما أن الله أبدعه أولاً من عدم فقد أودع فيه من أسرار قدرته وآثارها ما يدل عليه سبحانه قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ) [فاطر:44]. الناس حينما يمشون في نفق بين الجبال يقولون: عجباً لهذه العقول التي استطاعت أن تفتت هذه الصخور، وإذا رأوا قطعة من صخر قد أزيحت عن الطريق قالوا: عجباً لهذه الآلات وصانعيها والمعدات وعامليها كيف زحزحت أطراف الجبال عن الأرض، ولكنهم ينسون أن الله عز وجل قال: ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه:105-107] .. وقال سبحانه 🙁 وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) [النمل:88].
ونستكمل الحديث عن دلائل عظمة الله وقدرته في خلقه في لقاء قادم إن شاء الله
الدعاء