خطبة عن ( من أسباب الخشوع في الصلاة)
سبتمبر 12, 2016خطبة عن ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
سبتمبر 12, 2016الخطبة الأولى ( هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ )
الحمد لله رب العالمين . اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الله تعالى في محكم آياته : (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) (60) الرحمن ، وقال تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (195) البقرة ،وقال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (26) ) يونس ،وقال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ) (30) النحل
إخوة الإسلام
(الإحْسَان ) نوعان: – إحسان في عبادة الخالق: بأن يعبد المسلم الله كأنَّه يراه فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه.
وهو الجِدُّ في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها. – وأما الإحسانٌ في حقوق الخَلْق… فهو بذل جميع المنافع مِن أي نوعٍ كان، لأي مخلوق يكون، ولكنَّه يتفاوت بتفاوت المحْسَن إليهم، وحقِّهم ومقامهم، وبحسب الإحْسَان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحْسِن وإخلاصه، والسَّبب الدَّاعي له إلى ذلك) ،والإحسان مشتق من «الحُسن» الذي هو الجمال والبهاء لكل ما يصدر من العبد من خطرات ونبرات وتصرفات، وهو أعلى مقامات الرفعة الإنسانية ، والمفتاح السحري لكل أزماتها وجسر سعادتها الأبدية، وكفى الإحسان شرفا أن البشرية جمعاء اتفقت على حبه ومدحه وأجمعت على كره ضده من كافة صنوف الإساءة، ولذلك أولى الإسلام الإحسان عناية بالغة وجعله أسمى هدف تصبو إليه نفوس العابدين، وهو طريق الوصول لمحبة الله تعالى ومعيته ورحمته، بل ورؤيته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، في جنة الخلد، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ومن أبلغ الأقوال في الإحسان قول من أوتي جوامع الكلم – صلى الله عليه وسلم-: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (البخاري ومسلم). ففي هذه الكلمات النبوية الجامعة من مقتضيات المراقبة والخشية والإنابة والإتقان والاتباع وصفاء السريرة .. ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. وقالوا أيضا في الإحسان: «فعل الخيرات على أكمل وجه». وقالوا : «تحسين الظاهر والباطن». وقالوا : «الإتيان بغاية ما يمكن من تحسين العمل المأمور به، ولا يترك شيئاً مما أمر به». وقالوا : «امتلاء القلب بحقيقة الألوهية كأنه يشاهد الله عياناً». وقالوا : «مراعاة الخشوع والخضوع». وبالجملة فالإحسان هو الذي خُلقنا من أجله، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثم بيّن الحكمة فقال تعالى : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك:2). فالإحسان ذروة الأعمال، وهو أن تقدم الفعل من غير عوض سابق، بل يساء إليك ولا يسعك إلا أن تقدم الإحسان، فكل إحسان يفعله العبد حتى فيمن لا يستحقون لابد أن يكافئه عليه الله تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60) ،فاصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن صادف أهله فهو أهله، وإن لم يصادف أهله فأنت أهله.
أيها المسلمون
وتأملوا معي هذا المعنى اللطيف الذي غُمِسَ هذا البيان الإلهي فيه، تأملوا هذا الخطاب الرباني المتحبب في قوله تعالى : (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) [الرحمن:60]، أي يا عبادي ها أنا قد أحسنت إليكم بنعمي عليكم، أفلا تحسنون إلي بطاعتكم لي ، والانفاق والاحسان إلى عبيدي من أجلي ؟! أليس جزاء الإحسان الهابط عليكم من علياء الربوبية ، إلا إحسان يعلو من تصرفات العبد إلى مولاه وخالقه! هلا أحسنتم إلي في مقابل إحساني إليكم! على أن هذا البيان المتحبب يغضي ويستر الحقيقة التي ينبغي أن نعلمها نحن من الذي قال: إن الله عز وجل عندما يحسن إلينا فنقابله بإحسان مثله من الذي قال أننا نحسن إليه؟ وهل الله بحاجة إلى أن نحسن إليه؟ وهل كان الله قبل أن يخلقنا محتاجاً إلى عباد يخلقهم ليحسنوا إليه! فهو المولى، وهو الغني ، وكل من عداً الله سبحانه وتعالى فقراء: ” {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر:15-16]، ولكنه التحبب يا عباد الله، ولو أننا تأملنا في هذا اللطف الرباني ونحن نتمتع بإنسانيتنا وقد عرفنا عبوديتنا وربوبية مولانا وخالقنا لذابت منا الحُشاشة ولذابت منا الأفئدة خجلاً من الله عز وجل إذ يقول لقد أحسنت إليكم أفلا تحسنون إلي، ولا شك أن العبد العالم بالحقيقة سيقول لمولاه وخالقه حاشاك يا رب، أنا أحسن إليك! ومن أنا حتى أحسن إليك، إن أحسنت مقابل إحسانك إلي فإن ثمرة ذلك تعود إليَّ أنا، عندما أحسن إليك فيما تأمرني به فإنما أحسن إلي (أنا ) في الواقع والحقيقة، فهذا مثل قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة:245]، أما العبد الذي عرف عبوديته وتوَّجها بمشاعر إنسانيته فلابد أن يذيبه هذا التلطف من مولاه وخالقه عز وجل ولابد أن يقول بلسان الحال أو بلسان القول: يا مولاي أنت ربي أنت المالك لذاتي وأنت المالك لما منحتني إياه فيا ربي أنت المالك للعبد وما في يده وها أنا ذا أعود بنفسي وبكل ما معي إليك، هكذا ينبغي أن يقول، وهذا هو ذات المنطق الذي نراه في قوله: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) [الرحمن:60]، فالله تعالى يقول لنا : لقد أحسنت إليكم بهطول الأمطار، أحسنت إليكم إذ أمرت الينابيع أن تتفجر فتفجرت، أحسنت إليكم بالمياه الغامرة التي تتلألأ ما بين الأشجار أفلا تحسنون إلي، ماذا قررتم في مواجهة هذا اللطف الرباني يا عباد الله،
أيها المسلمون
ومن صور الإحسان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه لما عاد عليه الصلاة والسلام من الطائف بعد أن آذوه وطردوه كما فعل به أهل مكة ،طلب من يأويه من أهل مكة فيمنعه من أذى قريش فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي: أدخل في جوارك ؟ فقال : نعم ، ودعا بنيه وقومه فقال : البسوا السلاح ، وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام،
فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى : يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا، فلا يهجه أحد منكم ، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه ، وصلى ركعتين ، وانصرف إلى بيته ،والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته. هذا الموقف وهذا الإحسان من رجل كافر لم يغب عنه عليه الصلاة والسلام ، فلما كانت وقعة بدر ووقع رجال قريش في الأسر فقد أُسر سبعون منهم ما أعظمها من غنيمة ونصر فقد كلم عليه الصلاة والسلام الصحابة في الأسرى فمن قائل بقتلهم كعمر ومن قائل بفديتهم كابي بكر ، لكنه عليه الصلاة والسلام قال وقد مال للفداء لو كان المطعم بن عدي حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له، وقد كان المطعم بن عدي مات قبل بدر وعمره فوق التسعين عاما .فهو يطلقهم لذلك الكافر من غير مقابل جزاء ذلك الموقف وذلك الإحسان ،وفي الصحيحين : (حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِىِّ – صلى الله عليه وسلم – فِى مَسِيرٍ ، فَأَدْلَجُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ عَرَّسُوا فَغَلَبَتْهُمْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ أَبُو بَكْرٍ ، وَكَانَ لاَ يُوقَظُ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – مِنْ مَنَامِهِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ فَقَعَدَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رَأْسِهِ فَجَعَلَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ ، حَتَّى اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وسلم – فَنَزَلَ وَصَلَّى بِنَا الْغَدَاةَ ، فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّ مَعَنَا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ « يَا فُلاَنُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَلِّىَ مَعَنَا » . قَالَ أَصَابَتْنِى جَنَابَةٌ . فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالصَّعِيدِ ، ثُمَّ صَلَّى وَجَعَلَنِى رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – فِى رَكُوبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَقَدْ عَطِشْنَا عَطَشًا شَدِيدًا فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ سَادِلَةٍ رِجْلَيْهَا بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ ، فَقُلْنَا لَهَا أَيْنَ الْمَاءُ فَقَالَتْ إِنَّهُ لاَ مَاءَ . فَقُلْنَا كَمْ بَيْنَ أَهْلِكِ وَبَيْنَ الْمَاءِ قَالَتْ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ . فَقُلْنَا انْطَلِقِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – . قَالَتْ وَمَا رَسُولُ اللَّهِ فَلَمْ نُمَلِّكْهَا مِنْ أَمْرِهَا حَتَّى اسْتَقْبَلْنَا بِهَا النَّبِىَّ – صلى الله عليه وسلم – ، فَحَدَّثَتْهُ بِمِثْلِ الَّذِى حَدَّثَتْنَا غَيْرَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا مُؤْتِمَةٌ ، فَأَمَرَ بِمَزَادَتَيْهَا فَمَسَحَ فِى الْعَزْلاَوَيْنِ ، فَشَرِبْنَا عِطَاشًا أَرْبَعِينَ رَجُلاً حَتَّى رَوِينَا ، فَمَلأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا وَإِدَاوَةٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا وَهْىَ تَكَادُ تَنِضُّ مِنَ الْمِلْءِ ثُمَّ قَالَ « هَاتُوا مَا عِنْدَكُمْ » . فَجُمِعَ لَهَا مِنَ الْكِسَرِ وَالتَّمْرِ ، حَتَّى أَتَتْ أَهْلَهَا قَالَتْ لَقِيتُ أَسْحَرَ النَّاسِ ، أَوْ هُوَ نَبِىٌّ كَمَا زَعَمُوا ، فَهَدَى اللَّهُ ذَاكَ الصِّرْمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَأَسْلَمَتْ وَأَسْلَمُوا . ) ،وفي سنن الدارقطني :(( فجعل خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير على من حولهم وهم آمنون، قال: فقالت المرأة لقومها: أي قوم، والله ما أرى هذا الرجل إلا قد شكر لكم ما أخذ من مائكم ألا ترون يغار على من حولكم وأنتم آمنون به لا يغار عليكم، هل لكم في خير؟ قالوا: وما هو؟ قالت: نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسلم، قال: فجاءت تسوق بثلاثين أهل بيت، حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا.)) ، فهو عليه الصلاة والسلام كافأها عندما أخذ الماء منها أن أرجع لها مائها كما كان ببركته عليه الصلاة والسلام وجمع لها من الكسر والتمر، وحفظ لقومها هذا الموقف فكان لا يغير عليهم إشارة منه لهم أنه يجازي بالإحسان إحسانا على مايظنون هم ويعرفون ،ولو غزاهم لكان محسنا إليهم بغزوهم غير مسيء ، لعلهم يُسلمون فيَسلمون. هكذا كان إحسانه مع الكافر ، فكيف يكون إحسانه مع المسلم؟
أيها المسلمون
ومن قصص الإحسان التي نستخلص منها الدروس والعبر ( قصة هذا العجوز الحكيم ) فقد جلس عجوز حكيم على ضفة نهر وفجأة لمح قطّاً وقع في الماء ، وأخذ القطّ يتخبّط ؛ محاولاً أن ينقذ نفسه من الغرق .قرر الرجل أن ينقذه
مدّ له يده فخربشه القطّ فسحب الرجل يده صارخاً من شدّة الألم ولكن لم تمض سوى دقيقة واحدة حتى مدّ يده ثانية لينقذه ،فخربشه القطّ ،فسحب يده مرة أخرى صارخاً من شدة الألم ، وبعد دقيقة راح يحاول للمرة الثالثة ! وعلى مقربة منه كان يجلس رجل آخر ويراقب ما يحدث ،فصرخ الرجل :أيها الحكيم ، لم تتعظ من المرة الأولى ولا من المرة الثانية ، وها أنت تحاول إنقاذه للمرة الثالثة ؟ لم يأبه الحكيم لتوبيخ الرجل ،وظل يحاول حتى نجح في إنقاذ القطّ ، ثم مشى الحكيم باتجاه ذلك الرجل وربت على كتفه قائلاً: يا بني : من طبع القطّ أن يخربش ومن طبعي أنا أن أُحبّ وأعطف . فلماذا تريدني أن أسمح لطبعه أن يتغلب على طبعي !؟ يا بني : عامل الناس بطبعك لا بطبعهم , مهما كانوا ومهما تعددت تصرفاتهم التي تجرحك وتؤلمك في بعض الأحيان، ولا تأبه لتلك الأصوات التي تعتلي طالبة منك أن تترك صفاتك الحسنة لمجرد أن الطرف الآخر لا يستحق تصرفك النبيل . عندما تعيش لتسعد الآخرين.. سيبعث الله لك من يعيش ليُسعدك . ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) .
أخي في الإسلام
“كن جميل الخلق تهواك القلوب “.فلا تندم على لحظات اسعدت بها أحداً حتى وإن لم يكن يستحق ذلك .. يقول ابن القيم : ” الدّين كله خُلق، فمن فاقك في الخلق فقد فاقك في الدّين” ، وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان؟ ، ويذكر أن رجلا يسمى ابن جدعان قال: خرجت في فصل الربيع، وإذا بي أرى إبلي سماناً، يكاد الربيع أن يفجر الحليب من ثديها، وكلما اقترب الحوار- ابن الناقة- من أمه درت عليه، وانهال الحليب منها لكثرة الخير والبركة،
فنظرت إلى ناقة من نياقي ابنها خلفها، وتذكرت جاراً لي له بنيات سبع فقير الحال، فقلت: والله لأتصدقن بهذه الناقة وولدها لجاري، والله يقول: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران 92]، وأحب حلالي هذه الناقة، يقول: فأخذتها وابنها، وطرقت الباب على الجار، وقلت خذها هدية مني لك، فرأيت الفرح في وجهه لا يدري ماذا يقول، فكان يشرب من لبنها ويحتطب على ظهرها، وينتظر وليدها يكبر ليبيعه، وجاءه منها خير عظيم. فلما انتهى الربيع وجاء الصيف بجفافه وقحطه، تشققت الأرض، وبدأ البدو يرتحلون يبحثون عن الماء في الدحول- والدحول هي حفر في الأرض توصل إلى محابس مائية أو أقبية مائية تحت الأرض، له فتحات فوق الأرض يعرفها البدو. يقول : فدخلت في هذا الدحل حتى أحضر الماء لنشرب- وأولاده الثلاثة خارج الدحل ينتظرون- فتاه تحت الأرض، ولم يعرف الخروج. وانتظر أبناؤه يوماً ويومين وثلاثة حتى يئسوا، قالوا: لعل ثعباناً لدغه ومات، أو لعله تاه تحت الأرض وهلك، وكانوا- عياذاً بالله- ينتظرون- هلاكه طمعاً في تقسيم المال والحلال، فذهبوا إلى البيت وقسموا وتذكروا أن أباهم قد أعطى ناقة لجارهم الفقير، فذهبوا إليه وقالوا له: أعد الناقة خيراً لك، وخذ هذا الجمل مكانها، وإلا سنسحبها عنوة الآن، ولن نعطيك شيئاً. قال: أشتكيكم إلى أبيكم. قالوا: اشتك إليه، فإنه قد مات! قال: مات!! كيف مات؟ وأين مات؟ ولِم لم أعلم بذلك؟ قالوا: دخل دحلاً في الصحراء ولم يخرج. قال: ناشدتكم الله اذهبوا بي إلى مكان الدحل، ثم خذوا الناقة، وافعلوا ما شئتم ولا أريد جملكم. فذهبوا به، فلما رأى المكان الذي دخل فيه صاحبه الوفي، ذهب وأحضر حبلاً، وأشعل شمعة، ثم ربط نفسه خارج الدحل، ونزل يزحف على قفاه حتى وصل إلى أماكن فيها يحبو، وأماكن فيها يزحف، وأماكن يتدحرج، ويشم رائحة الرطوبة تقترب، وإذا به يسمع أنين الرجل عند الماء، فأخذ يزحف تجاه الأنين في الظلام، ويتلمس الأرض، فوقعت يده على الطين، ثم وقعت يده على الرجل. فوضع يده على أنفاسه فإذا هو حي يتنفس بعد أسبوع، فقام وجره، وربط عينيه حتى لا تنبهر بضوء الشمس، ثم أخرجه معه خارج الدحل، ومرس له التمر وسقاه، وحمله على ظهره، وجاء به إلى داره، ودبت الحياة في الرجل من جديد، وأولاده لا يعلمون، فقال : أخبرني بالله عليك أسبوعاً كاملاً وأنت تحت الأرض ولم تمت، قال: سأحدثك حديثاً عجباً، لما نزلت ضعت، وتشعبت بي الطرق، فقلت: آوي إلى الماء الذي وصلت إليه، وأخذت أشرب منه، ولكن الجوع لا يرحم، فالماء لا يكفي. يقول : وبعد ثلاثة أيام، وقد أخذ الجوع مني كل مأخذ، وبينما أنا مستلق على قفاي، قد أسلمت وفوضت أمري إلى الله، وإذا بي أحس بدفء اللبن يتدفق على فمي. يقول: فاعتدلت في جلستي، وإذا بإناء في الظلام لا أراه، يقترب من فمي فأشرب حتى أرتوي، ثم يذهب، فأخذ يأتيني ثلاث مرات في اليوم. ولكنه منذ يومين انقطع ما أدري ما سبب انقطاعه؟
يقول: فقلت له: لو تعلم سبب انقطاعه لتعجبت، ظن أولادك أنك مت، وجاءوا إلي وسحبوا الناقة التي كان الله يسقيك منها، والمسلم في ظل صدقته. { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } الطلاق 2، 3
أيها المسلمون
واعلموا أن أعظم ثمرات الإحسان قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس:26) الحُسْنَى: أي البالغة الحسن في كل شيء، من جهة الكمال والجمال، وهي الجنة، وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة، ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك الإحسان من المناسبة، فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، جزاهم على ذلك العمل النظر إليه عياناً في الآخرة {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن:60) ،وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (المطففين:15) وقال تعالى {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم:31). فالإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة. فمن كان من أهل السعادة، عَمِل عَمَل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين. فهو طريقك وهدفك ومحل كدك ونصبك .. روى الطبراني عن أبي سلمة عن معاذ –رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: «اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وعند كل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر والعلانية بالعلانية» (حسن لغيره، الألباني).
الدعاء